أكثر مترجموا الإمام جعفر الصادق من نقل حِكَمه ، وأجوبته المسكتة للأسئلة المشكلة ، تلك الأجوبة التي تبين عن سعة علمه وبُعد فهمه ، وما حباه الله به من سرعة البديهة ، واللسان المفصح عن جوامع المعاني ، وفقهه لمقاصد التشريع وأسراره ، وهو فضل الله يؤتيه من يشاء .
فقد سأله تلميذه سفيان بن عيينة بمكة في موسم الحج ، فقال : قدمت مكة فإذا أنا بأبي عبد الله جعفر بن محمد قد أناخ بالأبطح ، فقلت : يا ابن رسول الله ، لم جُعل الموقف من وراء الحرم ؟ - يعني عرفات – ولم يُصيَّر في المشعر الحرام ؟
فقال : الكعبة بيت الله ، والحرم حجابه ، والموقف بابه .
فلما قصده الوافدون ، أوقفهم بالباب يتضرعون ، فلما أذن لهم في الدخول أدناهم من الباب الثاني وهو المزدلفة .
فلما نظر إلى كثرة تضرعهم وطول اجتهادهم رحمهم ، فلما رحمهم أَمرهم بتقريب قربانهم ، فلما قربوا قربانهم ، وقضوا تفثهم ، وتطهروا من الذنوب التي كانت حجابا بينه وبينهم أمرهم بزيارة بيته على طهارة .
قال : فلِمَ كره (1) الصوم أيام التشريق؟
قال : لأنهم في ضيافة الله ، ولا يجب على الضيف أن يصوم عند من أضافه .
وروى أبو نعيم في الحلية بسنده إلى أحمد بن عمرو بن المقدم الرازي قال : وقع الذباب على المنصور - أبي جعفر الخليفة العباسي – فذبَّه عنه ، فعاد فذبَّه حتى أضجره فدخل جعفر بن محمد عليه ، فقال المنصور : يا أبا عبد الله لم خَلَق الله الذباب ؟
قال : ليذل به الجبابرة .
وقال جعفر الصادق لتلميذه سفيان الثوري : لا يتم المعروف إلا بثلاثة : بتعجيله ، وتصغيره ، وستره .
وروى تلميذه عائذ بن حبيب – وهو صدوق رُمِيَ بالتشيع – أن جعفر الصادق قال : لا زاد أفضل من التقوى ، ولا شيء أحسن من الصمت ، ولا عدوّ أضرّ من الجهل ، ولا داء أدوأ من الكذب .
وقال مرة يوصي ابنه موسى "الكاظم" : يا بني من قنع بما قُسم له استغنى .
ومن مدَّ عينيه إلى ما في يد غيره مات فقيرا .
ومن لم يرض بما قُسم له اتهم الله في قضائه .
ومن استصغر زلة غيره استعظم زلة نفسه .
ومن كشف حجاب غيره انكشفت عورته .
ومن سلَّ سيف البغي ، قُتِلَ به .
ومن احتفربئرا لأخيه أوقعه الله فيه .
ومن داخل السفهاء حُقر .
ومن خالط العلماء وُقِّر .
ومن دخل مداخل السَّوء اتُّهم .
يا بني : إياك أن تزري بالرجال فيُزْرَى بك .
وإياك والدخول فيما لا يعنيك فتذل لذلك .
يا بني : قل الحق لك وعليك تُستشار من بين أقربائك .
كن للقرآن تالياً ، وللإسلام فاشيا ، وللمعروف آمرا ، وعن المنكر ناهيا ، ولمن قطعك واصلا ، ولمن سكت عنك مبتدئا ، ولمن سألك معطيا ، وإياك والنميمة فإنها تزرع الشحناء في القلوب .
وإياك وعيوب الناس فمنزلة المتعرض لعيوب الناس كمنزلة الهدف .
إذا طلبت الجود فعليك بمعادنه ، فإن للجود معادن ، وللمعادن أصولا ، وللأصول فروعا ، وللفروع ثمرا ، ولا يطيب ثمر إلا بفرع ، ولا فرع إلا بأصل ، ولا أصل إلا بمعدن طيب . زر الأخيار ولا تزر الفجار فإنهم صخرة لا يتفجر ماؤها ، وشجرة لا يخضرُّ ورقها ، وأرض لا يظهر عُشبها .
ومن سرعة بديهته وموفور حكمته أن أصحابه سألوه مرة : لم حرّم الله الربا؟ فقال لئلا يتمانع الناس المعروف .
وهذا في الحقيقة من فواتح الله له في معرفة مقاصد الشرائع . وذا لا يحصل بالتكسب والتعلم – لكنه فضل يهبه الله لمن شاء من عباده- ، وربنا ذو فضل عظيم .
ومن النوادر في أجوبته المسكتة الحاضرة ما نقله صاحب ربيع الأبرار : أن رجلا قال لجعفر بن محمد الصادق : ما الدليل على الله؟ ولا تذكر لي العلم والعرض والجوهر ، فقال له : هل ركبت البحر؟ قال : نعم ، قال :هل عصفت بكم الريح حتى خفتم الغرق؟ قال : نعم ، قال : فهل انقطع رجاؤك من المركب والملاحين؟ قال : نعم ، قال :تتبعت نفسك أن ثَمَّ من ينجيك؟ قال : نعم ، قال : فإن ذاك هو الله ، قال الله تعالى : { وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه } ، { وما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون } .
ولذا نصَّ أبو حنيفة أنه لم ير أفقه من جعفر بن محمد .
(1) ( إذا سمعت هذه الكلمة عند متقدمي السلف فمعناه حرم ، حيث كانوا يتورعون عن إطلاق هذا التحريم على المسائل ، ومنه قول مالك أنه كره لأهل المدينة كلما دخل أحدهم المسجد وخرج الوقوف على قبر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم . نقله عنه النووي في منسكه2/69 من مخطوطات الظاهرية بدمشق ) .
المصدر : مناظرة بين الإمام جعفر الصادق رحمه الله تعالى وأحد الرافضة للشيخ علي بن عبد العزيز العلي آل شبل