السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
قال علي بن المديني: حدّثنا هشام بن يوسف الصنعاني أبو عبد الرحمن قاضي صنعاء، قال: أخبرني داود بن قيس قال: " كان لي صديق من أهل بيت خَوْلان من حَضور يقال له: أبو شَمِر ذوخولان، قال: فخرجت من صنعاء أريد قريتَه، فلما دنوت منها وجدت كتابا مختوما فيظهره: ( إلى أبي شَمِر ذي خولان )، فجئته فوجدته مهموما حزينا، فسألته عن ذلك،فقال: قدم رسولٌ من صنعاء، فذكر أن أصدقاء لي كتبوا إليّ كتابا فضيّعه الرسول،فبعثت معه من رقيقي من يلتمسه من قريتي وصنعاء فلم يجدوه، وأشفقت من ذلك. قلت: فهذاالكتاب قد وجدته. فقال: الحمد لله الذي أقدركَ عليه، ففضّه فقرأه. فقلت: أقرئنيه. فقال: إني لأَستحدثُ سِنَّك. قلت: فما فيه؟ قال: ضَرْبَ الرِّقاب. قلت: لعلّه كتبه إليك ناس من أهل حروراء في زكاة مالِك؟ قال: من أين تعرفهم؟ قلت: إني وأصحاباً لينُجالس وهب بن منبّه، فيقول لنا: احذروا أيها الأحداث الأغمار هؤلاء الحروراء، لايُدخلوكم في رأيهم المخالف، فإنهم عُرّةٌ لهذه الأمة، فدفعَ إليّ الكتاب فقرأته فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم. إلى أبي شَمِر ذي خولان سلام عليك، فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ونوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له،فإن دين الله رُشد وهدى في الدنيا، ونجاة وفوز في الآخرة، وإن دين الله طاعة،ومخالفة من خالف سنة نبيه وشريعته، فإذا جاءك كتابنا هذا فانظر أن تؤدي ـ إن شاءالله ـ ما افترض الله عليك من حقّه، تستحق بذلك ولاية الله وولاية أوليائه، والسلام عليك ورحمة الله.
فقلت له: فإني أنهاك عنهم، قال: فكيف أتّبع قولك وأترك قول من هو أقدم منك؟ قال: قلت: أفتحب أن أُدخلك على وهب بن منبّه حتى تسمع قوله ويخبرك خبرَهم؟ قال: نعم! فنزلت ونزل معي إلى صنعاء، ثم غدونا حتى أدخلته على وهب بن منبّه، ومسعودُ بنُ عوف والٍ على اليمن من قِبل عروة بن محمد ـ قال علي بن المديني: هو عروة بن محمد بن عطية السّعدي، ولاؤنا لهم من سعد بن بكر بن هوازن قال: فوجدنا عند وهب نفرا من جلسائه، فقال لي بعضُهم: من هذا الشيخ؟ فقلتُ: هذا أبوشَمِر ذو خولان من أهل حَضور وله حاجة إلى أبي عبد الله، قالوا: أفلا يذكرها؟ قلت: إنها حاجة يريد أن يستشيره في بعض أمره، فقام القوم، وقال وهب: ما حاجتك يا ذاخولان؟ فهَرَج وجبُن من الكلام، فقال لي وهب: عبِّر عن شيخك، فقلت: نعم يا أبا عبدالله! إن ذا خولان من أهل القرآن وأهل الصلاح فيما علمنا، والله أعلم بسريرته،فأخبرَني أنه عرضَ له نفرٌ من أهل صنعاء من أهل حروراء فقالوا له: زكاتك التي تؤدِّيها إلى الأمراء لا تُجزي عنك فيما بينك وبين الله؛ لأنهم لا يضعونها في مواضعها، فأدِّها إلينا فإنا نضعها في مواضعها، نقسمها في فقراء المسلمين ونقيم الحدود، ورأيت أن كلامَك يا أبا عبد الله! أشفى له من كلامي، ولقد ذكر لي أنه يؤدي إليهم الثمرة للواحد مائة فرق على دوابّه ويبعث بها مع رقيقه. فقال له وهب: يا ذاخولان أتريد أن تكون بعد الكِبَر حروريا ( يعني خارجياً من الخوارج )؟!، تشهد على من هو خير منك بالضلالة؟! فماذا أنت قائل لله غدا حين يقفك الله ومن شهدتَ عليه؟!،الله يشهد له بالإيمان وأنت تشهد عليه بالكفر؟! والله يشهد له بالهدى، وأنت تشهدعليه بالضلالة؟! فأين تقع إذا خالف رأيُك أمرَ الله وشهادتُك شهادةَ الله؟! أخبِرني يا ذا خولان! ماذا يقولون لك؟ فتكلّم عند ذلك ذو خولان، وقال لوهب: إنهم يأمرونني أن لا أتصدّق إلا على من يرى رأيهم، ولا أستغفر إلا له، فقال له وهب: صدقتَ، هذه محنتهم الكاذبة! فأما قولهم في الصدقة فإنه قد بلغني أن رسول اللهذكر أن امرأة من أهل اليمن دخلت النار في هرّة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، أَفي إنسان ممن يعبد الله ويوحِّده ولا يشرك به شيئا أحب إلى الله من أن يُطعمه من جوع أو هرة؟! والله يقول في كتابه:{ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ علَى حُبِّه ِمِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَنُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً. إِنَّا نَخَافُ مِن رَبِّنَا يَوْماًعَبُوساً قَمْطَرِيراً} يقول: يوماً عسيراً غضوباً على أهل معصيته لغضب الله عليهم، {فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ اليَوْمِ} ـ حتى بلغ {وكانَ سَعْيُهُم مَشْكُوراً} ـ ثم قال وهب: ما كاد تبارك وتعالى أن يفرغ من نعت ما أعد لهم بذلك من النعيم في الجنة.
وأما قولهم: لا يُستغفر إلا لمن يرى رأيهم! أَهم خير من الملائكة؟ والله تعالى يقول في سورة {حم عسق}: {وَالمَلاَئِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأَرْضِ}، وأنا أُقسم بالله ماكانت الملائكة ليقدروا على ذلك ولا ليفعلوا حتى أُمروا به؛ لأن الله تعالى قال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالقَوْلِ وِهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، وأنه أُثبتت هذه الآية في سورة {حم عسق}، وفُسّرت في {حم} الكبرى؛ قال: {الَّذِينَ يَحْمِلُون َالعَرْشَ وَمَن حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِه ِوَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ ءَامَنُوا} الآيات، ألا ترى يا ذا خولان؟! إني قدأدركت صدر الإسلام، فوَالله ما كانت للخوارج جماعةٌ قط إلا فرّقها الله على شرِّحالاتهم! وما أظهر أحد منهم قوله إلا ضرب الله عنقَه! وما اجتمعت الأمة على رجل قطمن الخوارج! ولو أمكنَ اللهُ الخوارج من رأيهم لفسدت الأرض، وقطعت السبلُ، وقُطع الحج عن بيت الله الحرام! وإذن لعاد أمر الإسلام جاهلية حتى يعود الناس يستعينون برؤوس الجبال كما كانوا في الجاهلية، وإذن لقام أكثر من عشرة أو عشرين رجلا ليسمنهم رجل إلا وهو يدعو إلى نفسه بالخلافة، ومع كل رجل منهم أكثر من عشرة آلا فيُقاتل بعضهم بعضا! ويشهد بعضُهم على بعض بالكفر! حتى يُصبح الرجل المؤمن خائفا على نفسه ودينه ودمه وأهله وماله، لا يدري أين يسلك أو مع من يكون!! غير أن الله بحكمهوعلمه ورحمته، نظر لهذه الأمة فأحسن النظر لهم، فجمعهم وألّف بين قلوبهم على رجلواحد ليس من الخوارج، فحقن الله به دماءهم، وستر به عوراتهم وعورات ذراريهم، وجمعبه فُرْقتَهم، وأمَّن به سبلهم، وقاتل به عن بيضة المسلمين عدوَّهم، وأقام بهحدودهم، وأنصف به مظلومهم، وجاهد به ظالمهم، رحمة من الله رحمهم بها قال الله تعالى في كتابه: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} إلى {العَالَمِينَ}، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً} حتى بلغ {تَهْتَدُونَ}،وقال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينِ ءَامَنُوا} إلى {الأَشْهَادُ} فأين هم من هذه الآية؟! فلو كانوا مؤمنين لنُصروا! وقال: {وَلَقَدْسَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبَادِنَا المُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ المَنصُورُونَ. وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغَالِبُونَ}، فلو كانوا جند الله غَلبوا ولو مرة واحدةفي الإسلام، وقال الله تعالى: {ولَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَىقَوْمِهِمْ} حتى بلغ {نَصْرُ المُؤْمِنِينَ}، فلو كانوا مؤمنين نُصروا!، وقال: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ} حتى بلغ {لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً}، فأين هم من هذا؟! هل كان لأحد منهم قط أَخبر إلى الإسلام من يوم عمر بن الخطاب بغير خليفة ولا جماعةولا نظر، وقد قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالُهَدى وَدِين ِالحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، وأنا أشهد أن الله قد أنفذ للإسلام ما وعدهم من الظهور والتمكين والنصر على عدوهم، ومن خالف رأي جماعتهم.
وقال وهب: ألا يَسَعك يا ذا خولان! من أهل التوحيد وأهل القبلة وأهل الإقرار لشرائع الإسلام وسننه وفرائضه ما وسع نبي الله نوحا من عبدةالأصنام والكفار إذ قال له قومه: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ} حتى بلغ {تَشْعُرُونَ}؟! أَوَلاَ يسعك منهم ما وسع نبي الله وخليله إبراهيم من عبدةالأصنام إذ قال: {واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} حتى بلغ {غَفُورٌرَحِيمُ}؟! أَوَلاَ يسعك يا ذا خولان! ما وسع عيسى من الكفار الذين اتخذوه إلها من دون الله؟! إن الله قد رضي قول نوح وقول إبراهيم وقول عيسى إلى يوم القيامة ليقتدي َبه المؤمنون ومَن بعدهم، يعني: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنتَ غْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، ولا يخالفون قول أنبياءالله ورأيهم فيمن يقتدي إذا لم يقتد بكتاب الله وقول أنبيائه ورأيهم، واعلم أن دخولك عليّ رحمة لك إن سمعت قولي وقبلتَ نصيحتي لك، وحجة عليك غداً عند الله إن تركت كتاب الله وعُدت إلى قول حروراء.
قال ذو خولان: فما تأمرني؟قال وهب: انظر زكاتك المفروضة، فأدِّها إلى من ولاه الله أمر هذه الأمة وجمعَهم عليه، فإن الملك من الله وحده وبيده، يؤتيه من يشاء وينزعه ممّن يشاء، فمن ملّكه الله لم يقدر أحد أن ينزعه منه، فإذا أدّيت الزكاة المفروضة إلى والي الأمر برئت منها، فإن كان فضلٌ فصِلْ به أرحامك ومواليك وجيرانك من أهل الحاجة وضيف إنضافك. فقام ذو خولان فقال: أشهد أني نزلت عن رأي الحرورية، وصدّقتُما قلتَ، فلم يلبث ذو خولان إلا يسيرا إلا مات ".
رواها ابن عساكرفي (( تاريخ دمشق )) (17/ق 478ـ483
وأوردها المزي في (( تهذيب الكمال150/31-156
والذهبي في (( السير )) (4/553ـ555