قال الشيخ علي الطنطاوي : [ أما الحرب التي تواجه الإسلام الآن فهي أشد وأنكى من كل ما كان ، إنها عقول كبيرة جداً ، شريرة جداً ، تمدها قُوى قوية جداً ، وأموال كثيرة جداً ، كل ذلك مسخَّر لحرب الإسلام على خطط محكمة ، والمسلمون أكثرهم غافلون .
يَجِدُّ أعداؤهم ويهزلون ، ويسهر خصومهم وينامون ، أولئك يحاربون صفاً واحداً ، والمسلمون قد فرَّقت بينهم خلافات في الرأي ، ومطامع في الدنيا .
يدخلون علينا من بابين كبيرين ، حولهما أبواب صغار لا يُحصى عددها ، أما البابان الكبيران فهما باب الشبهات وباب الشهوات . أما الشبهات فهي كالمرض الذي يقتل من يصيبه ، ولكن سريانه بطيء وعدواه ضعيفة . فما كل شاب ولا شابة إذا ألقيت عليه الشبه في عقيدته يقبلها رأساً ويعتنقها .
أما الشهوات فهي داء يمرض وقد لا يقتل ، ولكن أسرع سرياناً وأقوى عدوى ، إذ يصادف من نفس الشاب والشابة غريزة غرزها الله ، وغرسها لتنتج طاقة تستعمل في الخير ، فتنشيء أسرة وتنتج نسلاً ، وتقوي الأمة ، وتزيد عدد أبنائها ، فيأتي هؤلاء فيوجهونها في الشر ، للذة العاجلة التي لا تثمر . طاقة نعطلها ونهملها ودافع أوجد ليوجه إلى عدونا ، لندافع بها عن بلدنا ، فنحن نطلقها في الهواء ، فنضيعها هباء ، أو يوجهها بعضنا إلى بعض .
هذا هو باب الشهوات وهو أخطر الأبواب . عرف ذلك خصوم الإسلام فاستغلوه ، وأول هذا الطريق هو الاختلاط .
بدأ الاختلاط من رياض الأطفال ، ولما جاءت الإذاعة انتقل منها إلى برامج الأطفال فصاروا يجمعون الصغار من الصبيان والصغيرات من البنات .
ونحن لا نقول أن لبنت خمس سنين عورة يحرم النظر إليها كعورة الكبيرة البالغة ، ولكن نقول أن من يرى هذه تُذَكِّرُهُ بتلك ، فتدفعه إلى محاولة رؤيتها .
ثم إنه قد فسد الزمان ، حتى صار التعدي على عفاف الأطفال ، منكراً فاشياً ، ومرضاً سارياً ، لا عندنا ، بل في البلاد التي نعدُّ أهلها هم أهل المدنية والحضارة في أوربا وأمريكا .
كان أعداء الحجاب يقولون أن اللواط والسحاق ، وتلك الانحرافات الجنسية سببها حجب النساء ، ولو مزقتم هذا الحجاب وألقيتموه لخلصتم منها ، ورجعتم إلى الطريق القويم . وكنا من غفلتنا ومن صفاء نفوسنا نصدقهم ، ثم لما عرفناهم وخبرنا خبرهم ، ظهر لنا أن القائلين بهذا أكذب من مسيلمة .
إن كان الحجاب مصدر هذا الشذوذ ، فخبروني هل نساء ألمانيا وبريطانيا محجبات الحجاب الشرعي ؟ فكيف إذن نرى هذا الشذوذ منتشراً فيهم حتى سَنّوا قانوناً يجعله من المباحات ؟
ثم إن أصول العقائد ، وبذور العادات ومبادئ الخير والشر ، إنما تغرس في العقل الباطن للإنسان ، من حيث لا يشعر في السنوات الخمس أو الست الأولى من عمره ، فإذا عودنا الصبي والبنت الاختلاط فيها ، ألا تستمر هذه العادة إلى السبع والثمان ؟ ثم تصير أمراً عادياً ينشأ عليه الفتى ، وتشب الفتاة ، فيكبران وهما عليه ؟ وهل تنتقل البنت في يوم معين من شهر معين ، من الطفولة إلى الصبا في ساعات معدودات ، حتى إذا جاء ذلك اليوم حجبناها عن الشباب ؟
أم هي تكبر شعرة شعرة ، كعقرب الساعة تراه في الصباح ثابتاً فإذا عدت إليه بعد ساعتين وجدته قد انتقل من مكانه . فهو إذن يمشي وإن لم تر مشيه ، فإذا عودنا الأطفال على هذا الاختلاط فمتى نفصل بينهم ؟
والصغير لا يدرك جمال المرأة كما يدركه الكبير ، ولا يحس إن نظر إليها بمثل ما يحس به الكبير ، ولكنه يختزن هذه الصورة في ذاكراته فيخرجها من مخزنها ولو بعد عشرين سنة . أنا أذكر نساء عرفتهن وأنا ابن ست سنين ، قبل أكثر من سبعين سنة . وأستطيع أن أتصور الآن ملامح وجوههن ، وتكوين أجسادهن .
ثم إن من تُشْرِف على تربيته النساء يلازمه أثر هذه التربية حياته كلها ، يظهر في عاطفته ، وفي سلوكه ، في أدبه ، إذا كان أديباً . ولا تبعد في ضرب الأمثال ، فهاكم الإمام ابن حزم يحدثكم في كتابه العظيم الذي ألَّفه في الحب " طوق الحمامة " حديثاً مستفيضاً في الموضوع .
خلق الله الرجال والنساء بعضهم من بعض ، ولكن ضرب بينهم بسورٍ له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قِبَلِهِ العذاب . فمن طلب الرحمة والمودة واللذة والسكون والاطمئنان دخل من الباب ، والباب هو الزواج . ومن تسوَّر الجدار أو نقب السقف ، أو أراد سرقة متعة ليست له بحق ، ركبه في الدنيا القلق والمرض وازدراء الناس ، وتأديب الضمير ، وكان له في الآخرة عذاب السعير ] " ذكريات الشيخ على الطنطاوي (5/268-271) "
هذا ما قاله الشيخ عن بلادٍ غير بلادنا ، والسعيد من وُعِظَ بغيره ولم يتعظ به الناس ، فليحذر الذين يدندنون حول هذا الموضوع في بلادنا أن يشملهم قوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } [النور:19]
جنبنا الله مسالك أهل الفساد والإفساد ، وجعلنا من الهُداة المهتدين ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين .