في زحمةِ هذهِ الأحداثِ المتلاطمةِ ، وما تمخّضَ عنها من المواضيع ِ الفاترةِ ، وفي خِضمِّ
التصنيفاتِ الجائرةِ ، والمهاتراتِ البائسةِ ، تنكّبتْ بالكثير ِ من المنتدياتِ الأحوالُ ،
وتتابعتْ عليها وعلى كُتّابِها الأهوالُ ، ولجَّ الكثيرُ من أهلِها في الخلافِ ،
وأصرّوا على العِنادِ ، وصارتِ الكتابة ُ فيها – إلا قليلاً - نوعاً من العبثِ
وضرباً من الهذيان ِ , وإلى المجون ِ والتهريج ِ أقربَ منها إلى التأصيل ِ
والتقرير ِ ، ولم نعُدْ نرى فيها إلا هجوماً وتدابراً ، كأنّنا في معركةٍ أو نِزال ٍ .
أقولُ هذا ولا أزكّي نفسي ، أو أستثنيها من هذا ، فأنا منكم ، إن خيراً فخيراً ،
أو شرّاً فشرّاً ، وقاتلَ اللهُ دُريدَ بنَ الصمّةِ ، إذ سنَّ الموتَ مع الجماعةِ ولو على حالةٍ
لا تسرُّ , عندما جعلَ رُشدهُ من رُشدِ غزيّة َ – وهي قومهُ - ، وغوايتُهُ من غوايتِها ،
وصارَ هذا من السُنن ِ التي تزيدُها الأيّامُ ثباتاً ، مع أنّها طبعٌ ذميمٌ ، وخلقٌ سيءٌ .
هذه الظِلالُ القاتمة ُ من الحال ِ المرير ِ الذي نعيشهُ ، تتطلّبُ منّا وقفة ً نُراجعُ فيها النفسَ ،
وواحة ً نتفيّأ في ظلالِها الأنسَ ، ونجدُ في مغانيها الرّاحة َ ، وفي أعطافِها الدعة َ ،
وإذا استمرأنا وضعنا المُخزي ، فنحنُ على أعتابِ كارثةٍ فكريّةٍ كُبرى ،
فما دامَ الحالُ يُراوحُ في مكانهِ ، بينَ قدح ٍ سافر ٍ يكشفُ مخبوءَ النيّةِ السيئةِ ,
وبينَ تصنيفٍ ظالم ٍ يفضحُ خواءَ النفس ِ من الإنصافِِ ، والقلمُ يُبرى ليُكتبَ بهِ
ما لا يصلحُ أن يكونَ صحيفة ً على حائطٍ في مدرسةٍ للصبيان ِ ،
فإنَّ استصلاحَ الحال ِ وتقويمهُ يحتاجُ إلى زمن ٍ فسيح ٍ ، ونفوس ٍ صابرةٍ ،
وهمم ٍ مشحوذةٍ ، ولا يلوحُ في الأفقِ دونَ ذلكَ إلا خرطُ القتادِ ، وسفُّ الرّمادِ ،
والحمدُ للهِ على كلِّ حال ٍ . في طريق ِ الإصلاح ِ للقلم ِ ، والتهيئةِ للفكر ِ ، والدُربةِ للعقل ِ ،
هذهِ مادّة ٌ خاصّة ٌ عن شيخِنا العلاّمةِ العابدِ الزاهدِ : مُحمّدِ بن ِ مُحمّدٍ المختار ِ الشنقيطيِّ ،
أسعدَ اللهُ أيّامهُ ، وأعلى قدرهُ ومنزلتهُ ، أبثّهُا بينَ يديكم لتكونَ كالغيثِ الذي
ينهمرُ فيروي الأرضَ القفرَ اليبابَ ، وكالنّسيم ِ العليل ِ يبعثُ النّشاطَ في النّفوس ِ الحالمةِ ،
وكالوردِ العبق ِ الفوّاح ِ في وسطِ القيظِ المُلهبِ يُبهجُ المُهجَ فتنتعشُ وتطربُ ،
جمعتُها من خلاصةِ ما سمعتهُ من طلاّبهِ ، أو وقفتُ عليهِ مُعاينة ً ، لعلَّ اللهَ أن يُبعثَ بها
الهِممَ من مرقدِها .
