ملاك الأمر تقوى الله فاجـ ـعلْ تقاه عدةً لصلاح أمرك
وبادر نحو طاعته بعزمٍ فما تدري متى يمضــى بعمـرك
أيها المسلمون : في نأيٍ عن الحياة النمطية الرتيبة وتجافٍ عن مألوف الأزمنة القتيبة تُنيخ أمتنا الإسلامية مطاياها بين يدي عشرٍ عظيمة مبجلةٍ كريمة بالخيرات جميمةٍ وبالفضائل عميمة .. قد غمرت الكون بضيائها وعمرت القلوب المعنَّاة بحبها في بهائها ، عشرٌ جرت بالطاعات أنهارها وتفتقت عن أكمام الخير والبر أزهارها ، وتطلع الصائمون القائمون في لهيف شوقٍ لنفحاتها وأسرارها ، تفيض أيامها بالقربات والسرور .. وتنير لياليها بالآيات المتلوات والحبور ؛ ألا فلتهنأ هذه الأمة بالاغتباط والبِشْر في حلول هذه العشر الزهر .
جرتْ السنوْن وقدْ مضَى العمْر والقلبُ لا شكرٌ ولا ذكرُ
هَـا قدْ حبـاكَ اللهُ مغفـرةً طرقتْ رحابَك هذه العشرُ
معاشر الصائمين : ومضت الليالي والأيام فإذا نحن - بفضل الله - في أفضل ليالي العام .. العشر الأخيرة المباركة .. عشر التجليات والنفحات وإقالة العثرات واستجابة الدعوات وعتق الرقاب الموبقات ..
الله أكبر إنها بساتين الجنان قد تزينت .. إنها نفحات الرحمن قد تنزلت ؛ فحريٌّ بالغافل أن يعاجل وجديرٌ بالمقصر أن يشمر ، وإنها والله لنعمةٌ كبرى أن تفضل المولى - جل وعلا - ومدَّ في أعمارنا حتى بلغنا هذه العشر المباركة ، وإن من تمام شكر هذه النعمة أن نغتنمها بالأعمال الصالحة .. فهل نحن فاعلون ؟
عشْرٌ وأيُّ العشْرِ ياشهرَ التُّقَى عشْرٌ بها عتقٌ من النيرانِ
فيهَا منَ الأيـامِ أعظـمُ ليلةٍ بشرى لقائمِ ليلِها بجنانِ
أمة الصيام والقيام : يتفضل ربنا - جل وعلا - على عباده بنفحات الخيرات ومواسم الطاعات ، ويغتنم الصائمون نفائسها ويتدارك الأوابون أواخرها ليالٍ مباركة أوشكت على الرحيل :
العشْرُ الأخيرةِ منْها تاج الليالي وأنوارها ساطعةٌ كاللآلي
كان نبينا – صلى الله عليه وسلم – إذا دخلت العشر أحيا ليله وأيقظ أهله وشد مئزره .. كما في الصحيحين من حديث عائشة – رضي الله عنها – وعند مسلم – رضي الله عنها وعن أبيها - : " كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره ، وفي العشر الآواخر منه ما لا يجتهد في غيرها " ..
ها نحن يا عباد الله في الشوط الأخير من السباق ؛ فليت شعري .. من السابق الفائز ومن المحروم الخاسر ؟ من الذي سينقض عنه سنة الغفلة ويشمر عن ساعد العزم ؟ من الذي يرفض ظلام التواني ويستقبل فجر العمل ؟
كان عليه الصلاة والسلام يخص هذه العشر بمزيد من الأعمال الصالحات ؛ فمن ذلك إحياء الليل كله وشد المئزر .. وهو كناية عن اعتزال النساء ، وقيل بل هو كناية عن الجد في العبادة ، ويحتمل أن يراد الأمران معاً
قال الحافظ ابن رجب – رحمه الله – : " ولم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – إذا بقي من رمضان عشر أيامٍ يدع أحدًا من أهله يطيق القيام إلا أقامه " ..
