ابراهيم الحربي
20 Feb 2013, 08:20 PM
http://www.ala7ebah.com/upload/attachment.php?attachmentid=2431&stc=1&d=1361382491
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات هامة لبحث قضية الامتناععن الإنعاش أو إيقاف أجهزة الإنعاش
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلهوصحبه أجمعين. أما بعد:
فلا شك أن صون النفس مقصد شرعي, وحاجة فطرية,فمتى أشكل على الناس مسألة تتعلّق بذلك وقعوا في الحرج, وذهبت الحيرة بهم كل مذهب. وإنّ أكثر القراراتحساسية في حياة المرء ما كان يترتب عليه نتائج خطيرة تتعلّق بحياة الإنسان, وقدقدّر الله لي الوقوف على بعض ما يتّخذ في المستشفيات – لاسيما في أقسام العنايةالمركزة - من قرارات مصيريّة تتعلّق بالعلاجات المساندة لحياة الإنسان عند تعرضها للخطر,ولمست ما يقع حيالها من اضطراب وحيرة, وما يثور عندها من إشكالات, وما يطرح منتساؤلات, استجدّت مع ما توفّر في زماننا من أجهزة معقّدة, وعلاجات متطوّرة, تُقدّمُ معالمراقبة المكثّفة للحالات الخطيرة المهدّدة بالموت, حتى تُنقذ وتتجاوز مرحلةالخطر.
لقد أدّى التطور العلمي المعرفي والتقني في مجالالعلاجات المساندة للحياة ( والتي تسمى في بعض البحوث وسائل الإنعاش ) إلى إنقاذ كثير من الحالات منالموت, إذ تقوم تلك العلاجات بتعويض الفشل الذي يحدث في بعض الأعضاء الحيوية في جسمالإنسان, أو تساعد على إعادة نشاط تلك الأعضاء, أو تدرأ عن الجسد أخطاراً قاتلة, أوتعوّض ما نقص من مواد أساسية ضرورية لحياة الجسد, إلى غير ذلك من الوظائف الحيويةالتي تؤدّيها تلك العلاجات وما يستعمل معها من أجهزة.
تعتبر هذه العلاجات اليوم أندر وأهمّ الوسائلالطبيّة التي يستفاد منها في إنقاذ حياة المرضى, إلاّ أنّ منهم من يكون قد وصل لمرحلةمتقدمة من المرض, ولا يرجى لهم في العادة أن يصحّوا, ويغلب على الظن بقائهم – إن عاشوا - في حالة صحيّةسيئة, لا يتمكنون معها من الاستغناء عن العلاجات المساندة للحياة, وتضّطرهملمعالجة الآلام والمشاق, إذ للتعرض لكثير من هذه الإجراءات العلاجية آثار جانبيةمزعجة, وتتطلب جراحات تجرى أو تدخلات عنيفة تمارس, وتتطلب البقاء في وضعيات متعبةتدوم في الغالب تكدّر عليهم وعلى أهليهم, مع صرف المبالغ الباهظة التي لا يقدرعليها إلا الأغنياء إن كان ذلك في مستشفى خاص, دون أن يرجى لهم تحسنٌ من تلك الحالة,فالبعض ينتهي به الحال إلى الموت في فترة قصيرة على الرغم من التعرض لهذهالتدخلات ومقاساة معاناتها, وآخرون يبقون مددا طويلة مع سوء حالتهم الصحية وضعف وعيهم.
لقد تداعى الأطباء والمختصون في أخلاقيات الطبوالقانونيون في دول الغرب وغيرها لحلّ مشكلة هذه الفئة من المرضى, وتنادوا إلى أهمية النظر في قرارات تتخذ معهذه الحالات, تهدف للحدّ من التدخلات التي لا تقدم لهذه الفئة من المرضى أي جدوىمعتبرة - في رأيهم - سوى المعاناة التي يلاقونها والتكاليف التي يبذلونها, معتأثر المصلحة العامة بشغلهم أماكن محدودة في هذه الأقسام الحساسة, حيث يؤدي شغلهابهم لحرمان من يُرجى برؤُهم من فرصة إنقاذ حياتهم إذا أصيبوا بما يستدعي تقديمالإنقاذ لهم, فاتّجه الطرح حول المسألة – عندهم - إلى تسويغ الحد من العلاجاتالمساندة للحياة عن طريق الامتناع ابتداءً أو الإيقاف في بعض العلاجات بعد البدء فيها,وأصبحت هذه الممارسة منتشرة ومقنّنة, بل أصبحت قرارات الحدّ من العلاج المساندللحياة تُتَّخذُ مبكراً من قبل الأصحّاء, حيث انتشرت في الغرب برامج تثقيفية تحثّالناس على ذلك, ليحدّد كل واحدٍ خياراتِه العلاجية مسبقا, حتى إذا وصل إلى مرحلة الاحتضارحيث لا يمكنه اتخاذ القرار بنفسه عُمِل بذلك الاختيار المسبق, فلا يَتعرَّضُ المريضلتدخلات ومعاناة لا يرغب فيها.
لقد تبيّن لي - من خلال معايشة الواقع والدراساتالطبية التي اطلعت عليها, ومن مقابلة بعض رؤساء العناية المركزة والأطباء المهتمين بهذه القضية - أنّالحدّ من العلاج أصبح ممارساً بشكل معتاد في كثير من المستشفيات في بلادنا, وهناكحاجة ملحة لشريحة واسعة من الناس لمعرفة أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة,حيث تشير بعض الدراسات إلى أنّ نسبة كبيرة من الوفيات التي تحدث في المستشفيات, يتخذ معها نوع منهذه القرارات.
ولدى بعض المستشفيات سياسة موحّدة للحد من العلاج, ولديها نماذجُ جاهزةٌ يحدّدفيها الأطبّاء الإجراءات التي يُمتنع من إجرائها للمريض, في حين لا توجد سياسةٌموحّدةٌ في مستشفيات أخرى, ويقوم الأطبّاء بالاتفاق فيما بينهم على الحدّ من بعضالإجراءات العلاجية أو إيقافها.
إن أكثر ما تعتمد عليه المستشفيات في بلادنا فيشأن الحدّ من بعض الإجراءات العلاجية للحالات المتدهورة الميئوس منها من غير المتوفين دماغيا, هيأحد الفتاوى الصادرة بهذا الشأن, والتي تمثّل أحد الآراء الموجودة عند العلماءالمعاصرين في ما عُرِفَ بمسألة الامتناع عن الإنعاش, وقد أَرجعَتْ تلك الفتوى إلىالأطباء اتخاذ قرارات الامتناع عن الإنعاش إذا رأوا أن الحالة غير صالحة له أو أنّالإنعاش ليس ذا جدوى بالنسبة لتلك الحالة.
إلا أن هذه الفتوى - والتي لم يبرز فيها بوضوح جانب الاستدلال والتعليل -لم تنه الحيرة والتساؤلات عن حكم الشرع في المسألة عند كثير من الأطباء والمرضىوأهليهم, وتبين لي عندما عايشت تفاصيل الواقع الطبي الذي تناولته الفتوى, وحاولتتخريج جزئيات هذا الواقع على الأصول والأحكام الفقهية في بحثي بمرحلة الماجستير تبيّن أنّ ذلك يتطلّب دراسة موسّعة تتناول القرارات من حيث أصلها ومن حيث ما يعرضلها من أمور خارجية تُأثِّرُ في حكمها, مع تعليل واضح ودقيق للأحكام, وعنايةبالتراث الفقهي في مسائله المشابهة والأصول والقواعد التي يمكن تخريج أحكام قراراتالعلاجات المساندة للحياة عليها.
لقد عكفت لمدة طويلة منذاهتمامي بهذه المسألة قبل سنوات على دراسة الفتاوى الصادرة وبعض القرارات من المجامع الفقهية والبحوثالمكتوبة في هذا الموضوع, ووجدت أنّ الجزء الأكبر من تلك الدراسات الشرعية لم يتناولصلب المسألة بشكل شمولي وعمق كاف, كما أنّ بعض الأسئلة والتوضيحات التي كتبهاالأطباء ينقصها توضيح بعض الجوانب المهمة في الواقع الطبي ربما ظنوا أن الفقيه لا يحتاجلمعرفتها, ولذلك قررت أن أكتب هذا المقال, وأضمنه مجموعة من المقدمات التي أرى أهميتهالمن يريد بحث هذه المسألة, وقد عجّلت في نشرها لما علمته من أن هناك بعض الباحثين يكتبون فيالمسألة بحوثا ليقدموها لأحد المجامع الفقهية, فرجوت أن يكون هذا المقال عونا لهمبإذن الله. وفيما يلي عرض لملاحظاتي علىقسمين: قسم يتضمن الملاحظات على البحوث السابقة والإشارة لبعض المسائل الفقهية التي يحتمل تخريج الحكمعليها, ويليه قسم أعرض فيه لملاحظات على توضيحات وأسئلة الأطباء بغرض إكمال النقصفي عرض الواقع وإشكالاته.
