ولادة بدون ألم..!ندى بنت عبدالعزيز محمد اليوسفي
وهي تتأرجح ما بين انقباضٍ وانقباض.. كأنّها تودّع الحياة.. كأنّ عظامها تُدَكّ.. وتُسحَقُ بين الرّحا.. كأنها في بحرٍ لا قرار له ولا ساحل.. يلاطمها الموجُ الكاسِر.. تتقلّب بين الخوف والرجاء.. تصرخ وتستغيث.. تتخبّط في الطريق.. تتناول الهاتف ببقيةِ عقلٍ تحمله وبصوتٍ يترنّح ألماً وينتفضُ رُعباً.. "احضر بسرعة.. أتاني الطّلق".. بجنونٍ يلتهمُ الخطا نحوها.. وكأن الشوارع أمامهُ لا نهاية لها.. ما أطول الطريق في نظره الليلة.. المستشفى أبعد بكثير مما تعوّد..، أخذ يُصارع المركبات العابِرة ويصرَع الإشارات.. تتنقل يدهُ بين الإمساك بالمقود.. وبين يدَي امرأتهِ المرتَجِفَة..، الخطبُ جلل.. وهي بجانبه تتألم.. تتأوّه.. تصرخ..، رعبُه لا حدّ له..، خوفُه لا مثيل له..، حيرتُه وألمه وترقّبه.. شعورٌ غريب..، و بنبرةِ من يتصنّع الجَلَد والقوة..وبلهجةِ من لا يملكُ من الأمر شيئاً.."حبيبتي.. اصبري.. لا تقلقي..لا تخافي.. لا تبكي.. ستكونين بخير.. بعد قليل ستسمعين أعذب لحن"..!!!
دائماً أسأل أي مريضةٍ ترفضُ إجراءً معيّناً أو فحصاً ما خوفاً من الألم؛ هل جرّبتِ الولادة؟، فعندما تردّ بالإيجاب؛ أقول لها أنه لا يوجد ألم أشد ولا أصعب من ذاك الألم، فتتمتم.. نعم صادقة..وتُسَلّم إليّ نفسُها طائعةً مُختَارَة وتستسلمُ للفحصِ بلا خوفٍ ولا تردد..!!!
أحقاً أن ألم الولادة بتلك الصعوبة..؟!! أحقاً أنّه لا يُنافسه في شدّته وقسوته ألم..؟!! هل لأجل ذلك تنافس المراكز الطبية بإعلاناتها عن ولادة بدون ألم..؟!! ويعمل أطباء التخدير جنباً إلى جنب مع أطباء النساء والولادة لدراسة أحدث الطرق للتخفيف من ألم الولادة..؟!!
لا أدري لماذا.. ولكن لغرفةِ الولادةِ عندي سحرها الذي لا يُقَاوَم.. أدخُلها فتنتعشُ نفسي.. وتُرَدُّ إليّ روحي..، أتجوّل في حُجراتها وبين أسرّتها فأشعرُ أني طائرٌ.. في السماء محلّق.. لا حدّ له.. ولا نهاية..!!
أدخلها فكأني دخلتُ عالماً آخر.. عالمٌ لا تسمعُ فيهِ إلا التأوّه.. والصراخ.. عالمٌ من الآلام.. وطولِ الانتظار..!! لكنه في أعماقِ نفسي.. عالمٌ أبعد بكثير عن هذا وعلى النقيض تماماً من كل هذا..!!!!!
لم يكُن ذلك اليوم كغيرهِ.. كل غُرَفِ الولادة مشغولة.. وكل الحوامل.. سيلدْنَ للمرة الأولى..!!، عبثاً أحاوِلُ الطمأنةَ وتخفيف الألم..، أمسك بيديّ هذه، وأُرجِع القناع إلى تلك..، أُصَبّر هذه التي أكملت يومين من الطّلق والألم..، واطلب من تلك الدّفع بأقصى قوتها..، ومن تلك التنفس العميق والاستلقاء على الجنب..، نُتابِع بقلق والقابلات انتظام انقباض الرحم وانبساطه..، ودفع الحياة في عروق الجنين بمتابعة دقات قلبه ونبضاته..!!