وقال سفيان الثوري – رحمه الله – : " أحب إلي إذا دخل العشر الأواخر أن يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده للصلاة إن أطاقوا ذلك .. هكذا كان عليه الصلاة والسلام في هذه العشر تفرغاً للعبادة وإقبالاً عليها ، بل لقد كان عليه الصلاة والسلام يعتكف في هذه العشر لينقطع عن الدنيا ومشاغلها ويتفرغ لطلب ليلة القدر ، ومن بعده عليه الصلاة والسلام سارت قوافل الصالحين المقربين على ذاك السبيل .. تقف عند هذه العشر الغُرِّ وقفة جدٍ وعزيمةٍ ترتشف من رحيقها وتنهل معينها وترتوي من فيض نميرها وتعمل فيها ما لا تعمل في غيرها " .
هكذا كانوا – رحمهم الله – تعظيماً لهذه العشر الفاضلة ، وهكذا كان اجتهاداً في العبادة وانقطاعاً لها في هذه الليالي المباركات ..
وحق لهم ذلك ؛ فإن فيها ليلةً تفضل ليالي الدنيا بأسرها .. ليلة العمل فيها العمل فيها خير من العمل في ألف شهر .. ليس فيها مثل هذه الليلة .. إنها ليلة القدر .. إنها ليلة القدر .. ليلة نزول القرآن : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ{1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ{2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ{3} سورة (القدر) ..
وألف شهر - ياعباد الله - تعدل ثلاثًا وثمانين سنة وثلاثة أشهر ، الله أكبر . الله أكبر . الله أكبر .. يا له من فضلٍ عظيمٍ لا يقصر فيه إلا مغبون ولا يحرم منه إلا محروم .
قال الإمام الزهري – رحمه الله - : " سميت ليلة القدر لعظمها وقدرها وشرفها ومنزلتها .. إنها الليلة التي تتنزل فيها الملائكة حتى تكون أكثر في الأرض من عدد الحصاة .. إنها الليلة التي من قامها " إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه " متفق عليه من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – " .
إنها الليلة التي من حرم خيرها فقد حُرِم .. فكيف لا نجِدُّ في طلبها ؛ ولاسيما أن الله أخفى موعدها فستر عن عباده زمانها ليرى جدهم في عبادته وتذللهم بين يديه ..
وأرجح الأقوال فيها أنها في الوتر من العشر الأواخر ، وأنها تتنقل ، وأرجى أوتار العشر عند الجمهور ليلة سبعٍ وعشرين
وليلة القدر فقل أرجاها ليلة سبعٍ وعشرين فقمْ تلقَاها
كما نص على ذلك الحافظ ابن حجر – رحمه الله – غير أن القول بتنقلها بين ليالي الأوتار العشر هو الأظهر جمعاً بين الأخبار ؛ فينبغي على المسلم أن يجتهد في هذه العشر كلها ليدرك ليلة القدر .
قال أهل العلم : وإنما أخفى الله - عز وجل - موعد هذه الليلة ليجتهد العباد في العبادة وكي لا يتكلوا على فضلها ويقصروا في غيرها ؛ فأراد منهم الجد في العمل أبداً .
إنها ليلةٌ خيرٌ من ألف شهر .. خفي تعيينها اختباراً وابتلاءاً ليتبين العاملون وينكشف المقصرون ، ومن حرص على شيء جدّ في طلبه وهان عليه ما يلقى من عظيم تعبه ..
إنها ليلةٌ تجري فيها أقلام القضاء بإسعاد السعداء وشقاء الأشقياء .. فيها يفرق كل أمر حكيم ولا يهلك على الله إلا هالك ..
وقد جاء في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – قالت : " قلت يارسول الله : أرأيت إن علمت أي ليلة هي ليلة القدر ما أقول فيها ؟ قال : قولي : اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعفُ عني . اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو فاعف عنا " .
أمة الإسلام : ويجمل الصيام والقيام والدعاء وتتوافر أسباب الخير ويعظم الرجاء حين يقترن بسنة الاعتكاف ؛ فقد اعتكف المصطفى – صلى الله عليه وسلم – هذه الأيام حتى توفاه الله .
عجيبٌ أمر هذا الاعتكاف في مقاصده وغاياته .. المعتكف ذكر الله له نعم الأنيس والقرآن له خير جليس ، والصلاة قرة عينه وراحته ومناجاة الحبيب شغله ومتعته ، والدعاء والتضرع شعاره ولذته .
