بسم الله الرحمن الرحيم
لما قتل خنيس بن حذافة ، رضي الله عنه ، يوم بدر ، تأيمت منه حفصة ، رضي الله عنها ، فسعى الفاروق ، رضي الله عنه ، سعي الأب المشفق ، في زواجها ، فعرضها على ذي النورين ، رضي الله عنه ، فبدا له ألا يتزوج آنذاك ، ثم عرضها على الصديق ، رضي الله عنه ، فسكت ، فوجد عمر في نفسه على أبي بكر ، ولم يفتقر إلى شجاعة يواجه بها ثاني اثنين بذلك لما سأله متلطفا ، ومعتذرا بذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها ، فلعله أراد الزواج بها ، إكراما لوزيره الثاني وقد كان في قصة معروفة روتها كتب السير فيها من اللطائف شيء كثير :
فإن عمر ، رضي الله عنه ، كما يقول أحد الفضلاء المعاصرين لم يجد غضاضة في أن يعرض ابنته على الأفاضل الأكفاء ، بل إنه يرى ذلك حقا له على الجماعة المسلمة ، فإن بقاء ابنته متأيمة : نازلة تحتاج إلى من يرفعها ، ولن يكون ذلك إلا بتزويجها ، فلتتحمل الجماعة المسلمة إذن عبء ذلك بأن ترشح الكفء لتلك الزيجة . ولم يكن رد فعل الأصحاب ، رضي الله عنهم ، على وزان : "وأنا مالي يا عم ؟!!!" كما يقال عندنا في مصر ، فإن الفردية والسلبية لم تكن من سمات الصدر الأول ، بل كانوا جميعا على قلب رجل واحد ، يسعى بذمتهم أدناهم ، يتداعون لبعضهم بالسهر والحمى ، فاعتذر عثمان ، رضي الله عنه ، وليس ذلك بقادح فيه ، إذ لم يفتقر هو الآخر إلى شجاعة في الرد ، فالزواج ليس مجاملة عابرة يصل بها الصاحب صاحبه ، بل هو أمانة ، فلا عيب أن يرد عثمان ، رضي الله عنه ، العرض ، إذ لا حاجة له في الزواج آنذاك ، فلا يأمن ألا يعدل ، فيقع في الإثم إن قصر ، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها .
وأما الصديق ، رضي الله عنه ، فهو كما عهدناه من سيرته العطرة ، لا يألو جماعة المسلمين نصحا ، فسكت لعل عمر ، رضي الله عنه ، يحظى بتلك المصاهرة ، فإن لم يكن ذلك فلن يتردد في قبول العرض العمري ، مع أن دخول حفصة ، رضي الله عنها ، على بيت النبوة ، بأقيسة أهل الدنيا ، دخول "الضرة" لابنته عائشة ، رضي الله عنها ، فالطبع البشري ، يكره ذلك ويرده ، ولكن ذكر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لها كاف في رد تلك النوازع البشرية ، فإن الرضا بما يسره ، والسعي فيما يريده ، مئنة من كمال الإيمان ، فطاعته من طاعة الله ، عز وجل ، ورضاه من رضا الرب المنعم ، جل وعلا ، وقد كان لعمر ، رضي الله عنه ، فوق ما أراد ، فصار صهرا لخير الخلق ، صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، وصارت ابنته ، رضي الله عنها ، أما للمؤمنين على طول الدهر .
ولم يكن الفاروق ، رضي الله عنه ، ممن تسيره الأهواء الشخصية والنوازع البشرية ، فلم يسرها لعثمان ، رضي الله عنه ، في نفسه ، ليثأر لها ، فقد ترفع عن حظ نفسه ، وإن انتابها من العوارض البشرية الجبلية بداية ما ينتاب بقية الأنفس ، بل يؤتمن يوما ما على عرض مسلم ، وكله أن يزوج ابنته الكفء ، فلا يجد إلا عثمان ، رضي الله عنه ، الذي رده يوما ما ، فكانت تلك المرأة أم عمرو بن عثمان كما ذكر صاحب "منار السبيل" في كتاب "النكاح" .
وفي تلك الزيجة التي تولى عمر ، رضي الله عنه ، أمرها ، صورة صادقة لا تكلف فيها على طريقة : "وضع حجر الأساس" !!! في واقعنا المعاصر لكثير من المشاريع التلميعية الوهمية ، صورة صادقة للحاكم المسلم الذي يتولى أمر رعيته ، فهو الوكيل عنهم إذا غابوا ، وهو الذي يكتب رسائل زوجات الجند إلى أزواجهن على الثغور ، وهو الذي يشتري لهن حاجاتهن من السوق لئلا يغبن ، وهو الذي يعس في المدينة ليلا ، كما تواتر من السيرة العمرية ، وهو باختصار : عمر بن الخطاب وكفى !!! .
بل إنه يختار ذا النورين مع من اختار من الستة الذين توفي الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وهو عنهم راض ، فيستبعد ابنه وابن عمه ، ولو قيس الأمر بأقيسة الأهواء الشخصية والحظوظ النفسانية ، لكان الابن أولى ، أو ابن العم ، أو الصهر الذي تزوج عمر ، رضي الله عنه ، ابنته ، علي ، رضي الله عنه ، فإن له حظوة عنده ، وأين من زوجني ابنته ممن رد ابنتي ؟!! ، ولكنه التجرد من حظوظ النفس ، وحظ النفس في الانتقام ، حظ عظيم ، لا يسلم منه إلا أصحاب النفوس الكبيرة ، وأي نفس أكبر من نفس صنعت على عين الوحي ؟!! .
ويوما ما خرج أحد السذج عندنا في مصر ليقول بأن وجدان عمر ، رضي الله عنه ، على أبي سليمان ، خالد بن الوليد ، رضي الله عنه ، وسعيه عند الصديق ، رضي الله عنه ، في عزله ، وعزله بعد أن تولى الخلافة ، اجتهادا منه لئلا تتعلق النفوس بخالد ، رضي الله عنه ، إذ لا قبل لعدو به ، فهو الذي قيل فيه إنه : لا ينام ولا يدع غيره ينام !!!، وذلك مظنة أن الافتتان به ، ولا ريب ، خرج ذلك الساذج ليقول بأن ذلك كان على خلفية مشاجرة وقعت بينهما زمان الصبا إذ كانا من أشجع فتيان قريش ، فأسرها عمر ، رضي الله عنه ، في نفسه ، حتى تولى الخلافة فثأر من خالد على خلفية تلك "الخناقة" !!! ، كما يقال عندنا في مصر ، وذلك إن دل على شيء فإنما يدل على خسة همة القائل ، فهو يقيس نفوس الصدر الأول العلية على نفسه الدنية ، وقد علم ما كان بين الرجلين من الود الذي شابه ما شابه انتصارا للدين ، فلم يكن لأحدهما فيه حظ نفس ، حتى أوصى خالد لعمر فكان الأخير وصيه بعد موته ، وهي صورة أخرى من صور التجرد والترفع عن نوازع النفس .
وأولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : أبر الناس قلوبا وأعمقهم علما وأقلهم تكلفا ، كما وصفهم ابن مسعود ، رضي الله عنه ، وما ظنك برجال عدلهم الوحي هل يقبل فيهم جرح ؟!! .
اللهم ارض عن الصدر الأول صحب محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم أجمعين .
والله أعلى وأعلم .