القسم الأول:الملاحظات على البحوث السابقة والإشارة لبعض المسائلالفقهية التي يحتمل تخريج الحكم عليها
لن أقوم هنا بعرض أسماءالدراسات والتعليق على كل منها على حدة, لأن الغرض هو تغطية جوانب النقص المشتركة وليس النقد الأكاديميالذي يستهدف إثبات الفرق بين خطة الطالب والدراسات السابقة وتسويغ إعادة بحثالمسألة من جديد. فأبرز تلك الملاحظات المشتركة في كثير من البحوث ما يلي:
1
انصبّ بعضها على معالجة مشكلة المرضى المتوفيندماغيا, وهي حالة لا يرجى برءُ صاحبها تنفرد بكون عامة الأطباء يعتبرون صاحبها ميّتاً حقيقةً - وكذلكنظر إليها جمع من الفقهاء - , إلاّ أنّ هذه الحالة لا تشكّل غير نسبة بسيطة من مجموع الحالات التييتجه الطبّ إلى اتخاذ القرارات التي تحدّ من التدخلات في حقّها, إذ غالبية من يجرىمعه ذلك هم من الأحياء الذين لا يرجى برؤهم, ونسبة المتوفين دماغيا في بعض الدراساتالتي أجريت على مجموعة كبيرة من وحدات العناية المركّزة ممن اتخذت معهم القراراتلم تتجاوز 15 % في أعلى الأحوال.
وهذا يعني أن تلك الدراسات تناولت جزءا بسيطا من الواقع يختلف عنأغلب ما يقع في حقيقته وأحكامه, ما يجعل تلك البحوث ضعيفة الصلة بأغلب ما يجري في الواقع الطبي.
وقد أشرت في بداية المقال إلىطبيعة الحالات التي تعرض لها الإشكالات. ويمكن للتوسع الرجوع لما كتبه د.ياسين محمد سعيد عرابي تحت عنوان ( الحالات غير القابلة للشفاء من وجهة نظر العنايةالمركزة ).ويمكن تنزيله من الرابط التالي:
2
يتصور بعض الباحثين أن المريض تحت العلاجاتالمساندة للحياة يموت بفصل الأجهزة وإيقاف العلاجات مباشرة, وهذا يتضح من قول بعضهم أن المريض يعيش بفعل تلك الأجهزة حياة غيرطبيعية أو آلية أو نحو ذلك. والحقيقة أن وظيفة الأجهزة أو العلاجات هي مساندة أعضاءالجسم الحيوية وليس تشغيل الجسم بطريقة ميكانيكية بحتة, ولذلك قد يعيش المريض بعدالإيقاف لفترة ولو قصيرة.
3
جميع الدراسات لم تُعنى بتفصيل ما تنصب عليهالقرارات من إجراءات علاجية, بل أجملتها تحت مسمّى الإنعاش ونظرت إليها نظرة مجملة, وبعضها اقتصر علىتناول الإنعاش القلبي الرئوي وحده, بينما العلاجات في حقيقتها متفاوتة في صفاتهاوآثار إعطائها ومنعها, والقرارات تتخذ إزاء بعضها دون البعض في كثير من الأحيان, وذلك ممايستدعي النظر الفقهي التفصيلي مراعاةً لآثار تلك الفروق في الأحكام. وسيأتي مزيدتفصيل لهذه النقطة في ثنايا بقية المقال.
4
كثير من الدراسات تقرّر المبادئ العامة والأحكاممن حيث الأصل, كتقرير حكم حفظ النفس وحكم التداوي من حيث الأصل وحكم الإنقاذ, ثم لا تجد الاهتمامبالاستثناءات من الحكم الأصلي, وقد يخرّج بعض العلاجات على الاستثناء لا الأصل.
5
الاكتفاء بتقرير حكم الإنقاذ أو التداوي دونتحرير حدود هذين المصطلحين, ولهذا التحرير أهمية تظهر عند دراسة حكم العلاجات المساندة للحياة, فقد يلحقبعضها بأحدهما إذا كان داخلة في حقيقته. كما أنّ في ثنايا تعليلات الفقهاء لعدم وجوبالتداوي إشارات هامّة كإشارة ابن تيمية رحمه الله لقضية تعيّن دفع الهلاك بسبب دونغيره وتأثيرها في الحكم بالوجوب, إلى غير ذلك مما أبرزته في بحثي للماجستير,فينبغي على الباحثين تأمل كلام الفقهاء كثيرا والإفادة منه في تخريج الفروع علىالأحكام التي تكلموا فيها.
6
توجه كثير من الدراسات إلى أصل أو حكم واحدوتخريج الفرع عليه, بدون نقد التخريجات الأخرى المحتملة.
7
كما تجد جانب التزيل على الواقع مختصرا ولايتناول الإشكالات التي ترد على تخريج الفروع على الأصل أو الحكم المختار, ( مثال: القول بحرمة الحد منأي شكل من أشكال الحد من العلاج المساند للحياة حتى يموت المريض, مع عدم بيانكيفية التصرف تجاه الكلفة المادية التي تصل للملايين سنويا للمريض الواحد إن كانالعلاج بمستشفى خاص, أو كيفية التصرف إذا أدى عدم الحد من العلاج إلى تكدسالمرضى الميئوس منهم - والمشرفين على الموت على أية حال - في أجنحة العناية المركزةبأجهزتها المحدودة, وبالتالي حرمان من هم أحوج ممن يمكن إنقاذهم مما يؤدي لوفاتهموهم بانتظار شغور مكان ).
8
تم الاقتصار في أكثر البحوث على تخريج الحكمعلى التداوي أو الإنقاذ. فاتجهت بعض البحوث لإيجاب تقديم ومواصلة كافة أشكال العلاج المساند للحياة فيكافة الظروف إلى إعلان الوفاة تخريحا على الحكم الأصلي للإنقاذ, في حين اتجهت أخرىإلى تعميم حكم التداوي من حيث الأصل عند جمهور الفقهاء - وهو عدم الوجوب - على كافةأشكال العلاج المساند للحياة في كافة الظروف أيضا. والحقيقة أنّ هناك عدد منالمسائل التي يحتمل أن يخرّج عليها حكم بعض العلاجات المساندة للحياة لم تتطرق إليهاالبحوث, ويبدو عدداً منها - على الأقل -أليق بأن تدرس المسألة في ضوءه, وذلك من عدةأوجه أبينها فيما يلي:
أ
كون تلك المسائل تمثل استثناءمن حكم التداوي من حيث الأصل ) مع كونها أشبه بالعلاجات المساندة للحياة أوبعضها. فمن أمثلة ما يمثّل استثناءً من حكم التداوي من حيث الأصل كلام الفقهاء فيوجوب التداوي إذا تيقن دفعه للهلاك عن المريض, وبعض المعاصرين ألحق به غلبة الظن.ومنها كلامهم في وجوب عَصْبُ الفصد والجرح اليسير. ومنها حسم يد السارق بعد قطعها,حيث أوجبها جمهور العلماء إلا الشافعية طردا لأصل عدم وجوب التداوي, إلاّ أنهمأوجبوها في نفس الصورة على الإمام إذا أُغمي على المقطوع وخُشي عليه الهلاك.
ب
وجود عنصر خارجي له أثّر محتمل في حكم الفرع الفقهي الشبيه, مع كونه هذا العنصربعينه أو قريب منه موجود في العلاج المساند للحياة الشبيه. ومن ذلك مسألة جراحةالقطع إذا كانت لدفع الهلاك, ومن صورها عند الفقهاء قطع البواسير إن خشي بها الهلاكوقطع الطرف الي أصابته الآكلة حفظا للنفس, فتعبيرات الفقهاء عن هاتين الصورتين تتضمنعبارات الإباحة لا الوجوب, وقد صرح بعدم وجوب قطع الآكلة في طرح التثريب(2/75). والعنصر الخارجي الذي أتلمّسه هنا أن في الجراحة إتلافا ومشقّة وإيلام عظيموآثار مزعجة, فقد يكون ذلك هوالصارف للفقهاء عن إيجاب هذا النوع من القطع, أو يكون الصارف احتمال تسبّب ذاتالجراحة في وفاة المريض أو تعجيلها فيقصد المريض إلى الفرار من ذلك. وتحديدالمؤثّر هنا من بين ما ذكر أو حتى من غيره مما قد يعرِض لذهن الفقيه المتأمّل مهمّةمهمّة. وقد يؤيّد كونَ المؤثّر في هذه الفروع هو المشقة والآلام العظيمة ما ظهرمن تأثيره عند بعض الفقهاء في فروع أخرى, حيث تكلّم الفقهاء في الانتقال من موتمتيقّن لآخر متيقّن, فنصّ بعض الفقهاء من المالكية والشافعية على جواز ذلك, ومنصوره إلقاء النفس من السفينة المحترقة, ومن الصور التي قد تشبهه عند الحنفية ما ذكرهالسرخسي في المبسوط من أن للمكره على قطع يده أو يقتله المُكرِه أن يقطعها, ولم يوجبذلك عليه في الظاهر. وفي نفس الموضع صورة عن إكراه الإنسان على قتل نفسه بالسيفأو يضرب بالسياط حتى الموت, وصور أخرى تستحق الدراسة. وفي بعض كتب الشافعية صورةلمن صلبه الحاكم بحيث يُقطع بموته عادة, فأجاز بعضهم - على خلاف عندهم - إذا طلبالمصلوب أن يقتله تخفيفا عليه وعدم تطويل للألم. وغير خاف أنّ هذه المسائل تشترك فيكون الموت متيقّناً, وهذا ما يصعب الجزم به في كثير من الصور. لكن المراد هنااعتبار قضية المشقة والآلام العظيمة خصوصا إذا انضمت إلى مؤثّرات أخرى قد توجد في نفسالصورة التي نريد أن نحكم عليها, فقد يكون لاقتران المؤثّرات فيها أثرا لايوجد عندالانفراد. وأنّبه هنا إلى أهمية خاصّة وجدتها في مسألة إلقاء النفس من السفينةالمحترقة, حيث أن الفقهاء بسطوا القول فيها أكثر وذكروا فيها تفصيلات وصور فرعيةونوّعوا في الحكم بعد التفريع, مما قد يفيد في تحرير المناطات المؤثّرة في مسائلنا.