فياأيها الأحبة في الله .. هذه أيام العشر المباركة كالتاج على رأس الزمان فراعوا حق هذه الأيام ؛ فوالله لليلة القدر لا يكثر في طلبها عشر لا بالله ولا شهر لا تالله ولا الدهر ليلة القدر يفتح فيها الباب ويقرب فيها الأحباب ويُسمع الخطاب ويرد الجواب .. إنها ليلةٌ ذاهبةٌ عنكم بأفعالكم وقادمةٌ عليكم غداً بأعمالكم ..
فياليت شعري . يا ليت شعري ماذا سنودعها وبأي الأعمال نودعها ؟ أتُراها ترحل حامدةً منا الصنيع أم ذامةً التفريط والتضييع ؟ هذا أوان السباق فأين المسابقون ؟ هذا أوان القيام فأين القائمون ؟
يا رجال الليلِ جِدُّوا رُبّ صوتٍ لا يُردُّ
لا يقوم الليل إلا منْ لهُ عزمٌ وجـدُّ
أليس من عجبٍ أن فئامًا من الناس أغفل ما يكونوا في زمان الجد والاجتهاد ؟ أليس من الغريب أن الكثيرين لا يحلو لهم التسوق إلا في هذه الأزمنة النفيسة ؟ أليس من الأعجب أن أقواماً يكونون أكثر ولعاً لمشاهدة القنوات الفضائية في هذه الأيام العظيمة والليالي الشريفة ؟ أين نحن من قومٍ كانوا أمضاء عبادةً وطاعة في تجاف عن مسالك التفريط والإضاعة ؟
عذراً أيا العشْر الأواخِر هكذا وحَلَ الطريقُ وغاصتْ الأقدامُ
أقبلتْ حيَّ هلا لعـلّ قلوبَنـا تصفُو ويصحُو حين جئت نيامُ
ولعلّ ملياراً يزيـلُ غثـَاؤه ليصـوغَ أمنَ العـالم الإسلامُ
غير أنه لا يمكن أن ينسى المسلمون في جديد التحديات والصراعات قضيتهم الكبرى (قضية فلسطين والأقصى) ؛ لاسيما وهي تمر في هذه المرحلة بمنعطفٍ خطيرٍ في ظل الحصار والهدم في محيط الأقصى الجريح والتوسع من قبل الصهاينة المعتدين في بناء المستوطنات ، والخلاف بين الإخوة والنزاعات ما يقوض فرص السلام والاستقرار في المنطقة ؛ فالله المستعان .
أمة العطاء والمواساة : ويجدر التذكير في هذا الشهر الكريم بفريضة الزكاة ؛ فهي قرينة الصلاة في كتاب الله .. فأدوها - يارعاكم الله - طيبة بها نفوسكم ، ولا تبخلوا بمال الله الذي آتاكم ..
ألا فاتقوا الله - عباد الله - واستثمروا هذه الليالي الغُرّ بالأعمال الصالحة ، واغتنموا واجتهدوا وأبشروا وأملوا .
يارب عبدُك قدْ أتاكِ وقدْ أساءَ وقدْ هفَـا
يكفيْه منكَ حياؤهُ منْ سوءِ ما قدْ أسلفَا
ياربّ فاعفُ وعافه فلأنتَ أولى منْ عفَا
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي سيد المرسلين .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من جميع الذنوب والخطيئات ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً .
الخطبة الثانية :
الحمد لله مُوالي البركات والنعم ، وأشهد أن لا إله إلا الله لا شريك له ذو الفضل الأعم والإحسان الأتم .. منَّ علينا بليلة القدر الشريفة وما فيها من بركاتٍ ترتسم ، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد العرب والعجم أزكى من صام لله وقام حتى تفطّرَ منه القدم وأجود بالخير من الريح المرسلة في الجود والكرم ، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما سعى المشمرون للقمم ، وسلم تسليماً كثيراً ..
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – واعرفوا شرف زمانكم واقدروا أفضل أوقاتكم وقدموا لأنفسكم ؛ فلا تضيعوا فرصةً في غير قربة ، وتداركوا بقية شهركم بعمارته بالتقوى
عليكَ بتقوى اللهِ في كلِّ أمرهِ تجدْ غِبَّها يومَ الحسابِ المطولِ
أيها الإخوة في الله : هذه أيام شهركم تتصرم ولياليه الشريفة تتقضى شاهدةً بما عملتم وحافظةً لما أودعتم .. هي لأعمالكم خزائن محصنة ومستودعات محفوظة ، ها هو شهركم وهذه نهاياته ..