هو شيخُنا الفقيهُ المُفسّرُ الأصوليُّ : أبو عبدِ اللهِ مُحمدُ بنُ محمّد المختار ِ بنِ أحمدَ
مزيد الجكنيُّ الشنقيطيُّ ، والدهُ رجلٌ من أهل ِ العلم ِ الكِبار ِ ، درّسَ – أعني والدهُ –
في المدينةِ النبويّةِ – شرّفها اللهُ – وفي جُدّة َ – حرسها اللهُ - ، وكانَ عالماً فاضلاً
من سراةِ الشناقيطِ , سليل ِ أرومةٍ من ذوي الشرفِ والوجاهةِ ، ومن أهل ِ الفضل ِ فيهم ،
وهو ينتسبُ – كما حدّثني قريبٌ للشيخ ِ – إلى الإمام ِ الكبير ِ :
المختار ِ بن ِ بونة َ الجكنيِّ – جادَ اللهُ بالرّحمةِ مثواهُ - ، أحدِ كِبار ِ العلماءِ في بلادِ شنقيطَ ،
توفّيَ قديماً ، ولهُ مصنّفاتٌ عدّة ٌ منها : طرّة ُ الألفيّةِ ، والاحمرارُ ، وهي من عجائبِ
ما ألّفَ في علم ِ العربيّةِ ، أكملَ بهما ألفية َ بن ِ مالكٍ ووشّحها بحاشيةٍ كاشفةٍ لمعانيها،
ولهُ قصّة ٌ عجيبة ٌ تدلُّ على كرامةٍ من اللهِ لهُ - بعدَ أن ِ افترى عليهِ بعضُ أهل ِ
عصرهِ ونابذوهُ حسداً وبغياً - ، حدثتْ في ساعةِ وفاتِهِ ، حدّثني بها غيرُ واحدٍ من أهل ِ
العلم ِ ومنهم شيخُنا مُحمّدٌ ، ولذكرِها موضعٌ آخرُ .
ومن شعرهِ – أي ابن ِ بونة َ - الذي يفخرُ بهِ – وهي قصيدة ٌ مشهورة ٌ - قولهُ :
نحنُ ركبٌ من الأشرافِ مُنتظمٌ ********* أجلُّ ذا العصر ِ قدراً دونَ أدنانا
قد اتخذنا ظهورَ العيس ِ مدرسة ً ********* بها نُبيّنُ دينَ اللهِ تِبيانا
ومن أرادَ الوقوفَ على ترجمتهِ ، فلْيُراجعْ كِتابَ " الوسيطِ في تراجم ِ أدباءِ شنقيطَ " ،
وهو مطبوعٌ مُتداولٌ .
ومن عجائبِ ما يُذكرُ عن والدهِ ، ما حدّثني بهِ شيخي مُحمّدٌ نقلاً عن شيخِنا الإمام ِ :
مُحمّدٍ العُثيمين ِ – برّدَ الله مضجعهُ – أنَّ والدهُ كانَ يحفظُ كتابَ " البدايةِ والنهايةِ "
للإمام ِ ابن ِ كثير ٍ – رحمهُ اللهُ – كاملاً ، وقد كرّرَ شيخُنا نقلَ هذا الكلام ِ غيرَ مرّةً ،
وأخبرني الشيخُ أنَّ والدهُ كانَ من كِبارِ الضابطينِ لعلمِ التأريخ ِ والنّسبِ ، وذكرَ شيئاً من
ذلكَ أيضاً العلاّمةُ : بكرُ بنُ عبدِ اللهِ أبو زيدٍ – شفاهُ اللهُ ومتّعهُ بالعافيةِ - ، في كتابهِ "
طبقاتُ النسّابينَ " وغيرهُ .
ومن فضائلهِ – أعني والدهُ - جلَدهُ وصبرهُ ، فقد أوتيَ صبراً عظيماً على ما ابتلاهُ اللهُ بهِ من
الأمراض ِ وتقلّبِ الأحوال ِ ، وبقدر ِ ما كانَ يعظمُ بهِ البلاءُ ويشتدُّ عليهِ الكربُ ،
كانَ يزدادُ في الثباتِ صبراً واحتساباً ، من ذلكَ أنّهُ كانَ لا يكرهُ البنج والمخدّرَ في الجراحةِ ،
فحصلَ عليهِ حادثٌ اقتضى جراحة ً فامتنعَ من قبول ِ البنج ِ ، وأجريتْ لهُ العمليّة ُ وخيطتْ
جلدة ُ رأسهُ وهو في كامل ِ وعيهِ ، ولم يزدْ على أنْ كانَ يذكرُ اللهَ تعالى، ولهُ في هذا أخبارٌ
عجيبة ٌ، ذكرها شيخُنا في دروسِهِ ومحاضراتهِ ، وأتى على شيءٍ منها العلاّمةُ :
مُحمّدٌ المجذوبُ – رحمهُ اللهُ – في كتابهِ " علماءُ ومفكّرونَ عرفتهم " ، في جزءهِ الثالثِ ،
فلْيُراجعْهُ من أرادَ الوقوفَ على ذلكَ .
يتبع ....