ت
شبه تلك المسائل ببعض العلاجات المساندة للحياة دون بعض, فيشبه إحياء النفسأو الغير بالأكل والشرب – وهو ما أجمع الفقهاء على وجوهه - وضع أنابيب التغذيةوالتروية عن طريق الأنف والفم أو من جهة البطن. وربما يدخل في هذا الوجه تشبيه جهازالتنفس الصناعي في إنقاذه المريض الذي فشلت عنده وظيفة الرئة من الاختناق بإساغةاللقمة لمن غُصّ بها وهو ما أجمع الفقهاء على وجوبه. وغير خاف على الفقيه أن منوظيفته دراسة الشبه والفرق بين الأصل والفرع وتنقيح المناط حتى يكون الإلحاق صحيحا فيهذه المسائل, وأن مجرد الشبه في بعض الأوجه لا يوجب الإلحاق دوما, وليس كل ما تبدومناسبته لأن يكون مناطا يتحقق كونه مناطا.
القسم الثاني:الملاحظات على توضيحات وأسئلة الأطباء والهادفة لإكمال بعض النقصفي عرض الواقع وإشكالاته.
كما تقدّم أنّ هناك نقص في الأسئلة أو التوضيحاتالتي قدمت من قبل بعض الأطباء ليستعين بها الفقهاء على تصور الواقع, وهذا النقص لعلّه يرجع لعدم إدراك الطبيبأنّ بعض التفاصيل الطبية قد تؤثّر في حكم المسألة وفي تشبيه الفقهيه لها أو قياسهاعلى مسائل شبيهة في الفقه, وبالتالي قمت بالقراءة الموسعة – ولازلت أقوم بذلك ضمن بحثيللدكتوراة المعنون بـ ( قرارات العلاجات المساندة للحياة ) – في كثير من الدراسات الطبية,كما قمت بلقاء جمع من الأطباء من خلال زيارات ميدانية للواقع الطبي, وتبين لي إلىالآن ملاحظات أحسب أنّها هامّة, أذكرها ضمن المحاور التالية:
المحور الأول: تصوير العلاجات المساندة للحياة.
إضافة لما ذكرته من أن ظن الطبيب بأن بعض التفاصيلالطبية لا تؤثّر في الأحكام الفقهية يؤدي لإهمال توضيح تلك التفاصيل للفقهاء, كذلك ظن بعض الأطباء -خصوصا من لديه اطلاع فقهي - بأن مسائل هذا الموضوع مرتبطة بما ذكره الفقهاء في حكمالتداوي فقط, ذلك الظن يؤدي للاكتفاء بالعرض المجمل للعلاجات المساندة للحياة معإهمال توضيح ما بينها من فروق قد تؤثّر في الحكم الفقهي وتستدعي التفصيل حسب تلكالفروق. وإذا وضعنا في الاعتبار وجود مجموعة من المسائل الفقهية المشابهة يتبين من خلالاستقرائها وجود شبه قوي بينها وبين بعض العلاجات المساندة للحياة, مع تنوّعالحكم الشرعي الذي يذكره الفقهاء في تلك المسائل المشابهة, أقول: لو وضعنا ذلكفي الاعتبار لأدركنا أنه يستدعي مراعاة التنوع في حكم تلك المسائل عند إصدارالحكم على العلاجات المساندة للحياة, وذلك حسب وجود المناط الموجب للإلحاق أو قوةالشبه, وهو ما لا يمكن حصوله من الفقيه إلا إذا أدرك تنوع تلك العلاجات المساندةللحياة – طبيا - بما يمكنه من التفصيل في حكمها.
نجد في أسئلة بعض الأطباء – وفقهم الله - تركيزاعلى نوع واحد من العلاجات المساندة للحياة - وهو الإنعاش القلبي الرئوي, فهو الذي حظي بالقدر الأكبر منالشرح وربط الإشكالات به, ولا شك أن هذا النوع هو أهمّ ما يتوجه له قرار الحد من العلاجالمساند للحياة, ولكنّه ليس الوحيد قطعا, وافتراض كون بقية العلاجات تأخذ نفس الحكملاشتراكها مع هذا النوع في أنها تؤدي لإنقاذ المريض محل نظر, فالتفاوت حاصل في غيرهذا المشترك, وهذا التفاوت يبرز في عدة صفات,لعلّ أهمها – مما أحسب أنّه قد يؤثر في الحكم الشرعي – ما يلي:
1
تفاوت نسبة نجاح هذه العلاجات في إنقاذ المريض, حيث يعتبر الإنعاش القلبي الرئوي ذا نسبة نجاح منخفضة,بينما ترتفع نسبة نجاح علاجات مساندة للحياة أخرى يجري إيقافها أو الامتناع عنها,كروافع الضغط مثلا, وجهاز التنفس الصناعي في بعض الحالات, وغسيل الكلي, وغير ذلك.ومعلوم أن كثير من الفقهاء أوجب التداوي المنقذ للحياة عند ارتفاع نسبة نجاحه بمايورث اليقين أو الظن الغالب, وذلك كحسم يد السارق بعد قطعها أو عصب الجرح النازف.
2
اتصاف بعض العلاجات بالشدة والعنف والتسبب في الآلام والمشاق العظيمة.
فالإنعاش القلبي الرئوي – مثلا -معروف بشدته حتى أنه قد يتسبب في تكسير أضلاع المريض بل ووفاته أحيانا, بينما لايتطلب رفع الضغط – أحيانا - سوى إدراج محلول معين ضمن التغذية الوريدية. ونجدمن الفقهاء من ينصّ على إباحة قطع الطرف المصاب بالآكلة بينما يوجبون إساغة اللقمةلمن غصّ بها وعصب الجرح النازف.
3
نتيجة للفرق السابق قد يتسبب بعض العلاجات دون بعض في الوفاة العاجلة أثناء القيانم به بدلا أن ينقذالمريض. مثال ذلك الجراحات الإنقاذية والإنعاش القلبي الرئوي حيث يمكن مع الضغطالشديد أن تتكسر الأضلع وتصيب القلب فتؤدّي للوفاة. وقد يكون لترك العلاج بقصد الفرارمن الوفاة العاجلة – وإن كانت أقل حدوثا - نظرة فقهية مختلفة عن تركه لمقاصدأخرى تتصوّر في بعض العلاجات دون بعض.
4
تتنوع العلاجات المساندة للحياة من حيث آثارها الجانبية المضرة للمريض, فبعضها لا يكاد يكون له أثريذكر, والآخر قد يتسبب في التهابات ومضاعفات مرضية أخرى. وقد يتكون لترك العلاج بقصدالفرار من بعض الآثار المضرة نظرة فقهية مختلفة عن تركه لمقاصد أخرى تتصوّر في بعضالعلاجات دون بعض.
5
تتفردّ بعض العلاجات المساندة للحياة بصفات قد تؤثّر في نظر الفقيه لتكييفها الفقهي فتخرج عن حكم التداويالأصلي ( عدم الوجوب من حيث الأصل إلا في حالات استثنائية ), فمثلا التغذيةوالتروية عن طريق الوريد وتقديم الأكسجين عبر التنفس الصناعي يمكن تخريجه على حكمالأكل والشرب والتنفس باعتبار هذه العلاجات تعويضا عن تلك الوظائف, وغسيل الكلييعتبر تعويضا عن وظيفة تخلّص الجسم من السموم, ونقل الدم ومكوناته الأساسية عند فقدانالمريض لذلك يشبه عصب الجرح النازف لمنع نزف الدم, بينما يصعب تكييف المضاداتالحيوية والجراحات الإنقاذية وروافع الضغط ومنشطات القلب على نحو يخرجها عن تكييفالتداوي. واختلاف التكييف مهمّ لأن الحكم الأصلي المستصحب يتغيّر عند النظر في كل علاجبمفرده تبعا لتكييفه, مع مراعاة مناطات أخرى قد تكون مؤثرة في الحكم.
