خطبة جمعة : ((كل مصيبة تهون إلا السخرية بالرسول ))
عبدالله البصري
أما بعدُ ، فأُوصيكم ـ أيها الناسُ ـ بتقوى اللهِ ـ عز وجل ـ والتي لا تحلو الحياةُ إلا بها ، ولا يَدخُلُ الجنةَ إلا أهلُها \" أَلا إِنَّ أَولِيَاء اللهِ لاَ خَوفٌ عَلَيهِم وَلاَ هُم يَحزَنُونَ . الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ . لَهُمُ البُشرَى في الحَياةِ الدُّنيَا وَفي الآخِرَةِ ، لاَ تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ، ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ \"
أيها المسلمون ، ومما أَبهَجَ القُلُوبَ وشَرَحَ الصدورَ ، وشمخَت به أُنُوفُ المؤمنين وأُرغِمَت أُنُوفُ الكافرين ، ما أَجمَعَ عليه جمهورُ المسلمين في مَشرقِ هذِهِ البِلادِ وغِربِها ، بل في كثيرٍ مِن بِلادِ الإِسلامِ ، مِن مُقَاطَعَةٍ لِسِلَعِ الذين استَهزَؤُوا بِرَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وما كان ذلك بِغَرِيبٍ عَلَيهم ولا مُستَنكَرٍ مِنهم ،
مَا كان مُستَكثَرًا منهم وما هو بِالكَثِيرِ ، في حَقِّ نَبِيِّهِم ورَسولِهِم وحَبِيبِهِم ، الذي بَعَثَهُ اللهُ نجاةً لهم وَرَحمَةً ، فَأَخرَجَهُم بِهِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النُّورِ ، وَجعلَ بِعثتَهُ هِدايَةً لهم مِنَ الضَّلالَةِ ، وَبَصَّرَهُم بِنُورِ ما جاء بِهِ مِنَ العَمَى ، وكان عَزِيزًا عليه ما يُعنِتُهُم حَرِيصًا عليهم ، بِالمُؤمِنِين رَؤوفًا رَحيمًا ...
وَكَيفَ لا يَنتَقِمُ المُسلِمُونَ ولو بِالقَلِيلِ ممَّن استَهزَأَ بِهِ وَسَخِرَ منه ؟ كيف لا يَفدُونَهُ بِآبَائِهِم وَأُمَّهاتِهِم وَأَنفُسِهِم بَلْهَ أَموَالِهِم ، وهو الذي ما وَدَّعَهُ رَبُّهُ وَمَا قَلاهُ ، شَرَحَ صَدرَهُ وَوَضَعَ وِزرَهُ ، وَرَفَعَ في العَالمين ذِكرَهُ ؟ كيف لا يَتَأَثَّرُونَ مِن أَجلِهِ وَتمتَلِئُ صُدُورُهُم غيظًا على مَن أَساءَ إليه ، وهو الذي سَخَّرَ اللهُ له مخلوقاتِهِ فَعَرَفَتْهُ وَهَابَتْهُ ، فَحَنَّ الجِذعُ بَينَ يَدَيهِ ، وَبَكَى الجَمَلُ شَاكِيًا إِلَيهِ ، وَسَبَّحَ الحَصَى بَينَ أَنَامِلِهِ ، وَسَلَّمَ عَلَيهِ الحَجَرُ وَالشَّجَرُ ، وَنَبَعَ المَاءُ مِن بَينِ أَصَابِعِهِ ، وَانقَادَت الشَّجَرَةُ في يَدِهِ ؟
إِنَّ ما حَدَثَ مِنَ المُسلِمِينَ ـ جزاهُمُ اللهُ خَيرًا عن نَبِيِّهِم ـ ما هو إلا تَعبِيرٌ عمَّا تُكِنُّهُ صُدُورُهُم مِن محبَّتِهِ ، وَإِيضَاحٌ لما تَنطَوِي عَلَيهِ قُلُوبُهُم مِن تَعزِيرِهِ وَتَوقِيرِهِ ، وذلك مِن صَرِيحِ الإِيمانِ ودلالاتِ كَمَالِهِ ، ولولا أَنَّ المُسلِمَ يُقَدِّمُ ما يُحِبُّهُ رَسُولُهُ على ما تُحِبُّهُ نَفسُهُ وتَشتَهِيهِ ، لما آمَنَ بِهِ تمامَ الإِيمانِ ، قال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ : \" لا يُؤمِنُ أَحدُكُم حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمعِينَ \" وقال ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ : \" ثَلاثٌ مَن كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاوَةَ الإِيمانِ : أَن يَكُونَ اللهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيهِ ممَّا سِوَاهما ، وَأَن يُحِبَّ المَرءَ لا يُحِبُّهُ إِلاَّ للهِ ، وَأَن يَكرَهَ أَن يَعُودَ في الكُفرِ بَعدَ إِذْ أَنقَذَهُ اللهُ مِنهُ كَمَا يَكرَهُ أَن يُلقَى في النَّارِ \"