كم من مستقبلٍ له لم يستكمله ، وكم من مؤملٍ يعود إليه لم يدركه ، هلّا تأملتم الأجل ومسيره ؟ وهلّا تبينتم خداع الأمر وغروره ؟
فالشهر أوشك على الرحيل بما أودع فيه العباد من أفعال ، واللبيب من ختم شهره بتوبةٍ صادقةٍ بالبعد عن المعاصي والآثام والإقبال على حسن الصيام والقيام .
أيها المسلمون : ومع ما قررته الشريعة من حرمة هذا الشهر الكريم فلا تزال صدور غلت مراجلها بالبغضاء والحسد وعقول انحرفت عن سواء الدين والرشد .. قد ركبت متن الغلو والجهل تحاول زعزعة أمن هذه البلاد الآمنة وتنشر الفساد والإجرام في رباها الحالمة ؛ فانتهكت حرمة الزمان والمكان وامتشقت أيديها أعمال الإرهاب والعنف والتفجير وأفعال الإجرام والإفساد والتدمير ؛ فكان سعيهم في وبال وشأنهم في سفالٍ بمنِّ الله وفضلة ؛ حيث رد كيدهم وأحبط مكرهم ..
وما الجريمة النكراء والحادثة الشنعاء التي هزت المجتمع ، بل العالم المتمثلة في استهداف رموز الأمن في هذه البلاد المباركة إلا تحولٌ خطيرٌ في مسيرة هذا الفكر المنحرف يقصد إلى استهداف عقيدة الأمة وأمن الوطن واستقرار المجتمع ؛ فالأمر عظيم والخطب جلل .. ولكن الله سلم .
ومَا أخصُّك في قُرْءٍ بتهنئةٍ إذا سلِمْتَ فكلُّ الناسِ قدْ سلِموا
ومَنْ كان في أوطانِه راعٍ لها فذكراه مسكٌ في الأنـام وعنبر
فماذا يريد هؤلاء ؟ ومن يقف وراءهم ؟ وبأي شيءٍ يلقون الله رب العالمين ؟
ألا فليعلمْ كل غِرٍّ مأفون سلك مسالك الإجرام أن الله – سبحانه – فاضحه لا محالة وحافظ هذه الديار المباركة ورموزها من كيد الكائدين وعمل المفسدين : {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ } فاطر43 .
وهيهات هيهات أن يكون الإصلاح المرتجَى بإثارة الشغب والفوضى وسلوك مسالك العنف وحمل السلاح وزعزعة الأمن والخروج على الإمام ونبذ السمع والطاعة ومفارقة الجماعة والغدر والخديعة والخيانة والانتحار بأخرة ..
نسأل الله حسن الخاتمة . نسأل الله حسن الخاتمة ؛ فرحماك ربنا رحماك ، واللهم سلِّم سلِّمْ .
وهي والله لهؤلاء عنوان الاستيئاس والإبلاس والابتئاس ونهاية الإفلاس ولفظ آخر الأنفاس .
ومن تفطَّن لآثار ذلك الفكر النشاز استشعر أهمية العناية بالجيل وتربية النشء على منهج الوسطية والاعتدال واستئصال شأفة الإرهاب وتجفيف منابعه ، وتلك مسئوليةٌ مهمةٌ عظيمة مشتركة بين كافة شرائح المجتمع وقنوات التوجيه - كالمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام - ليؤدي كل دوره التربوي في المجتمع صلاحاً وإصلاحاً ..
والنداء الجهير والدعوة المشفقة الحرّاء موجهةٌ من منبر المسجد الحرام ، واغتناماً لهذه العشر المباركة لكل من تورط في هذه الأعمال المشينة بالمحاسبة والمراجعة والأوبة إلى جادة الحق والصواب والاستفادة من فرصة العفو السانحة قبل فوات الأوان ، والله المسئول أن يحفظ على هذه البلاد عقيدتها وقيادتها وأمنها وأمانها ورخاءها واستقرارها ، ويرد عنها شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار ؛ إنه خير مسئولٍ وأكرم مأمول .
وتحية تقديرٍ وإعزازٍ وإجلالٍ لولاة أمرنا الأماجد ورموز أمننا الأماثل ورجال أمننا الأشاوس على ما يقومون به من جهودٍ جبارةٍ في حفظ ثغور وأمن هذه البلاد والتفان في خدمة العباد من العمار والزوار وكل حاضرٍ وباد ؛ حتى نعم العمار والزوار بخدمات أمنية وصحيةٍ يقل نظيرها - بفضل الله ومنه – .
فلله درهم وبوركت جهودهم ، ولا حرمهم الله الأجر والمثوبة ، ولله الحمد والمنّة أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً .
ألا وصلوا - رحمكم الله - على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمدٍ بن عبد الله كما أمركم ربكم - جل في علاه - فقال عز من قائل كريماً : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً }الأحزاب 56..
ألا أيُّها الراجي المثوبةَ والأجْر وتكفير ذنبٍ سالفٍ أنْقَضَ الظَّهْر
عليك بإكثار الصلاة مواظباً على المصطفى شفيع الورى طراً
فقد صح أن الله جل جلاله يصلي على من قالها مرةً عشراً
اللهم صلِّ وسلم وزد وبارك على سيد الأولين والآخرين ورحمة الله للعالمين نبينا وقدوتنا وحبيبنا وشفيعنا محمدٍ بن عبد الله النبي المصطفى والرسول المجتبى والحبيب المرتضى وعلى آله الشرفا وصحبه النجبا ومن سار على نهجهم واقتفى يا خير من تجاوز وعفا وارض اللهم ، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء الأئمة الحنفاء ذوي الشرف الجلي والقدر العلي - أبي بكر وعمر وعثمان وعلي – وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين واحمي حوزة الدين واجعل هذا البلد آمناً مطمئناص سخاء رخاء وسائر بلاد المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا خادم الحرمين الشريفين ، اللهم وفقه لما تحب وترضى وخذ بناصيته إلى البر والتقوى وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه ، اللهم وفقه وولي عهده ونائبه الثاني وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه صلاح العباد والبلاد يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد .
اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين للحكم بشريعتك وتحكيم سنة نبيك – صلى الله عليه وسلم – اللهم اجعلهم نصرة للإسلام والمسلمين ورحمة على عبادك المؤمنين ، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تنقذ المسجد الأقصى من براثن الصهاينة المحتلين ، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين ، اللهم إنا نسألك بمنك وكرمك أن تعتق رقابنا من النار ، اللهم أعتق رقابنا من النار ، اللهم أعتق رقابنا من النار ، اللهم أعتق رقابنا ورقاب آبائنا وأمهاتنا وإخواننا المسلمين من النار برحمتك وكرمك وجودك يا عزيز يا غفار اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر ، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر ، اللهم وفقنا لقيام ليلة القدر ، اللهم امحو عنا كل ذنب وزر ، اللهم اكتب لنا كل مثوبة وأجر يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار . ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الأرحمين .
سبحان ربنا رب العزة عما يصفون وسلامٌ على المرسلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
خطبة الجمعة من المسجد النبوي
21-9-1430 هـ
القاها فضيله الشيخ حسين بن عبدالعزيزال الشيخ عنوانها الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان
الخطبة الأولى :
الحمد للهوحده وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله .. اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه .
أما بعد ، أيها المسلمون .. فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ؛ ففيها السعادة والفلاح والنجاح .
إخوة الإسلام .. ما أسرع ما تنقضي الليالي والأيام ، وما أعجل ما ينصرم الزمان .. فها هو شهر رمضان تقوَّضت خيامه وتصرَّمت أيامه ..
ترحل الشهر والهفاه وانصـرما *** واختص بالفوز في الجنات من خدما
طوبى لمن كانت التقوى بضاعته *** في شهره وبحبل الله معتصما
فليحرص كل منا على اغتنام ما بقي من أيامه ولياليه بما يقربنا إلى المولى - جل وعلا - ويكون سبباً للفوز في الدنيا وفي الأخرى ، فمن شغلته عن دينه دنياه فمتى يقبل على مولاه .
إخوة الإسلام .. نحن في العشر الأخيرة من رمضان ، عشر عظيمٌ فضلُها وكبيرٌ أجرُها .. كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجتهد فيها مالا يجتهد في غيرها ، وكان إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله ، فيها ليلة القدر خيرٌ من ألف شهر ، من قامها إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تقدم من ذنبه ، وهي في الأوتار آكدُ كما صحت بذلك الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
ومن آكد ما يجتهد به فيها الإكثار من الدعاء ، كما صح عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : يا رسول الله إن وافقتها فبم أدعو؟ قال :" قولي : اللهُمَّ إنك عفُوٌّ تحب العفو فا عفُ عني " .
معاشر المسلمين .. ومما يسن في هذه العشر الاعتكاف ، وهو لزوم المسجد لطاعة الله - جل وعلا - فقد جاء في الصحيحين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعتكف في العشر الأواخر في رمضان ، ثم اعتكف أزواجه في حياته ومن بعده ، والاعتكاف مقصوده حبس النفس على العبادة ، وقطع العلاقة عن الخلق ، والبعد عن شئون الدنيا ، وعكوف القلب على طاعة الله - جل وعلا - وإخلاء القلب عن الشواغل عن ذكر الله ، مع التحلي بأنواع العبادة وسائر القرب ، وأقل مدة الاعتكاف - على الصحيح من أقوال العلماء - يومٌ أو ليلةٌ ، ولا يجوز للزوجة الاعتكاف بغير إذن زوجها ، ولا يصح الاعتكاف إلا بمسجدٍ تقام به الجماعة ، والأفضل في مسجد تقام فيه الجمعة - إذا كان اعتكافه تتخلله الجمعة - .
وإن كان ممن لا تلزمه الجماعة كالمرأة ، فيصح في كل مسجد سوى مسجد بيتها ، وينبغي للمعتكفة أن تكون في أكمل الأحوال من الاحتشام والحياء ، ولا يخرج المعتكف من معتَكفه إلا لما لابدَّ له شرعاً ، كالخروج لصلاة الجمعة أو حساً كقضاء حاجة أو الإتيان بمأكل ونحوه ؛ لعدم من يأتيه بهما .. قالت عائشة - رضي الله عنها - :" السنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد له منه ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - لايدخل البيت إلا لحاجة الإنسان " متفق عليه ، ولا يعود مريضاً ولا يشهد جنازة أو يزور قريباً ، إلا إذا اشترطه في اعتكافه ؛ أي عند بداية اعتكافه .
والأفضل عند جمهور أهل العلم لمن أراد اعتكاف العشر أن يدخل المسجد عند غروب الشمس من ليلة إحدى وعشرين ، ويستحب أن يبيت ليلة العيد في معتكفه ليخرج إلى المصلى ، كما ورد عن السلف ، ولا يجوز لمسلم أن يضيع واجباً عليه لأجل الاعتكاف المسنون ، ومن كان في خدمة المسلمين وقضاء حوائجهم ، فالأفضل له الاستمرار في عمله ؛ لأن العمل المتعدي أفضل من القاصد ، ومن منعه والده من الاعتكاف فينبغي له طاعته كما دلت على ذلك الأدلة الصحيحة والقواعد الشرعية .
وينبغي على الوالدين أن يرعيا أولادهما من ذكور وإناث في حال الاعتكاف ، وأن يشرفها بنفسهما على ذلك ؛ حتى تتحقق المقاصد المشروعة ، وتنتفي المفاسد المحتملة ..خاصة إذا كانوا صغاراً ، ولنعلم أن مما ينافي مقاصد الاعتكاف فتحَ المجال من قبل المعتكفين لمن يأتيهم من الزوار أثناء الليل وأطراف النهار ، مما يحصل معه تضييع الأوقات لما لا فائدة فيه ، بل وقد يتخلله ما لا يحل من الأحاديث المحرمة ، كالغيبة ونحوها ..والشيطانُ حريصٌ ، وإلا فلا بأس أن يتحدث مع من يأتيه ما لم يكثر ؛ لأن صفية -رضي الله عنها - زارته - عليه الصلاة والسلام - فتحدثت معه كما صح بذلك الحديث .
ويستحب للمعتكف اجتناب فضول المباحات من مخالطة الأنام ، وفضول الكلام والمنام التي لا يحتاج إليها حتى تكمل خلوته ويحصل مقصود اعتكافه على الكمال والتمام ، وليحرص المعتكف على أن يكف أذاه عن المصلين ، وأن يتأدب بآداب المسجد وأن يحرص على نظافته .. خاصة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
وينبغي للمعتكف أثناء الصلاة التجملُ بما لديه من الملابس غيرِ ملابس النوم ، والأفضل أن يتجنب التجمع ، ولو كان ذلك في التباحث في مسائل علمية أو فقهية ؛ لأن الاعتكاف خلوة ، وقد نقل عن الإمام مالك وأحمد أنه لا يستحب للمعتكف إقراء القرآن ، ولا تدريس الفقه والحديث ؛ حتى لا يؤثر ذلك على المقصود الأعظم من الاعتكاف .
اللهم علمنا ما ينفعنا ، وزدنا علما وفقهاً وتوفيقاً .
الخطبة الثانية :
أحمد ربي وأشكره، وأصلي وأسلم على من لا نبيَّ بعده .
أما بعد ، فيا أيها المسلمون .. مما يُحزنُ المسلمَ ما وصلت إليه حال الأمة المسلمة ، وما وقع لرمز من رموز الأمن في هذه البلاد في هذا الشهر العظيم إلا صورةٌ من صور المآسي المؤلمة لما يقع في هذه الأمة .. ألا وإن أضرَّ شيءٍ على الإسلام والمسلمين عبر التاريخ تكفيرُ المسلمين بعضهم لبعض ، واستباحة بعضهم دماء بعض .
ومن قرأ التاريخ جيداً يجد العجب العجاب من الشرور المستطيرة والبلاء العظيم الذي وقع على أمة الحبيب - صلى الله عليه وسلم - بسبب ذلك وبسبب فتن التفرق والتحزب ، وهذا كله قد أفرح ويُفرح أعداءَ الإسلام ، ففي قصة الأمير مودود - أحد ملوك السلاجقة - وهو من خيار الملوك ديناً وجهاداً ضد الصليبيين ، ومع هذا قُتِِل بسبب الفتن ، قتل في جامع دمشق على أيدي بعض الفئات من المسلمين ، وكان في يوم وهو صائم فكتب أحد ملوك الإفرنج إلى ملك السلاجقة يقول له ناقماً وساخراً :" إن أمة - يريد بها أمة الإسلام – إن أمةً تقتل أحد قادتها في بيت معبودها ، في يوم عيدها لحريٌّ أن الله يبيدها " .. نعم إن الأمة لا يضرها إلا التفرق والتشرذم والفتن التي لا يحكمها كتاب الله - جل وعلا - ولا سنة رسوله - صلى الله عليه وسلم – .
يقول الحسن ناصحاً الناس بعدم الانخراط في فتنة ابن الأشعث ، فعندما سمع من يدعو على الحجاج ، قال له : " لا تفعل إنكم من أنفسكم أُوتيتم إننا نخاف إن عُزل الحجَّاج أو مات أن يستولي عليكم القردة والخنازير " ، ويقول في مقام آخر :" لو أن الناس إذا ابتلوا من قِبَل سلاطينهم صبروا ، ما لبثوا حينئذ أن يفرج الله عليهم ، ولكنهم يجزعون إلى السيف فيوكلون إليه ، فو الله ما جاءوا بيوم خير قط " .
ويقول أيضا :" فإن الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف " ، وكتب أحد السلف إلى ابن الأشعث قائلا له :" إنك يا بن الأشعث قد وضعت رحلك في ركاب طويل .. أبقِ على أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - انظر إلى نفسك فلا تهلكها ، ودماء المسلمين فلا تسفكها ، والجماعة فلا تفارقها ، والبيعة فلا تنكثها .. فـالله اللهَ في لزوم سنة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ففيها النجاة والعصمة من الشرور ، ومن الآثام في هذه الدنيا والآخرة .
ثم إن الله - جل وعلا – أمرنا بالصلاة والسلام عليه .. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا وقرة عيوننا محمد ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين . اللهم أصلح أحوال المسلمين . اللهم اجمع كلمتهم على الحق . اللهم اجمع كلمتهم على الحق . اللهم ألِّف بين قلوبهم . اللهم اجمعهم على محبة محمد - صلى الله عليه وسلم - .
اللهم اجمعهم على محبة الله - جل وعلا - وعلى محبة رسوله - صلى الله عليه وسلم - اللهم جنبهمُ الفتنَ والشرور . اللهم جنب شبابنا الفتن والشرور يا ذا الجلال والإكرام . اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات .. .. رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ البقرة 102 ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
للاستماع