المحور الثاني: مصطلحات طبيّة تحتاج توضيح.
جدوى العلاج
حيث هي مرتبطة بجودة الحياة أحيانا, فيرىالطبيب أن العلاج غير مجدي ليس لأنه لا ينقذ المريض ولكن لأن المريض لن يرجع لحالة صحية جيدة تساوي – في نظره –الجهد المبذول والمشقة المحتملة والتكاليف من هذه الحياة على المريض وأوليائهوالطاقم الطبي, فيجب أن ينتبه لتحرير المقصود بعدم الجدوى في رأي الأطباء وعدمالاعتقاد بأن عدم الجدوى معناه أن العلاج لن ينقذ المريض. علما بأن بعضالدراسات الغربية أثبتت أن نسبة كبيرة من المرضى يرون أن علاجهم كان ذا جدوى رغم رأيالأطباء بأنّه ليس كذلك, والدراسات موجودة عندي وقد أشرت لها في بحثي للماجستير والذي تطرقتفي آخره لهذه المسألة ( الفصل الأخير بعنوان ( أثر رجاء البرء من المرض في أحكامالتداوي ) من بحثي بعنوان ( أثر رجاء البرء من المرض في غير العبادات )).
إجراء الإنعاش المحدود
حيث يحصره بعض الأطباء في عدم إجراء الإنعاشالرئوي والتنفس الصناعي والإدخال للعناية, والواقع الطبي لا ينحصر في ذلك, بل يوجد في النماذج المعتمدةالتي يتخذ فيها قرار الامتناع عن الإنعاش تفصيل وذكر لأنواع مختلفة من العلاجات,ويسوغ للجنة الأطباء – حسب سياسات كثير من المستشفيات - الامتناع عن أي منها دون الآخر حسب ما يرونهموافقا لسياسة المستشفى المستمدة من بعض الفتاوى وأخلاقيات الطب, وأهم هذهالأنواع ما يلي:
الإنعاش القلبي الرئوي - التنفس الصناعي - الأدوية التي ترفع الضغط والتي تنشط القلب - التدخل الجراحي الإنقاذي - التغذية والتروية بالماء بطرق صناعية ( لا سيما في الغرب ) - نقل الدم أو بعض المكونات الأساسية للدم - غسيل الكلي – المضادات الحيوية.
وقد سبقت الإشارة إلى وجود فروق بين هذه العلاجاتقد تكون مؤثرة فقهيا. والأطباء بحاجة لفهم ما يحتاجه الفقهاء من معلومات تعينهم على النظر في هذهالعلاجات وإنزال الحكم المناسب عليها, ويحتاج ذلك لتفرّغ من الطبيب لأن الواضح منتجربتي أن بعض المعلومات ليست شائعة أو يمكن الوصول لها بسهولة لأسباب لا مجاللتفصيلها هنا.
المحور الثالث: إشكالات هامةلا تُطرح أحيانا.
أحيانا لا يتم التفريق بين الامتناع والإيقاففي الأسئلة بشكل واضح, والدراسات الطبية تفرّق بين النوعين, حيث يمتنع عن العلاج قبل البدأ به, ويوقفبسحبه من المريض بعد البدأ, ونظرا لوجود فعل إيجابي في السحب يكون أثره - في الغالب أو يقينا فيبعض الحالات - موت المريض؛ فإن الناحيةالفقهية قد تتأثر هنا عندما ننظر للإيقاف بانفراد عن الامتناع. وأما عدم تفريق الدراسات الأخلاقيةوالقانونية الغربية بين النوعين فليس معناه أن الشريعة لا تفرق, والمسألة بحاجة لبحثعميق.كما تبقت أن هناك بعض الأسئلة الهامة تستحق أن تطرح ضمن هذا الموضوع:
1
إذا كان التنويم بمستشفى خاص ووصلت التكلفة لمئتي ألف ريال أو أكثر بالشهر, ولملايين في السنة, هل يسوغالامتناع أو الإيقاف لمشقة التكاليف على أهل المريض, ما هو الحد أو الضابط الذييجيز لهم ذلك, هل يلزمهم الخروجمن كل أموالهم أو إلى حد معين؟ هل تلزم الاستدانة؟
2
يقع تزاحم على بعض الأجهزة المنقذة للحياة والتي لا تتوفر بكثرةبالمستشفيات, هل يسوغ الامتناع عن تركيب الأجهزة لمن لا يرجى برئهم من الحالات التينتكلّم عنها, بهدف توفير تلك الأجهزة لكي تستعمل مع من يحتاجونها أكثر بحكمإمكانية إنقاذهم ورجوعهم لحياة طبيعية بعد الإنقاذ؟ ما الحكم إذا وصلت الحالة التي لايرجى برئها قبل ولكن الأطباء لا يريدون إشغال الأجهزة بها, فيمتنعون عن ذلك لكي يتسنىلهم علاج من يأتي يوميا من الحالات التي يؤدي حرمانها للوفاة مع كونها مرجوةالبرء.
3
هل يسوغ إيقاف الجهاز ولو توفى المريض لإنقاذ من هو أحوج ممن يرجىإنقاذهم وبرؤهم؟ هل يتغير الحكم إذا تتابع وصول الحالات المرجوة وأخذت تموتواحدةً واحدة بسبب انشغال الجهاز بواحد سيموت على أية حال لسوء حالته, ولا يرجى له برء أو طول حياة. هل يتغير الحكم إذا كان الهدف مراعاةمن سيأتي مع عدم وجوده حالا ( التزاحم المتوقع) ؟
4
إذا كانت الحالة مستقرّة ولكنها غير مرجوة البرء ويظل صاحبها فيغيبوبة لمدد طويلة قد تصل لسنوات دون أن ترجى إفاقته في الغالب, فهل يسوغ ذلكالامتناع عن بعض العلاجات المنقذة بهدف تسهيل الوفاة؟ وهل يختلف الحكم إذا كانت مراكزالإحساس في المخ تعطلت ولا وعي للمريض وإن لم يمت دماغيا ( الحالة النباتية)؟ (الموت دماغيا بحث كثيرا ).
المحور الرابع: تطبيقات خاطئة في بعض المستشفيات يجب التنبيه عليها.
الواقع أن بعض المستشفيات بمجرد ما يوقعالأطباء قرار الامتناع عن الإنعاش يدخل المريض في دائرة الإهمال وربما يترك يموت اختناقا بالإفرازات المخاطيةبحجة أنّه ممنوع من الإنعاش, وهذا غير مقبول طبيّاً ويجب التأكيد عليه في الفتاوى وتوصيات الأبحاثخصوصا ما اتجه منها إلى إجازة الامتناع عن العلاجات المساندة للحياة, فيؤكد على أنيكون الامتناع منحصرا في علاجات معينة بعد الدراسة الفقهية لحكم ذلك, وتبقى بقيةالعلاجات الإنقاذية أو غيرها من أوجه الرعاية الصحية على الأصل وهو وجوبتقديمها للمريض.
كما أن بعض المستشفيات لا يخبر أهل المريضبقرار الامتناع ويتم تنفيذه دون علمهم. وهذه النقطة تنبني على تحديد دور أولياء المريض ومدى حقهم فيالقرار وحدود ذلك شرعا.
طريقة مقترحة لدراسة الموضوعات:
يمكن تقسيم الموضوع لمحورين كما يلي:
المحور الأول: حكم الامتناع عن العلاجات المساندة للحياة- ( الإنعاشالقلبي الرئوي وبقية العلاجات المساندة الأخرى ) -وحكم إيقافها بعد البدء فيها للمريض الذي لا ترجى حياته والميئوس منه-(تنبيه: إدخالالميئوس منه ولو رجيت حياته مهم, لتشمل الحالات النباتية والإغماءالطويل وهي محلإشكال في المستشفيات ).
· عناصر:
أ
الحكم من حيث الأصل
1
بالنسبة للمريض للمريض وأوليائه
2
بالنسبة للطبيب
ب
أثر تزاحم المرضى في الحكم.
المحور الثاني: دور أولياء المريض في اتخاذ قرار الحد من العلاجات المساندة للحياة.
· عناصر:
1
حدوده
2
تحديد المنوط بهم هذا الدور
3
مدى لزومه للأطباء
4
أثر تكلفة العلاج الباهظة على حكم قرار أولياء المريض.
هذا ما تيسّر ذكره مما رأيته لم يحظ بالعناية في الدراسات الفقهية السابقة والكتابات الطبية التي قصدتلبيان واقع المسألة للفقهاء.
وأتمنى ممن لديه نقد أو تعقيب أو فائدة حول ماكتب أو حول المسألة عموما أن يدلي بدلوه دون أدنى تردد.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد.
