وتبتل إليه تبتيلاعبده قايد الذريبي
بسم الله الرحمن الرحيم
في ظل زحمة المدنية الهوجاء، والمادية العرجاء، تزاحَمَ الناسُ على الدنيا، وتنافسوا فيها، وتسابقوا في جمعها، وغفلوا عن الغاية السامية التي خُلِقوا لأجلها، وهي عبادة رب الأرض والسماء، الذي أخبرَنا عن هذه الحقيقة، فقال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56].
وقد حث اللهُ نبيَّه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وكلَّ مؤمن من بعده -أن يذكره -سبحانه-، وأن ينقطعَ إليه انقطاعًا تامًّا، وألا يشغله غيرُه عنه، فقال مخاطبًا إياه: (وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)[المزمل: 8].
قال ابن كثير -رحمه الله-: \"أي: أكثِرْ من ذِكره، وانقطع إليه، وتفرَّغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك وما تحتاج إليه من أمور دنياك؛ كما قال -تعالى-: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ)[الشرح: 7]؛ أي: إذا فرغت من أشغالك، فانصَبْ في طاعته وعبادته؛ لتكون فارغ البال..، وقال ابن عباس: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً)[المزمل: 8]؛ أي: أخلِصْ له العبادة..، وقال الحسن: اجتهد وبَتِّل إليه نفسك\"[1].
وقال ابن سعدي - رحمه الله -: \"أي: انقطع إلى الله تعالى؛ فإن الانقطاع إلى الله والإنابة إليه، هو الانفصال بالقلب عن الخلائق، والاتصاف بمحبة الله، وكل ما يقرِّب إليه ويُدْنِي من رضاه\"[2].
وقال ابن جرير: \"يقول -تعالى- ذكره-: (وَاذْكُرِ) يا محمد، (اسْمَ رَبِّكَ) فادعُه به، (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) يقول: وانقطع إليه انقطاعًا لحوائجك وعبادتك دون سائر الأشياء غيره، وهو من قولهم: تبتَّلتُ هذا الأمر، ومنه قيل لأمِّ عيسى ابن مريم: البتول؛ لانقطاعها إلى الله، ويقال للعابد المنقطع عن الدنيا وأسبابها إلى عبادة الله: قد تبتل\"[3].
معنى التبتل:
والتبتل هو: الانقطاع، وهو هنا انقطاعٌ مجازي؛ أي: تفرغ البال والفكر إلى ما يرضي الله، فكأنه انقطع عن الناس، وانحاز إلى جانب الله؛ فعُدِّي بـ: \"إلى\" الدالة على الانتهاء، قال امرؤ القيس:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها *** منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِوالتبتيل: مصدر (بتَّل) المشدَّد، الذي هو فعل متعدٍّ، مثل التقطيع، جيء بهذا المصدر عوضًا عن التبتل؛ للإشارة إلى أن حصول التبتل - أي: الانقطاع - يقتضي التبتيل؛ أي: القطع.
يقال: بتلت الشيء؛ أي: قطعته، ومنه قولهم: طلقها بتة بَتْلة، وهذه صدقة بتة بتلة؛ أي: بائنة منقطعة عن صاحبها؛ أي: قَطَع ملكه عنها بالكلية، ومنه: مريم البتول؛ لانقطاعها إلى الله - تعالى -، ويقال للراهب: متبتِّل؛ لانقطاعه عن الناس، وانفراده بالعبادة، قال:
تُضيء الظلامَ بالعِشاء كأنها *** منارةُ مُمْسَى راهبٍ متبتِّلِ [4]والبتول من النِّساء: المنقطعة عن الرِّجال، لا أربَ لها فيهم، وبها سمِّيت مريم البتول.
وقيل لفاطمة - رضي الله عنها -: البتول؛ لانقطاعها عن نساء أهل زمانها ونساء الأمَّة عفافًا وفضلاً ودينًا وحسبًا، وقيل: لانقطاعها عن الدنيا لله - عز وجل -.
وامرأة مبتلة الخَلق؛ أي: منقطعة الخَلق عن النساء، لها عليهن فضلٌ[5].
ولما كان التبتيل قائمًا بالمتبتل، تعيَّن أن تبتيلَه قطعُه نفسَه عن غيرِ مَن تبتل هو إليه؛ فالمقطوع عنه هنا هو من عدا الله تعالى؛ فالجمع بين تبتل وتبتيلاً مشيرٌ إلى إراضة النفس على ذلك التبتل، وفيه مع ذلك وفاءٌ بِرَعْي الفواصل التي قبله.
والمراد بالانقطاع المأمور به: انقطاع خاص، وهو الانقطاع عن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين؛ ولذلك قيل: ( وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ )؛ أي: إلى الله؛ فكل عمل يقوم به النبي - صلى الله عليه وسلم - من أعمال الحياة، فهو لدين الله؛ فإن طعامه وشرابه ونومه وشؤونه للاستعانة على نشر دين الله، وكذلك منعشات الروح البريئة من الإثم؛ مثل: الطِّيب، وتزوُّج النساء، والأنس إلى أهله وأبنائه وذويه، وقد قال: ((حبِّب إليَّ من دنياكم النساءُ والطِّيب)).