ولمَّا قال عُمَرُ بنُ الخطابِ ـ رضي اللهُ عنه ـ : يا رَسولَ اللهِ ، لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ مِن نَفسِي ، قال له ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : \" لا والذي نَفسِي بِيَدِهِ ، حتى أَكونَ أَحَبَّ إِلَيكَ مِن نَفسِكَ \" فقال عُمَرُ : فَإِنَّهُ الآنَ لأَنتَ أَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي ، فقال له ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ : \" الآنَ يَا عمرُ \" وجاء رجلٌ إلى النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فقال : يا رَسولَ اللهِ ، متى الساعةُ ؟ قال : \" وَيلَكَ ، وَمَا أَعدَدتَ لها ؟ \" قال : ما أَعدَدتُ لها إلا أَني أُحِبُّ اللهَ وَرَسولَهُ . قال : \" أَنتَ مَعَ مَن أَحبَبتَ \"
قال ابنُ رَجَبٍ ـ رحمه اللهُ ـ : محبَّةُ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مِن أُصُولِ الإِيمانِ ، وهي مُقارِنَةٌ لِمَحَبَّةِ اللهِ ـ عز وجل ـ ، وقد قَرَنها اللهُ بها ، وَتَوَعَّدَ مَن قَدَّمَ عَلَيهِما محبَّةَ شَيءٍ مِنَ الأُمُورِ المُحَبَّبَةِ طَبعًا ، مِنَ الأَقَارِبِ وَالأَموَالِ وَالأَوطانِ وَغَيرِ ذلك ، فقال ـ تعالى ـ : \" قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُم وَأَبنَآؤُكُم وَإِخوَانُكُم وَأَزوَاجُكُم وَعَشِيرَتُكُم وَأَموَالٌ اقتَرَفتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخشَونَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرضَونَهَا أَحَبَّ إِلَيكُم مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ في سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأتيَ اللهُ بِأَمرِهِ ، وَاللهُ لاَ يَهدِي القَومَ الفَاسِقِينَ \"
وَلمَّا عَلِمَ الصحابةُ بذلك وعاصروا رَسولَ اللهِ وَعَايَشُوهُ ، وَلامَسُوا نُزُولَ الوَحيِ عَلَيهِ ، وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَصَحِبُوهُ حَضَرًا وَسَفَرًا ، وَعَلِمُوا مَن هُوَ رَسُولُ اللهِ حَقًّا وَصِدقًا ، كانت محبَّتُهُم له أَشَدَّ وَأَقوَى ، وَتَوقِيرُهُم له أَكمَلَ وَأَوفى ، وَتَعزِيرُهُم له أَسمى وَأَعلى ، أَحَبُّوهُ حُبًّا فَاقَ كُلَّ حُبٍّ ، وَوَدُّوهُ مَوَدَّةً غَلَبَت كُلَّ مَوَدَّةٍ ، فَآثَرُوهُ على النَّفسِ وَالوَلَدِ ، وَقَدَّمُوهُ على الآباءِ وَالأُمَّهَاتِ ، وَأَرخَصُوا مِن أجلِهِ الزَّوجَاتِ وَالضَّيعَاتِ ، وَفَارَقُوا لِصُحبتِهِ العَشَائِرَ وَالأَوطَانَ ...
وَهَجَرُوا المَسَاكِنَ وَالبُلدَانَ ، ووَدُّوا لو لم يُفَارِقُوهُ لحظَةً وَاحِدَةً ، وَضَرَبُوا في ذلك مِنَ الأَمثِلَةِ أَروَعَهَا ، وَسَجَّلُوا فِيهِ مِنَ المَوَاقِفِ أَصدَقَهَا ، وَكَانَت لهم مَعَهُ قِصَصٌ افتَخَرَ التَّأرِيخُ وهو يَروِيها ، وَابتَهَجَت كُتُبُ المَغَازِي وَالسِّيَرِ وهي تحكيها ، وَقَد كانت محبَّتُهُم له ـ صلى اللهُ عليه وسلم ظاهِرَةً لِلعيانِ ، أَدهَشَتِ العُقَلاءِ مِن أَعدَائِهِ ، فَشَهِدُوا بها وَأَبدَوُا استِغرَابَهُم منها ..
فها هو عُروَةُ بنُ مَسعودٍ الثَّقَفِيُّ ، وَقَد أَوفَدَهُ المُشرِكُونَ لِلتَّفَاوُضِ مَعَ رَسُول اللهِ في صُلحِ الحُدَيبِيَةِ ، يَقُولُ وقد عاد إلى أصحابِهِ : أَيْ قَومُ ، واللهِ لَقَد وَفَدْتُ على المُلُوكِ ، وَوَفَدْتُ على قَيصَرَ وَكِسرَى وَالنَّجَاشِيِّ ، واللهِ إِنْ رَأيتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصحَابُ محمَّدٍ محمَّدًا ، واللهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَت في كَفِّ رَجُلٍ مِنهُم ، فَدَلَكَ بها وَجهَهُ وَجِلدَهُ ، وَإِذَا أَمَرَهُم ابتَدَرُوا أَمرَهُ ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كادُوا يَقتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصوَاتَهُم عِندَهُ ، وَمَا يُحِدُّونَ إِلَيهِ النَّظَرَ تَعظِيمًا لَهُ ... رواه البخاريُّ ..
وَأَخرجَ الطبرانيُّ عن عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ قالت : جاء رجلٌ إلى النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فقال : يا رَسولَ اللهِ ، إِنَّكَ لأَحَبُّ إِليَّ مِن نَفسِي ، وَإِنَّكَ لأَحَبُّ إليَّ مِن وَلَدِي ، وَإِني لأَكُونُ في البَيتِ فَأَذكُرُكَ فَمَا أَصبِرُ حتى آتِيَ فَأَنظُرَ إِلَيكَ ، وَإِذَا ذَكَرتُ مَوتي وَمَوتَكَ عَرَفتُ أَنَّكَ إِذَا دَخَلتَ الجنةَ رُفِعتَ مَعَ النَّبِيَّينَ ، وَإِني إِذَا دَخَلتُ الجنةَ خَشِيتُ أَلا أَرَاكَ ، فَلَم يَرُدَّ عليه النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ شَيئًا حتى نَزَلَ جبريلُ ـ عليه السلامُ ـ بهذِهِ الآيةِ : \" وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنعَمَ اللهُ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا \" رَضي اللهُ عن هذا الصحابيِّ ما أبينَ محبَّتَهُ وَأَوضَحَ مَوَدَّتَهُ ! محبَّةٌ يُفَضِّلُ بها رَسولَ اللهِ على كُلِّ غالٍ ، وَمَوَدَّةٌ تجعلُهُ يَتَمَلمَلُ في بيتِهِ وبينَ أبنائِهِ ، فلا يَرتَاحُ حتى يَرَاهُ ، وَلَيسَ هذا وَكَفَى ، بَل تَفكِيرٌ يَتَعَدَّى حُدُودَ الدنيا ويَتَجَاوَزُها إلى الآخِرَةِ ، يخافُ معَهُ أن يُحرَمَ رؤيتَهُ في الجنةِ ، فأيُّ حُبٍّ هذا الذي مَلَكَ عليه دُنيَاهُ وآخرتَهُ ؟!
وَمِنَ المَوَاقِفِ التي ظََهَرَ فيها صِدقُ المحبَّةِ وَالمَوَدَّةِ ، ما رواه ابنُ إسحاقَ عن عائشةَ ـ رضي اللهُ عنها ـ أنها قالت : كان لا يُخطِئُ رَسولَ اللهِ أَن يَأتيَ بَيتَ أَبي بَكرٍ أَحَدَ طَرَفَيِ النهارِ ، إِمَّا بُكرَةً وَإِمَّا عَشِيَّةً ، حتى إذا كان اليَومُ الذي أَذِنَ اللهُ فِيهِ لِرَسُولِهِ بِالهِجرَةِ وَالخُرُوجِ مِن مكةَ مِن بَينِ ظَهرَي قَومِهِ ، أَتَانَا رَسولُ اللهِ بِالهَاجِرَةِ ، في ساعةٍ كان لا يَأتي فِيها . قالت : فَلَمَّا رآه أَبو بكرٍ قال : ما جَاءَ رَسولُ اللهِ في هذِهِ الساعةِ إِلاَّ لأَمرٍ حَدَثَ .
قالت : فلمَّا دَخَلَ تَأَخَّرَ له أَبو بكرٍ عن سَرِيرِهِ ، فَجَلَسَ رَسولُ اللهِ ، وَلَيسَ عِندَ رَسولِ اللهِ أَحَدٌ إِلاَّ أَنا وَأُختي أَسماءُ بِنتُ أَبي بكرٍ ، فقال رسولُ اللهِ : أَخْرِجْ عني مَن عِندَكَ . قال : يا رَسولَ اللهِ ، إِنَّمَا هُمَا ابنَتَايَ ، وما ذَاك فِدَاكَ أَبي وَأُمِّي ؟ قال : إِنَّ اللهَ قَد أَذِنَ لي في الخُرُوجِ والهِجرَةِ . قالت : فقال أَبو بكرٍ : الصُّحبَةَ يَا رَسولَ اللهِ ، قال : الصُّحبَةُ . قالت : فَوَاللهِ ما شَعُرتُ قَطُّ قَبلَ ذلك اليَومِ أَنَّ أَحَدًا يَبكِي مِنَ الفَرَحِ ، حتى رَأَيتُ أَبا بكرٍ يَومَئِذٍ يَبكِي .
اللهُ أكبرُ ـ أيها المسلمون ـ فَدَى أَبو بَكرٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ رسولَ اللهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ، وَأَرخَصَ كُلَّ غَالٍ وَنَفِيسٍ ، وَنَسِيَ كُلَّ قَرِيبٍ وَعَزيزٍ ، ولم يَتَذَكَّرْ إِلاَّ صُحبَةَ رَسولِ اللهِ ، نعم ، إِنَّهُ يُرِيدُ شَرَفَ الصُّحبَةِ في الهِجرةِ ، يُرِيدُ أَلاَّ يُفَارِقَ حَبِيبَهُ وَخَلِيلَهُ ، يُرِيدُ أَن يَصحَبَهُ مُقِيمًا وَمُسافِرًا ، فَلَم يُفَكِّرْ في شَيءٍ إِلاَّ في الصُّحبَةِ ، فَسَأَلَهَا رَسولَ اللهِ وَطَلَبِ منه أَن يُشَرِّفَهُ بها ، فَلَمَّا وَافَقَ على ذلك الحبيبُ ، ونال الصِّدِّيقُ وِسَامَ الشَّرَفِ ، بَكَى ـ رضي اللهُ عنه ـ وَذَرَفَت عَينَاهُ ، لماذا ؟ فَرَحًا بِصُحبَةِ حبيبِهِ رسولِ اللهِ .. فَأَيَّ قَلبٍ هذا الذي يَملِكُهُ ؟ وَأَيَّ فُؤَادٍ يحمِلُ بَينَ أَضلُعِهِ ، وَأَيَّ حُبٍّ يَنطوِي عَلَيهِ ، إِنَّهُ حُبٌّ لا يُفَكِّرُ مَعَهُ في أَهلٍ ولا وَطَنٍ ، إِنَّهُ حُبٌّ يُنسِيهِ أَبنَاءَهُ وَمَا مَلَكَت يَمِينُهُ ، فَرَضِيَ اللهُ عنه وَأَرضَاهُ مَا أَقوَى إِيمَانَهُ !! وَرَفَعَ دَرَجتَهُ في الجنةِ ما أَصدَقَ حُبَّهُ !
وَلَيس هذا فَحَسبُ ، بل تَعالَوا نَسمَعْ مَا بَعدَهُ ، فقد روى الحاكمُ في مُستَدرَكِهِ ، عن محمدِ بنِ سِيرِينَ ـ رحمه اللهُ ـ قال : ذُكِرَ رِجَالٌ على عَهدِ عمرَ ـ رضي اللهُ عنه ـ فكأنهم فَضَّلُوا عُمَرَ على أَبي بَكرٍ ـ رضي اللهُ عنهما ـ قال : فَبَلَغَ ذلك عُمَرَ ـ رضي اللهُ عنه ـ فقال : وَاللهِ لَلَيلَةٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ ، وَلَيَومٌ مِن أَبي بكرٍ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ ، لَقَد خَرَجَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ لِيَنطَلِقَ إلى الغَارِ وَمَعَهُ أَبو بكرٍ ، فَجَعَلَ يمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيهِ وَسَاعَةً خَلفَهُ ، حتى فَطِنَ له رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فقال : \" يا أَبا بكرٍ ، مالك تمشِي سَاعَةً بَينَ يَدَيَّ وَسَاعَةً خَلفِي ؟ \" فقال : يا رَسولَ اللهِ ، أَذكُرُ الطَّلَبَ فَأَمشِي خَلفَكَ ، ثم أَذكُرُ الرَّصَدَ فَأَمشِي بَينَ يَدَيكَ . فقال : \" يا أَبا بكرٍ ، لَو كَان شَيءٌ أَحبَبتَ أَن يَكونَ بِكَ دُونِي ؟ \" قال : نَعَمْ ، والذي بَعَثَكَ بِالحَقِّ ، ما كانت لِتَكونَ مِن مُلِمَّةٍ إِلاَّ أَن تَكونَ بي دُونَكَ . فَلَمَّا انتَهَيَا إلى الغارِ قال أبو بكرٍ : مَكَانَكَ يَا رَسولَ اللهِ حتى أَستَبرِئَ لَكَ الغَارَ ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَهُ ، حتى إذا كان في أَعلاهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لم يَستَبرِئِ الحُجرَةَ ، فقال : مَكَانَكَ يَا رَسولَ اللهِ حتى أَستَبرِئَ الحُجرَةَ ، فَدَخَلَ وَاستَبرَأَ ثم قال : اِنزِلْ يَا رَسولَ اللهِ ، فَنزَلَ .
فقال عُمَرُ : والذي نَفسِي بِيَدِهِ ، لَتِلكَ اللَّيلَةُ خَيرٌ مِن آلِ عُمَرَ ... فَانظُرُوا كيف فَعَلَتِ المحبَّةُ الصَّادِقَةُ بِأَبي بكرٍ وَأَيَّ شَيءٍ أَدَّى بِهِ الخَوفُ عَلَى النبيِّ مِنَ المُشرِكِينَ ، يَتَمَنَّى لَوِ استطاع أَن يَحمِيَهُ مِن خَلفِهِ وَمِن أَمَامِهِ ، وَيَوَدُّ لَوِ انقَسَمَ فَصَارَ قِسمٌ مِنهُ بَينَ يَدَيهِ وَآخَرُ مِن خَلفِهِ ، فلا يجِدُ وَلا يَستَطِيعُ إِلاَّ أَن يُبَادِلَ المَشيَ مِن هُنا وَمِن هُنا ، لَعلَّ مَا قد يُرِيدُ الرَّسولَ بأذى أن يَقَعَ لهُ هو دُونَ الحبيبِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ ثم يُكَرِّرُ مَشهَدَ المَوَدَّةِ في الغارِ ، فَيَدخُلُهُ قَبلَ الحبيبِ ؛ لِيُنَظَِّفَهُ ممَّا قد يَكُونُ فيه مِن هَوَامَّ وَخَشَاشٍ أَو أَشوَاكٍ أَو نحوِها ، لِئلا تُؤذِيَ رَسولَ اللهِ أَو تمسَّهُ بما يَكرَهُ ، فَرَضِيَ اللهُ عن صِدِّيقِ الأُمَّةِ وَأَعلَى دَرَجَتَهُ ،...
وَرَضِيَ اللهُ عن أَبي طَلحَةَ وَزَيدِ بنِ الدِّثِنَّةِ وعن سائِرِ الأصحابِ ، أَمَّا زَيدُ بنِ الدِّثِنَّةِ ـ رضي اللهُ عنه ـ فإنه لمَّا اجتَمَعَ رَهطٌ مِن قُرَيشٍ لقتلِهِ ، وقال له أبو سُفيَانَ حِينَ قُدِّمَ لِيُقتَلَ - : أَنشُدُكَ بِاللهِ يَا زَيدُ ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ عِندَنَا مَكَانَكَ نَضرِبُ عُنُقَهُ وَأَنَّكَ في أَهلِكَ ؟ قال : واللهِ ما أُحِبُّ أَنَّ محمدًا الآنَ في مَكَانِهِ الذي هو فيه تُصِيبُهُ شَوكَةٌ تُؤذِيهِ وَأني جالسٌ في أَهلي !! فقال أَبو سُفيَانَ : مَا رَأَيتُ مِنَ الناسِ أَحدًا يُحِبُّ أَحَدًا كَحُبِّ أَصحَابِ محمدٍ محمدًا ، ثم قَتَلُوهُ ـ رضي اللهُ عنه ـ وَأَمَّا مَوقِفُ أبي طلحةَ فقد رواه البخاريُّ عن أنسٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال : لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ انهزمَ الناسُ عنِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ وأَبو طلحةَ بَينَ يَدَيِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مُجَوِّبٌ عَلَيهِ بِحَجَفَةٍ له ( أَيْ مُحِيطٌ بِهِ بِتُرسٍ لِيَحمِيَهُ ) ...
وكان أبو طلحةَ رجلاً رَامِيَا شَدِيدَ القِدِّ ( أَيْ أَنَّ وَتَرَ قوسِهِ مَشدُودٌ لِقَوِّتِهِ ) يَكسِرُ يَومَئِذٍ قَوسَينِ أَو ثَلاثًا ، وكان الرجُلُ يَمُرُّ مَعَهُ الجَعبَةُ مِنَ النَّبْلِ ، فَيَقُولُ : انثُرها لأبي طَلحَةَ ، فَأَشرَفَ النبيُّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ يَنظُرُ إلى القَومِ ، فَيَقُولُ أَبو طلحةَ : يَا نبيَّ اللهِ ، بِأَبي أَنتَ وَأُمِّي ، لا تُشرِفْ يُصبْكَ سَهمٌ مِن سِهَامِ القَومِ ، نحري دُونَ نحرِكَ ..
فَرَضِيَ اللهُ عنه وأرضاه ، ما أَغلَى مَا فَدَى بِهِ رَسولَ اللهِ ! فَدَاهُ بِنَحرِهِ وَوَقَاهُ بِصَدرِهِ ، وَجَعَلَ نَفسَهُ حَائِطًا يَصُدُّ سِهَامَ القَومِ عَن جَسَدِ الحبيبِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ
أيها المسلمون ، ولم يَكُنْ أَمرُ محبَّةِ النبيِّ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مَقصورًا على الرِّجالِ مِنَ الصحابةِ دُونَ النِّساءِ ، بل لَقَد كان فِيهِنَّ مَن ضَرَبَت في ذلك مثلا ، فقد أخرج الطبرانيُّ عن أنسِ بنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه ـ قال : لمَّا كان يَومُ أُحُدٍ حَاصَ أَهلُ المَدِينةِ حَيصَةً وقالوا : قُتِلَ محمدٌ ، حتى كَثُرتِ الصَّوارِخُ في نَاحِيَةِ المَدينةِ ، فَخَرَجَتِ امرأةٌ مِنَ الأَنصَارِ مُتَحَزِّمَةً ، فَاستُقبِلَت بِابنِها وَأَبِيها وَزَوجِها وَأَخِيها ، لا أَدرِي أَيَّهُم استُقبِلَت بِهِ أَوَّلاً ، فَلَمَّا مَرَّت على آخرِهِم ، قالت : مَن هذا ؟ قالوا : أَبوكِ ، أَخوكِ ، زَوجُكِ ، ابنُكِ ، تَقُولُ : ما فَعَلَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ ؟ يَقُولُونَ : أَمَامَكِ ، حتى دُفِعَت إلى رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَأَخَذَت بِنَاحِيَةِ ثَوبِهِ ، ثم قالت : بِأَبي أنت وَأُمِّي يَا رَسولَ اللهِ ، لا أُبَالي إِذَا سَلِمَتَ مِن عَطَبٍ ... وفي السِّيرةِ لابنِ هِشامٍ أنه ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ مَرَّ بِامرأةٍ مِن بَني دِينَارٍ وقد أُصِيبَ زَوجُها وَأَخُوها وَأَبُوها مَعَهُ بِأُحُدٍ ، فَلَمَّا نُعُوا لها قَالَت : فَمَا فَعَلَ رَسولُ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ ؟ قَالُوا : خَيرًا يَا أُمَّ فُلانٍ ، هو بِحَمدِ اللهِ كَمَا تُحبِّينَ ، قالت : أَرُونِيهِ حتى أَنظُرَ إِلَيهِ . قال : فَأُشِيرَ لها إليه ، حتى إذا رَأَتْهُ ، قالت : كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعدَكَ جَلَلٌ ..