رابط تحميل الفصل السابع ( أثررجاء البرء من المرض وعدمه في أحكام التداوي ) من بحثي للماجستير ( أثررجاء البرء من المرض في غير العبادات ) :
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمات هامة لبحث قضية الامتناععن الإنعاش أو إيقاف أجهزة الإنعاش
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آلهوصحبه أجمعين. أما بعد:
فلا شك أن صون النفس مقصد شرعي, وحاجة فطرية,فمتى أشكل على الناس مسألة تتعلّق بذلك وقعوا في الحرج, وذهبت الحيرة بهم كل مذهب. وإنّ أكثر القراراتحساسية في حياة المرء ما كان يترتب عليه نتائج خطيرة تتعلّق بحياة الإنسان, وقدقدّر الله لي الوقوف على بعض ما يتّخذ في المستشفيات – لاسيما في أقسام العنايةالمركزة - من قرارات مصيريّة تتعلّق بالعلاجات المساندة لحياة الإنسان عند تعرضها للخطر,ولمست ما يقع حيالها من اضطراب وحيرة, وما يثور عندها من إشكالات, وما يطرح منتساؤلات, استجدّت مع ما توفّر في زماننا من أجهزة معقّدة, وعلاجات متطوّرة, تُقدّمُ معالمراقبة المكثّفة للحالات الخطيرة المهدّدة بالموت, حتى تُنقذ وتتجاوز مرحلةالخطر.
لقد أدّى التطور العلمي المعرفي والتقني في مجالالعلاجات المساندة للحياة ( والتي تسمى في بعض البحوث وسائل الإنعاش ) إلى إنقاذ كثير من الحالات منالموت, إذ تقوم تلك العلاجات بتعويض الفشل الذي يحدث في بعض الأعضاء الحيوية في جسمالإنسان, أو تساعد على إعادة نشاط تلك الأعضاء, أو تدرأ عن الجسد أخطاراً قاتلة, أوتعوّض ما نقص من مواد أساسية ضرورية لحياة الجسد, إلى غير ذلك من الوظائف الحيويةالتي تؤدّيها تلك العلاجات وما يستعمل معها من أجهزة.
تعتبر هذه العلاجات اليوم أندر وأهمّ الوسائلالطبيّة التي يستفاد منها في إنقاذ حياة المرضى, إلاّ أنّ منهم من يكون قد وصل لمرحلةمتقدمة من المرض, ولا يرجى لهم في العادة أن يصحّوا, ويغلب على الظن بقائهم – إن عاشوا - في حالة صحيّةسيئة, لا يتمكنون معها من الاستغناء عن العلاجات المساندة للحياة, وتضّطرهملمعالجة الآلام والمشاق, إذ للتعرض لكثير من هذه الإجراءات العلاجية آثار جانبيةمزعجة, وتتطلب جراحات تجرى أو تدخلات عنيفة تمارس, وتتطلب البقاء في وضعيات متعبةتدوم في الغالب تكدّر عليهم وعلى أهليهم, مع صرف المبالغ الباهظة التي لا يقدرعليها إلا الأغنياء إن كان ذلك في مستشفى خاص, دون أن يرجى لهم تحسنٌ من تلك الحالة,فالبعض ينتهي به الحال إلى الموت في فترة قصيرة على الرغم من التعرض لهذهالتدخلات ومقاساة معاناتها, وآخرون يبقون مددا طويلة مع سوء حالتهم الصحية وضعف وعيهم.
لقد تداعى الأطباء والمختصون في أخلاقيات الطبوالقانونيون في دول الغرب وغيرها لحلّ مشكلة هذه الفئة من المرضى, وتنادوا إلى أهمية النظر في قرارات تتخذ معهذه الحالات, تهدف للحدّ من التدخلات التي لا تقدم لهذه الفئة من المرضى أي جدوىمعتبرة - في رأيهم - سوى المعاناة التي يلاقونها والتكاليف التي يبذلونها, معتأثر المصلحة العامة بشغلهم أماكن محدودة في هذه الأقسام الحساسة, حيث يؤدي شغلهابهم لحرمان من يُرجى برؤُهم من فرصة إنقاذ حياتهم إذا أصيبوا بما يستدعي تقديمالإنقاذ لهم, فاتّجه الطرح حول المسألة – عندهم - إلى تسويغ الحد من العلاجاتالمساندة للحياة عن طريق الامتناع ابتداءً أو الإيقاف في بعض العلاجات بعد البدء فيها,وأصبحت هذه الممارسة منتشرة ومقنّنة, بل أصبحت قرارات الحدّ من العلاج المساندللحياة تُتَّخذُ مبكراً من قبل الأصحّاء, حيث انتشرت في الغرب برامج تثقيفية تحثّالناس على ذلك, ليحدّد كل واحدٍ خياراتِه العلاجية مسبقا, حتى إذا وصل إلى مرحلة الاحتضارحيث لا يمكنه اتخاذ القرار بنفسه عُمِل بذلك الاختيار المسبق, فلا يَتعرَّضُ المريضلتدخلات ومعاناة لا يرغب فيها.
لقد تبيّن لي - من خلال معايشة الواقع والدراساتالطبية التي اطلعت عليها, ومن مقابلة بعض رؤساء العناية المركزة والأطباء المهتمين بهذه القضية - أنّالحدّ من العلاج أصبح ممارساً بشكل معتاد في كثير من المستشفيات في بلادنا, وهناكحاجة ملحة لشريحة واسعة من الناس لمعرفة أحكام قرارات العلاجات المساندة للحياة,حيث تشير بعض الدراسات إلى أنّ نسبة كبيرة من الوفيات التي تحدث في المستشفيات, يتخذ معها نوع منهذه القرارات.
ولدى بعض المستشفيات سياسة موحّدة للحد من العلاج, ولديها نماذجُ جاهزةٌ يحدّدفيها الأطبّاء الإجراءات التي يُمتنع من إجرائها للمريض, في حين لا توجد سياسةٌموحّدةٌ في مستشفيات أخرى, ويقوم الأطبّاء بالاتفاق فيما بينهم على الحدّ من بعضالإجراءات العلاجية أو إيقافها.
إن أكثر ما تعتمد عليه المستشفيات في بلادنا فيشأن الحدّ من بعض الإجراءات العلاجية للحالات المتدهورة الميئوس منها من غير المتوفين دماغيا, هيأحد الفتاوى الصادرة بهذا الشأن, والتي تمثّل أحد الآراء الموجودة عند العلماءالمعاصرين في ما عُرِفَ بمسألة الامتناع عن الإنعاش, وقد أَرجعَتْ تلك الفتوى إلىالأطباء اتخاذ قرارات الامتناع عن الإنعاش إذا رأوا أن الحالة غير صالحة له أو أنّالإنعاش ليس ذا جدوى بالنسبة لتلك الحالة.
إلا أن هذه الفتوى - والتي لم يبرز فيها بوضوح جانب الاستدلال والتعليل -لم تنه الحيرة والتساؤلات عن حكم الشرع في المسألة عند كثير من الأطباء والمرضىوأهليهم, وتبين لي عندما عايشت تفاصيل الواقع الطبي الذي تناولته الفتوى, وحاولتتخريج جزئيات هذا الواقع على الأصول والأحكام الفقهية في بحثي بمرحلة الماجستير تبيّن أنّ ذلك يتطلّب دراسة موسّعة تتناول القرارات من حيث أصلها ومن حيث ما يعرضلها من أمور خارجية تُأثِّرُ في حكمها, مع تعليل واضح ودقيق للأحكام, وعنايةبالتراث الفقهي في مسائله المشابهة والأصول والقواعد التي يمكن تخريج أحكام قراراتالعلاجات المساندة للحياة عليها.
لقد عكفت لمدة طويلة منذاهتمامي بهذه المسألة قبل سنوات على دراسة الفتاوى الصادرة وبعض القرارات من المجامع الفقهية والبحوثالمكتوبة في هذا الموضوع, ووجدت أنّ الجزء الأكبر من تلك الدراسات الشرعية لم يتناولصلب المسألة بشكل شمولي وعمق كاف, كما أنّ بعض الأسئلة والتوضيحات التي كتبهاالأطباء ينقصها توضيح بعض الجوانب المهمة في الواقع الطبي ربما ظنوا أن الفقيه لا يحتاجلمعرفتها, ولذلك قررت أن أكتب هذا المقال, وأضمنه مجموعة من المقدمات التي أرى أهميتهالمن يريد بحث هذه المسألة, وقد عجّلت في نشرها لما علمته من أن هناك بعض الباحثين يكتبون فيالمسألة بحوثا ليقدموها لأحد المجامع الفقهية, فرجوت أن يكون هذا المقال عونا لهمبإذن الله. وفيما يلي عرض لملاحظاتي علىقسمين: قسم يتضمن الملاحظات على البحوث السابقة والإشارة لبعض المسائل الفقهية التي يحتمل تخريج الحكمعليها, ويليه قسم أعرض فيه لملاحظات على توضيحات وأسئلة الأطباء بغرض إكمال النقصفي عرض الواقع وإشكالاته.
القسم الأول:الملاحظات على البحوث السابقة والإشارة لبعض المسائلالفقهية التي يحتمل تخريج الحكم عليها
لن أقوم هنا بعرض أسماءالدراسات والتعليق على كل منها على حدة, لأن الغرض هو تغطية جوانب النقص المشتركة وليس النقد الأكاديميالذي يستهدف إثبات الفرق بين خطة الطالب والدراسات السابقة وتسويغ إعادة بحثالمسألة من جديد. فأبرز تلك الملاحظات المشتركة في كثير من البحوث ما يلي:
1
انصبّ بعضها على معالجة مشكلة المرضى المتوفيندماغيا, وهي حالة لا يرجى برءُ صاحبها تنفرد بكون عامة الأطباء يعتبرون صاحبها ميّتاً حقيقةً - وكذلكنظر إليها جمع من الفقهاء - , إلاّ أنّ هذه الحالة لا تشكّل غير نسبة بسيطة من مجموع الحالات التييتجه الطبّ إلى اتخاذ القرارات التي تحدّ من التدخلات في حقّها, إذ غالبية من يجرىمعه ذلك هم من الأحياء الذين لا يرجى برؤهم, ونسبة المتوفين دماغيا في بعض الدراساتالتي أجريت على مجموعة كبيرة من وحدات العناية المركّزة ممن اتخذت معهم القراراتلم تتجاوز 15 % في أعلى الأحوال.
وهذا يعني أن تلك الدراسات تناولت جزءا بسيطا من الواقع يختلف عنأغلب ما يقع في حقيقته وأحكامه, ما يجعل تلك البحوث ضعيفة الصلة بأغلب ما يجري في الواقع الطبي.
وقد أشرت في بداية المقال إلىطبيعة الحالات التي تعرض لها الإشكالات. ويمكن للتوسع الرجوع لما كتبه د.ياسين محمد سعيد عرابي تحت عنوان ( الحالات غير القابلة للشفاء من وجهة نظر العنايةالمركزة ).ويمكن تنزيله من الرابط التالي:
2
يتصور بعض الباحثين أن المريض تحت العلاجاتالمساندة للحياة يموت بفصل الأجهزة وإيقاف العلاجات مباشرة, وهذا يتضح من قول بعضهم أن المريض يعيش بفعل تلك الأجهزة حياة غيرطبيعية أو آلية أو نحو ذلك. والحقيقة أن وظيفة الأجهزة أو العلاجات هي مساندة أعضاءالجسم الحيوية وليس تشغيل الجسم بطريقة ميكانيكية بحتة, ولذلك قد يعيش المريض بعدالإيقاف لفترة ولو قصيرة.
3
جميع الدراسات لم تُعنى بتفصيل ما تنصب عليهالقرارات من إجراءات علاجية, بل أجملتها تحت مسمّى الإنعاش ونظرت إليها نظرة مجملة, وبعضها اقتصر علىتناول الإنعاش القلبي الرئوي وحده, بينما العلاجات في حقيقتها متفاوتة في صفاتهاوآثار إعطائها ومنعها, والقرارات تتخذ إزاء بعضها دون البعض في كثير من الأحيان, وذلك ممايستدعي النظر الفقهي التفصيلي مراعاةً لآثار تلك الفروق في الأحكام. وسيأتي مزيدتفصيل لهذه النقطة في ثنايا بقية المقال.
4
كثير من الدراسات تقرّر المبادئ العامة والأحكاممن حيث الأصل, كتقرير حكم حفظ النفس وحكم التداوي من حيث الأصل وحكم الإنقاذ, ثم لا تجد الاهتمامبالاستثناءات من الحكم الأصلي, وقد يخرّج بعض العلاجات على الاستثناء لا الأصل.
5
الاكتفاء بتقرير حكم الإنقاذ أو التداوي دونتحرير حدود هذين المصطلحين, ولهذا التحرير أهمية تظهر عند دراسة حكم العلاجات المساندة للحياة, فقد يلحقبعضها بأحدهما إذا كان داخلة في حقيقته. كما أنّ في ثنايا تعليلات الفقهاء لعدم وجوبالتداوي إشارات هامّة كإشارة ابن تيمية رحمه الله لقضية تعيّن دفع الهلاك بسبب دونغيره وتأثيرها في الحكم بالوجوب, إلى غير ذلك مما أبرزته في بحثي للماجستير,فينبغي على الباحثين تأمل كلام الفقهاء كثيرا والإفادة منه في تخريج الفروع علىالأحكام التي تكلموا فيها.
6
توجه كثير من الدراسات إلى أصل أو حكم واحدوتخريج الفرع عليه, بدون نقد التخريجات الأخرى المحتملة.
7
كما تجد جانب التزيل على الواقع مختصرا ولايتناول الإشكالات التي ترد على تخريج الفروع على الأصل أو الحكم المختار, ( مثال: القول بحرمة الحد منأي شكل من أشكال الحد من العلاج المساند للحياة حتى يموت المريض, مع عدم بيانكيفية التصرف تجاه الكلفة المادية التي تصل للملايين سنويا للمريض الواحد إن كانالعلاج بمستشفى خاص, أو كيفية التصرف إذا أدى عدم الحد من العلاج إلى تكدسالمرضى الميئوس منهم - والمشرفين على الموت على أية حال - في أجنحة العناية المركزةبأجهزتها المحدودة, وبالتالي حرمان من هم أحوج ممن يمكن إنقاذهم مما يؤدي لوفاتهموهم بانتظار شغور مكان ).
8
تم الاقتصار في أكثر البحوث على تخريج الحكمعلى التداوي أو الإنقاذ. فاتجهت بعض البحوث لإيجاب تقديم ومواصلة كافة أشكال العلاج المساند للحياة فيكافة الظروف إلى إعلان الوفاة تخريحا على الحكم الأصلي للإنقاذ, في حين اتجهت أخرىإلى تعميم حكم التداوي من حيث الأصل عند جمهور الفقهاء - وهو عدم الوجوب - على كافةأشكال العلاج المساند للحياة في كافة الظروف أيضا. والحقيقة أنّ هناك عدد منالمسائل التي يحتمل أن يخرّج عليها حكم بعض العلاجات المساندة للحياة لم تتطرق إليهاالبحوث, ويبدو عدداً منها - على الأقل -أليق بأن تدرس المسألة في ضوءه, وذلك من عدةأوجه أبينها فيما يلي:
أ
كون تلك المسائل تمثل استثناءمن حكم التداوي من حيث الأصل ) مع كونها أشبه بالعلاجات المساندة للحياة أوبعضها. فمن أمثلة ما يمثّل استثناءً من حكم التداوي من حيث الأصل كلام الفقهاء فيوجوب التداوي إذا تيقن دفعه للهلاك عن المريض, وبعض المعاصرين ألحق به غلبة الظن.ومنها كلامهم في وجوب عَصْبُ الفصد والجرح اليسير. ومنها حسم يد السارق بعد قطعها,حيث أوجبها جمهور العلماء إلا الشافعية طردا لأصل عدم وجوب التداوي, إلاّ أنهمأوجبوها في نفس الصورة على الإمام إذا أُغمي على المقطوع وخُشي عليه الهلاك.
ب
وجود عنصر خارجي له أثّر محتمل في حكم الفرع الفقهي الشبيه, مع كونه هذا العنصربعينه أو قريب منه موجود في العلاج المساند للحياة الشبيه. ومن ذلك مسألة جراحةالقطع إذا كانت لدفع الهلاك, ومن صورها عند الفقهاء قطع البواسير إن خشي بها الهلاكوقطع الطرف الي أصابته الآكلة حفظا للنفس, فتعبيرات الفقهاء عن هاتين الصورتين تتضمنعبارات الإباحة لا الوجوب, وقد صرح بعدم وجوب قطع الآكلة في طرح التثريب(2/75). والعنصر الخارجي الذي أتلمّسه هنا أن في الجراحة إتلافا ومشقّة وإيلام عظيموآثار مزعجة, فقد يكون ذلك هوالصارف للفقهاء عن إيجاب هذا النوع من القطع, أو يكون الصارف احتمال تسبّب ذاتالجراحة في وفاة المريض أو تعجيلها فيقصد المريض إلى الفرار من ذلك. وتحديدالمؤثّر هنا من بين ما ذكر أو حتى من غيره مما قد يعرِض لذهن الفقيه المتأمّل مهمّةمهمّة. وقد يؤيّد كونَ المؤثّر في هذه الفروع هو المشقة والآلام العظيمة ما ظهرمن تأثيره عند بعض الفقهاء في فروع أخرى, حيث تكلّم الفقهاء في الانتقال من موتمتيقّن لآخر متيقّن, فنصّ بعض الفقهاء من المالكية والشافعية على جواز ذلك, ومنصوره إلقاء النفس من السفينة المحترقة, ومن الصور التي قد تشبهه عند الحنفية ما ذكرهالسرخسي في المبسوط من أن للمكره على قطع يده أو يقتله المُكرِه أن يقطعها, ولم يوجبذلك عليه في الظاهر. وفي نفس الموضع صورة عن إكراه الإنسان على قتل نفسه بالسيفأو يضرب بالسياط حتى الموت, وصور أخرى تستحق الدراسة. وفي بعض كتب الشافعية صورةلمن صلبه الحاكم بحيث يُقطع بموته عادة, فأجاز بعضهم - على خلاف عندهم - إذا طلبالمصلوب أن يقتله تخفيفا عليه وعدم تطويل للألم. وغير خاف أنّ هذه المسائل تشترك فيكون الموت متيقّناً, وهذا ما يصعب الجزم به في كثير من الصور. لكن المراد هنااعتبار قضية المشقة والآلام العظيمة خصوصا إذا انضمت إلى مؤثّرات أخرى قد توجد في نفسالصورة التي نريد أن نحكم عليها, فقد يكون لاقتران المؤثّرات فيها أثرا لايوجد عندالانفراد. وأنّبه هنا إلى أهمية خاصّة وجدتها في مسألة إلقاء النفس من السفينةالمحترقة, حيث أن الفقهاء بسطوا القول فيها أكثر وذكروا فيها تفصيلات وصور فرعيةونوّعوا في الحكم بعد التفريع, مما قد يفيد في تحرير المناطات المؤثّرة في مسائلنا.
ت
شبه تلك المسائل ببعض العلاجات المساندة للحياة دون بعض, فيشبه إحياء النفسأو الغير بالأكل والشرب – وهو ما أجمع الفقهاء على وجوهه - وضع أنابيب التغذيةوالتروية عن طريق الأنف والفم أو من جهة البطن. وربما يدخل في هذا الوجه تشبيه جهازالتنفس الصناعي في إنقاذه المريض الذي فشلت عنده وظيفة الرئة من الاختناق بإساغةاللقمة لمن غُصّ بها وهو ما أجمع الفقهاء على وجوبه. وغير خاف على الفقيه أن منوظيفته دراسة الشبه والفرق بين الأصل والفرع وتنقيح المناط حتى يكون الإلحاق صحيحا فيهذه المسائل, وأن مجرد الشبه في بعض الأوجه لا يوجب الإلحاق دوما, وليس كل ما تبدومناسبته لأن يكون مناطا يتحقق كونه مناطا.
القسم الثاني:الملاحظات على توضيحات وأسئلة الأطباء والهادفة لإكمال بعض النقصفي عرض الواقع وإشكالاته.
كما تقدّم أنّ هناك نقص في الأسئلة أو التوضيحاتالتي قدمت من قبل بعض الأطباء ليستعين بها الفقهاء على تصور الواقع, وهذا النقص لعلّه يرجع لعدم إدراك الطبيبأنّ بعض التفاصيل الطبية قد تؤثّر في حكم المسألة وفي تشبيه الفقهيه لها أو قياسهاعلى مسائل شبيهة في الفقه, وبالتالي قمت بالقراءة الموسعة – ولازلت أقوم بذلك ضمن بحثيللدكتوراة المعنون بـ ( قرارات العلاجات المساندة للحياة ) – في كثير من الدراسات الطبية,كما قمت بلقاء جمع من الأطباء من خلال زيارات ميدانية للواقع الطبي, وتبين لي إلىالآن ملاحظات أحسب أنّها هامّة, أذكرها ضمن المحاور التالية:
المحور الأول: تصوير العلاجات المساندة للحياة.
إضافة لما ذكرته من أن ظن الطبيب بأن بعض التفاصيلالطبية لا تؤثّر في الأحكام الفقهية يؤدي لإهمال توضيح تلك التفاصيل للفقهاء, كذلك ظن بعض الأطباء -خصوصا من لديه اطلاع فقهي - بأن مسائل هذا الموضوع مرتبطة بما ذكره الفقهاء في حكمالتداوي فقط, ذلك الظن يؤدي للاكتفاء بالعرض المجمل للعلاجات المساندة للحياة معإهمال توضيح ما بينها من فروق قد تؤثّر في الحكم الفقهي وتستدعي التفصيل حسب تلكالفروق. وإذا وضعنا في الاعتبار وجود مجموعة من المسائل الفقهية المشابهة يتبين من خلالاستقرائها وجود شبه قوي بينها وبين بعض العلاجات المساندة للحياة, مع تنوّعالحكم الشرعي الذي يذكره الفقهاء في تلك المسائل المشابهة, أقول: لو وضعنا ذلكفي الاعتبار لأدركنا أنه يستدعي مراعاة التنوع في حكم تلك المسائل عند إصدارالحكم على العلاجات المساندة للحياة, وذلك حسب وجود المناط الموجب للإلحاق أو قوةالشبه, وهو ما لا يمكن حصوله من الفقيه إلا إذا أدرك تنوع تلك العلاجات المساندةللحياة – طبيا - بما يمكنه من التفصيل في حكمها.
نجد في أسئلة بعض الأطباء – وفقهم الله - تركيزاعلى نوع واحد من العلاجات المساندة للحياة - وهو الإنعاش القلبي الرئوي, فهو الذي حظي بالقدر الأكبر منالشرح وربط الإشكالات به, ولا شك أن هذا النوع هو أهمّ ما يتوجه له قرار الحد من العلاجالمساند للحياة, ولكنّه ليس الوحيد قطعا, وافتراض كون بقية العلاجات تأخذ نفس الحكملاشتراكها مع هذا النوع في أنها تؤدي لإنقاذ المريض محل نظر, فالتفاوت حاصل في غيرهذا المشترك, وهذا التفاوت يبرز في عدة صفات,لعلّ أهمها – مما أحسب أنّه قد يؤثر في الحكم الشرعي – ما يلي:
1
تفاوت نسبة نجاح هذه العلاجات في إنقاذ المريض, حيث يعتبر الإنعاش القلبي الرئوي ذا نسبة نجاح منخفضة,بينما ترتفع نسبة نجاح علاجات مساندة للحياة أخرى يجري إيقافها أو الامتناع عنها,كروافع الضغط مثلا, وجهاز التنفس الصناعي في بعض الحالات, وغسيل الكلي, وغير ذلك.ومعلوم أن كثير من الفقهاء أوجب التداوي المنقذ للحياة عند ارتفاع نسبة نجاحه بمايورث اليقين أو الظن الغالب, وذلك كحسم يد السارق بعد قطعها أو عصب الجرح النازف.
2
اتصاف بعض العلاجات بالشدة والعنف والتسبب في الآلام والمشاق العظيمة.
فالإنعاش القلبي الرئوي – مثلا -معروف بشدته حتى أنه قد يتسبب في تكسير أضلاع المريض بل ووفاته أحيانا, بينما لايتطلب رفع الضغط – أحيانا - سوى إدراج محلول معين ضمن التغذية الوريدية. ونجدمن الفقهاء من ينصّ على إباحة قطع الطرف المصاب بالآكلة بينما يوجبون إساغة اللقمةلمن غصّ بها وعصب الجرح النازف.
3
نتيجة للفرق السابق قد يتسبب بعض العلاجات دون بعض في الوفاة العاجلة أثناء القيانم به بدلا أن ينقذالمريض. مثال ذلك الجراحات الإنقاذية والإنعاش القلبي الرئوي حيث يمكن مع الضغطالشديد أن تتكسر الأضلع وتصيب القلب فتؤدّي للوفاة. وقد يكون لترك العلاج بقصد الفرارمن الوفاة العاجلة – وإن كانت أقل حدوثا - نظرة فقهية مختلفة عن تركه لمقاصدأخرى تتصوّر في بعض العلاجات دون بعض.
4
تتنوع العلاجات المساندة للحياة من حيث آثارها الجانبية المضرة للمريض, فبعضها لا يكاد يكون له أثريذكر, والآخر قد يتسبب في التهابات ومضاعفات مرضية أخرى. وقد يتكون لترك العلاج بقصدالفرار من بعض الآثار المضرة نظرة فقهية مختلفة عن تركه لمقاصد أخرى تتصوّر في بعضالعلاجات دون بعض.
5
تتفردّ بعض العلاجات المساندة للحياة بصفات قد تؤثّر في نظر الفقيه لتكييفها الفقهي فتخرج عن حكم التداويالأصلي ( عدم الوجوب من حيث الأصل إلا في حالات استثنائية ), فمثلا التغذيةوالتروية عن طريق الوريد وتقديم الأكسجين عبر التنفس الصناعي يمكن تخريجه على حكمالأكل والشرب والتنفس باعتبار هذه العلاجات تعويضا عن تلك الوظائف, وغسيل الكلييعتبر تعويضا عن وظيفة تخلّص الجسم من السموم, ونقل الدم ومكوناته الأساسية عند فقدانالمريض لذلك يشبه عصب الجرح النازف لمنع نزف الدم, بينما يصعب تكييف المضاداتالحيوية والجراحات الإنقاذية وروافع الضغط ومنشطات القلب على نحو يخرجها عن تكييفالتداوي. واختلاف التكييف مهمّ لأن الحكم الأصلي المستصحب يتغيّر عند النظر في كل علاجبمفرده تبعا لتكييفه, مع مراعاة مناطات أخرى قد تكون مؤثرة في الحكم.
المحور الثاني: مصطلحات طبيّة تحتاج توضيح.
جدوى العلاج
حيث هي مرتبطة بجودة الحياة أحيانا, فيرىالطبيب أن العلاج غير مجدي ليس لأنه لا ينقذ المريض ولكن لأن المريض لن يرجع لحالة صحية جيدة تساوي – في نظره –الجهد المبذول والمشقة المحتملة والتكاليف من هذه الحياة على المريض وأوليائهوالطاقم الطبي, فيجب أن ينتبه لتحرير المقصود بعدم الجدوى في رأي الأطباء وعدمالاعتقاد بأن عدم الجدوى معناه أن العلاج لن ينقذ المريض. علما بأن بعضالدراسات الغربية أثبتت أن نسبة كبيرة من المرضى يرون أن علاجهم كان ذا جدوى رغم رأيالأطباء بأنّه ليس كذلك, والدراسات موجودة عندي وقد أشرت لها في بحثي للماجستير والذي تطرقتفي آخره لهذه المسألة ( الفصل الأخير بعنوان ( أثر رجاء البرء من المرض في أحكامالتداوي ) من بحثي بعنوان ( أثر رجاء البرء من المرض في غير العبادات )).
إجراء الإنعاش المحدود
حيث يحصره بعض الأطباء في عدم إجراء الإنعاشالرئوي والتنفس الصناعي والإدخال للعناية, والواقع الطبي لا ينحصر في ذلك, بل يوجد في النماذج المعتمدةالتي يتخذ فيها قرار الامتناع عن الإنعاش تفصيل وذكر لأنواع مختلفة من العلاجات,ويسوغ للجنة الأطباء – حسب سياسات كثير من المستشفيات - الامتناع عن أي منها دون الآخر حسب ما يرونهموافقا لسياسة المستشفى المستمدة من بعض الفتاوى وأخلاقيات الطب, وأهم هذهالأنواع ما يلي:
الإنعاش القلبي الرئوي - التنفس الصناعي - الأدوية التي ترفع الضغط والتي تنشط القلب - التدخل الجراحي الإنقاذي - التغذية والتروية بالماء بطرق صناعية ( لا سيما في الغرب ) - نقل الدم أو بعض المكونات الأساسية للدم - غسيل الكلي – المضادات الحيوية.
وقد سبقت الإشارة إلى وجود فروق بين هذه العلاجاتقد تكون مؤثرة فقهيا. والأطباء بحاجة لفهم ما يحتاجه الفقهاء من معلومات تعينهم على النظر في هذهالعلاجات وإنزال الحكم المناسب عليها, ويحتاج ذلك لتفرّغ من الطبيب لأن الواضح منتجربتي أن بعض المعلومات ليست شائعة أو يمكن الوصول لها بسهولة لأسباب لا مجاللتفصيلها هنا.
المحور الثالث: إشكالات هامةلا تُطرح أحيانا.
أحيانا لا يتم التفريق بين الامتناع والإيقاففي الأسئلة بشكل واضح, والدراسات الطبية تفرّق بين النوعين, حيث يمتنع عن العلاج قبل البدأ به, ويوقفبسحبه من المريض بعد البدأ, ونظرا لوجود فعل إيجابي في السحب يكون أثره - في الغالب أو يقينا فيبعض الحالات - موت المريض؛ فإن الناحيةالفقهية قد تتأثر هنا عندما ننظر للإيقاف بانفراد عن الامتناع. وأما عدم تفريق الدراسات الأخلاقيةوالقانونية الغربية بين النوعين فليس معناه أن الشريعة لا تفرق, والمسألة بحاجة لبحثعميق.كما تبقت أن هناك بعض الأسئلة الهامة تستحق أن تطرح ضمن هذا الموضوع:
1
إذا كان التنويم بمستشفى خاص ووصلت التكلفة لمئتي ألف ريال أو أكثر بالشهر, ولملايين في السنة, هل يسوغالامتناع أو الإيقاف لمشقة التكاليف على أهل المريض, ما هو الحد أو الضابط الذييجيز لهم ذلك, هل يلزمهم الخروجمن كل أموالهم أو إلى حد معين؟ هل تلزم الاستدانة؟
2
يقع تزاحم على بعض الأجهزة المنقذة للحياة والتي لا تتوفر بكثرةبالمستشفيات, هل يسوغ الامتناع عن تركيب الأجهزة لمن لا يرجى برئهم من الحالات التينتكلّم عنها, بهدف توفير تلك الأجهزة لكي تستعمل مع من يحتاجونها أكثر بحكمإمكانية إنقاذهم ورجوعهم لحياة طبيعية بعد الإنقاذ؟ ما الحكم إذا وصلت الحالة التي لايرجى برئها قبل ولكن الأطباء لا يريدون إشغال الأجهزة بها, فيمتنعون عن ذلك لكي يتسنىلهم علاج من يأتي يوميا من الحالات التي يؤدي حرمانها للوفاة مع كونها مرجوةالبرء.
3
هل يسوغ إيقاف الجهاز ولو توفى المريض لإنقاذ من هو أحوج ممن يرجىإنقاذهم وبرؤهم؟ هل يتغير الحكم إذا تتابع وصول الحالات المرجوة وأخذت تموتواحدةً واحدة بسبب انشغال الجهاز بواحد سيموت على أية حال لسوء حالته, ولا يرجى له برء أو طول حياة. هل يتغير الحكم إذا كان الهدف مراعاةمن سيأتي مع عدم وجوده حالا ( التزاحم المتوقع) ؟
4
إذا كانت الحالة مستقرّة ولكنها غير مرجوة البرء ويظل صاحبها فيغيبوبة لمدد طويلة قد تصل لسنوات دون أن ترجى إفاقته في الغالب, فهل يسوغ ذلكالامتناع عن بعض العلاجات المنقذة بهدف تسهيل الوفاة؟ وهل يختلف الحكم إذا كانت مراكزالإحساس في المخ تعطلت ولا وعي للمريض وإن لم يمت دماغيا ( الحالة النباتية)؟ (الموت دماغيا بحث كثيرا ).
المحور الرابع: تطبيقات خاطئة في بعض المستشفيات يجب التنبيه عليها.
الواقع أن بعض المستشفيات بمجرد ما يوقعالأطباء قرار الامتناع عن الإنعاش يدخل المريض في دائرة الإهمال وربما يترك يموت اختناقا بالإفرازات المخاطيةبحجة أنّه ممنوع من الإنعاش, وهذا غير مقبول طبيّاً ويجب التأكيد عليه في الفتاوى وتوصيات الأبحاثخصوصا ما اتجه منها إلى إجازة الامتناع عن العلاجات المساندة للحياة, فيؤكد على أنيكون الامتناع منحصرا في علاجات معينة بعد الدراسة الفقهية لحكم ذلك, وتبقى بقيةالعلاجات الإنقاذية أو غيرها من أوجه الرعاية الصحية على الأصل وهو وجوبتقديمها للمريض.
كما أن بعض المستشفيات لا يخبر أهل المريضبقرار الامتناع ويتم تنفيذه دون علمهم. وهذه النقطة تنبني على تحديد دور أولياء المريض ومدى حقهم فيالقرار وحدود ذلك شرعا.
طريقة مقترحة لدراسة الموضوعات:
يمكن تقسيم الموضوع لمحورين كما يلي:
المحور الأول: حكم الامتناع عن العلاجات المساندة للحياة- ( الإنعاشالقلبي الرئوي وبقية العلاجات المساندة الأخرى ) -وحكم إيقافها بعد البدء فيها للمريض الذي لا ترجى حياته والميئوس منه-(تنبيه: إدخالالميئوس منه ولو رجيت حياته مهم, لتشمل الحالات النباتية والإغماءالطويل وهي محلإشكال في المستشفيات ).
· عناصر:
أ
الحكم من حيث الأصل
1
بالنسبة للمريض للمريض وأوليائه
2
بالنسبة للطبيب
ب
أثر تزاحم المرضى في الحكم.
المحور الثاني: دور أولياء المريض في اتخاذ قرار الحد من العلاجات المساندة للحياة.
· عناصر:
1
حدوده
2
تحديد المنوط بهم هذا الدور
3
مدى لزومه للأطباء
4
أثر تكلفة العلاج الباهظة على حكم قرار أولياء المريض.
هذا ما تيسّر ذكره مما رأيته لم يحظ بالعناية في الدراسات الفقهية السابقة والكتابات الطبية التي قصدتلبيان واقع المسألة للفقهاء.
وأتمنى ممن لديه نقد أو تعقيب أو فائدة حول ماكتب أو حول المسألة عموما أن يدلي بدلوه دون أدنى تردد.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد.
رابط تحميل الفصل السابع ( أثررجاء البرء من المرض وعدمه في أحكام التداوي ) من بحثي للماجستير ( أثررجاء البرء من المرض في غير العبادات ) :