داود بن سليمان العبيدي
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي نزيل بغداد :
كان صاحبي يسار بن صادق بن عبد ربه البغدادي ، شابًا غلبته نفسه وتمكنت منه شهوته ، فانصرف عن أمور آخرته إلى دنياه ، وعن التجارة الرابحة إلى التجارة الخاسرة ، وعن مدارج السالكين العارفين ، إلى مباذل الغافلين الخاسرين ..!!
ولم يكن من قبل هذا حاله ، وما كان أحد من أصحابه يظن أنه إلى هذا سيكون مآله ، لأنه كان قد نشأ في طاعة الله ، واشتهر بورعه وتقاه ، حتى عرف بين أقرانه بالراهب ، وسمَّاه بعضهم : (( حمامة المسجد )) هذا ما ذكره لنا الشيخ الثقة أبو العرفان ، وبالله تعالى التوفيق .
وسبحان الله ، ثم سبحان الله ، كيف تتغير النفوس من حال إلى حال ، وكيف تصاب الروح المؤمنة القوية بالهزال ؟! كنت والله أغبط هذا الفتى على ما أوتي من ورع وتقى ، وتوفيق إلى الخير وهو في ريعان الصبا .. فقد قرأ كتب الأولين ، ونال حظًا وافرًا من العلم والدين ، وتأثر بالحسن البصري ومالك وابن دينار ، وطاووس وحبيب العجمي ، رحمهم الله أجمعين .. وقرأ كتب أبي حامد الغزالي حتى قال : ليس من الأحياء من لم يقرأ الإحياء ! ولقد سمعت صاحبه أبا الحسن يقول :
- سيقوم يسار في الآخرين ، مقام عبدالرحمن القس في الأولين .! وكان كثير الصمت ، قليل الكلام ، فإذا تحدَّث ، تحدَّث همسًا أو ما يشبه الهمس ، ولكن حديثه ينفذ إلى القلب ، فيه الحلاوة والطلاوة ، بسحر السامع ويأخذ بلبه ، ويستولي عليه ، فلا يدري أهو أسير حديثه أم أسير محدثه !
وكان قد أسر بأحاديثه هذه ، جارية فارسية يقع بيتها في نهاية سوق الخبازين ، قريبًا من بيت أبي الحسن الورَّاق صاحب المصنفات المعروفة .. أسرها بأحاديثه ، وأسرته بجمالها ورقتها وعذوبة صوتها .. فأخذ يتردد عليها كثيرًا ، حتى ملأت نفسه ، وملكت قلبه ، فشغف بها ، وشغفت به ، فلم تعد تصبر على فراقه يومًا أو بعض يوم !!
ولكنه على ما ينقل الثقات ، قد أمسك بلجام نفسه ، وسيطر على دوافع شهوته ، فلم يطأ محرمًا قط .. وتحدث إلى غير واحد ، أنه كان يذهب إلى بعض مجالس الشباب الخالية ، الذين يسهرون الليل على صوت الدف والغناء وكؤوس الخمر ، ولكنه لا يشربها .
ووالله إني لفي حيرة ، كيف استطاعت هذه الجارية الفارسية أن تسحره ، وتستولي عليه ، وتسلبه عقله ولبه ؟! ولكننا لا نستطيع الآن أن نصب عليه اللوم ، ولابد من الرجوع إلى أقوال أهل الخبرة من القوم فقد كان أبو العرفان يصب اللوم الشديد على من صار بها ولهان .. وما إن ترددت الجارية على دكانه عددًا من المرات حتى نظم فيها قصيدة عنوانها (( أوقعتني في الحب )) .
فإذا كان هذا الرجل ، وهو على ما نعلم من علو القدم ، يقع في هواها ، وينظم قصيدة بمعناها ، فلا حول ولا قوة إلا بالله ، ونعوذ بالله من فتنة النساء .
قال محمد بن إسحاق بن حسن الموصلي :
ولقد علمت بتفاصيل القصة بعد حين ، وحدثني بها من لا أتهم في عقل ولا دين ، وذكر لي كيف بدأت الحكاية ، وكيف سار صاحبنا يسار في طريق الغواية ، وسأذكرها كلها من البداية إلى النهاية ، وهي والحق يقال ، لو اطَّلع عليها البشر ، لكانت عبرة لمن اعتبر .
وسنبدأ بذكر الشيوخ الذين روينا عنهم هذه الأخبار ، وهم أصحاب الفضل في نقل كل ما جرى ودار .. فأولهم الشيخ أبو الحسن الورَّاق ، صاحب المصنفات المعروفة ، وهو أشهر من أن يشير إليه بنان ، أو يتحدث عنه لسان ، ثم الشيخ أبو العرفان بن علي ، وقد اشتهر برواية الشعر والأدب والأخبار .. وكان أطول من القصير ، بدينًا ليس بإفراط ، وكان إذا تحدّث جذب إليه آذان مستمعيه ، لما يأتي به من كل جديد وطريف . ثم الشيخ جواد بن جعفر بن حسن ، وهو أحد شيوخ الرسامين في بغداد ، وقد حدثني غير واحد ، أنه استطاع أن يرسم جانب الرصافة الممتد من المدرسة المستنصرية في انحدار النهر إلى ما شاء الله تعالى . وكانت صورة بارعة يقال إنه لم ينته من رسمها بعد .
هؤلاء هم من روينا عنهم هذه الأخبار ، وغيرهم ممن لم نثبت أسماءهم رغبة في الاختصار .. وبالله تعالى التوفيق وله وحده الفضل والمنة ، والحمد لله عدد آناء الليل وأطراف النهار .