أَيْ كُلُّ مُصِيبَةٍ دُونَكَ هَيِّنَةٌ صَغِيرَةٌ . فَرَضِيَ اللهُ عن صحابةِ رَسولِ اللهِ وأرضاهم ، وجزاهم خيرًا عن نَبِيِّهِم وَدِينِهِم ، فقد آمنوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ حَقَّ الإِيمانِ ، وَجَاهَدُوا في سَبِيلِ اللهِ وَنَافَحُوا عن رَسولِ اللهِ ، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ : \" وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحسَانٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُم وَرَضُوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنَّاتٍ تَجرِي تَحتَهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الفَوزُ العَظِيمُ \"
أما بَعدُ ، فاتقوا اللهَ ـ تعالى ـ حَقَّ التقوى ، وتمَسَّكوا مِنَ الإِسلامِ بِالعُروةِ الوُثقى \" وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا \" .
أيها المسلمون ، وَإِذَا كان ما سَبَقَ مِن مَوَاقِفَ لِلصَّحَابَةِ الكِرامِ ـ رُضوانُ اللهِ عليهم ـ تَدُلُّ على شَدِيدِ محبَّتِهِم لِنَبِيِّهِم وحبِيبِهِم ـ عليه الصلاةُ والسلامُ ـ فَإِنَّ في أُمَّتِهِ الآنَ مَن يُحِبُّهُ حُبًّا شَدِيدًا ، يَوَدُّ مَعَهُ لَو رَآهُ وَأَنَّهُ لم يَرَ مَالاً وَلا أَهْلاً ، روى مُسلِمٌ عنه ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ أنه قال : \" مِن أَشَدِّ أُمَّتي لي حُبًّا نَاسٌ يَكُونُونَ بَعدِي ، يَوَدُّ أَحَدُهُم لَو رَآني بِأَهلِهِ وَمَالِهِ \"
وَإِذَا كان الصحابةُ قد فَدَوا رَسولَ اللهِ بِأَروَاحِهِم وَمَا يملِكُونَ ، فَإِنَّهُ لا يُعجِزُ أَحدَنَا ـ أيها المسلمون ـ أَن يَستَمِرَّ في مُقَاطَعَتِهِ لِمَنِ استَهزَؤُوا بِهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلم ـ فَوَاللهِ مَا قَامَت حَيَاةُ أَحدِنا على زُبدَةٍ وَلا جُبنَةٍ ، وَلا على حَلِيبٍ أَو لَبنٍ ، يَصنَعُهُ هؤلاءِ أَو يُنتِجُونَه ، ثم يُسَوِّقُونَهُ لَدَينا مُمتَصِّينَ أَموَالَنَا ، ثم يُحَارِبُونَنَا بها وَيَستَهزِئُونَ بِرَسُولِنَا وحَبيبِنا ..
ألا فَرَحِمَ اللهُ امرَأً استَمَرَّ في مُقاطَعتِهِ أعداءَ الله ورسولِهِ ، سُخْطَةً لِلحَبِيبِ ، فَلَعَلَّهُ بِذَلك أَن يَنَالَ مِنَ الفَلاح نَصِيبًا ، يَقُولُ ـ سبحانَه ـ : \" فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ \"
ولا تهولَنَّكُم ـ أيها المسلمون ـ خِطَّةُ هؤلاءِ الكَفَرَةِ مِن دُوَلِ أَورُوبا ، حَيثُ عَمِلُوا على تَوسِيعِ دَائِرَةِ السُّخرِيَةِ وَالاستِهزَاءِ ، مُرِيدِينَ بِذَلكَ أَن تَتَّسِعَ دَائِرَةُ المُقَاطَعَةِ فَنَعجِزَ عنها أَو نَكَلَّ أَو نَمَلَّ ، أَلا فَلْنَثْبُتْ على مُقَاطَعَتِنا لِمَن نَستَطِيعُ مُقَاطَعَتَهُ مِن هَذِهِ الدُّوَلِ ، وَإِلاَّ فَلا أَقَلَّ مِن مُقَاطَعَةِ الدولةِ التي تَوَلَّت كِبرَ هذِهِ المُحَارَبَةِ لِنَبِيِّنا وَبَدَأَت بِالسُّخرِيَةِ منه ، أَعني الدنماركَ \" فاتقوا اللهَ ما استطعتم \"
المصدر