منقول: قصة قصيرة لعبد الوهاب آل مرعي
بناتٌ يَجْلبن السُّم و يَخْبِزْنَ الرماد
شعرها الأبيض يَنْتَفِشُ ثائراً مخيفاً، لا لأنها عجوز... فهي لا تزال في الثامنة من العمر، ولكنَّ إناث القُمَّل نظمت مسابح طويلة من البيض ــ الصيبان ــ في كل شعرة على حده، كي يبدو بياض الشعر أكثر من سواده، في رأس تلك الطفلة.. والداها لا يُلقِيانِ بالاً لذلك القمل.. فبمجرد انتهاء الشتاء القارس سينزل الموس الحاد في رأس هذه الصبية كي يصبح قاعاً صفصفاً.. وما دام الشعر الآن يقوم بمهمته في تدفئة الجمجمة الصغيرة فلا مشكلة في قليل من الحُكَّة...
الجميع هنا يعرفون قيمة الحياة جيداً، ويعرفون أيضاً أنه لا يمكن الاستفادة من أي شيء بالمجان.. فكل شيء له ضريبته، وله ثمنه ...حتى تدفئة الرأس بالشعر يجب أن تكون ضريبته إيواء مئات القمل وتدفئتهم ... وحتى إطعامهم من الدم الرديء الذي يشكو نقص كل عناصره الأساسية.
لايهم...المهم
ــ «لماذا أنت هكذا يا عائشة.. لا تهتميّن... دائماً لا تهتمين... لقد أصبحت صبية، وأصبح عمرك ثمان... أهكذا تفعل الفتاة «الصَّقْره» يسقط القمل على الدقيق وأنت تطحنين... ثم لا تنتبهين له... ولا تدرين عنه.. ماذا لو أن ضيفاً عندنا الليلة... هل نجعله يأكل مع الذرة قملاً... ليست هذه أول مرة يا عائشة... لقد لقينا من قبل شعراً في الخبز... إلى متى سنبقى نعلِّمك... ستعاقبين هذه الليلة... وستُحرمين العشاء.. أفهمت»
هكذا قال لها والدها الناشف... وهكذا أيضاً تُعامل كل فتاة في سنها، إنها الآن داخلة في مرحلة الشباب، ويجب عليها أن تتعلم كل صغيرة وكبيرة من جزئيات هذه الحياة المتصدعة... ولكن العقاب كان قاسياً أكثر من اللازم.. وأكثر من أن تحتمله فتاة غضة العود، باردة الأطراف... قد أنهكتها ساعات يوم قاتم، وهي في الجبال تجري بخفَّة وراء (100) من الماعز... ولأن الحياة هنا لا جميل فيها إلا لقيمات الخبز مع اللبن، وقد حُرمت عائشة من هذا الجميل الوحيد، فستبقى صُوَرَ قُبح الحياة تهزأ بابتسامة عائشة التي خبت منذ نزل عليها الحكم الجائر .. وستبيت الليلة من دون عشاء.
.. عائشة جالسة في زاوية سوداء في طرف الحجرة الطينية تُراقب قطع الخبز وهي تعكس أشعة الشَّحْمة التي تحترق لِـتُفيء.. وتُشنِّف أذنيها بسماع رشف اللبن عن طريق الشفاه، الناشفة...
إنها مُنْهَكَة ، ولكنها ... ولكنها لا تستطيع النوم، لأن النوم لا يُعرف طريقه للجفن إذا كان البطن لا يعتصر إلا المعدة الخالية... أغمضت عائشة عينيها بعد أن فقدت الأمل في رحمة من بجوارها ... خاصة وأنها لا تعلم أنهم يريدون لها الخير بكل هذه التربية القاسية... الخير في المستقبل ، والخير في القدرة على النجاح في حياةٍ قاتلة...
...خلد الجميع للنوم ... وفي لحظة غافلة أحسَّت عائشة أن أحداً يمسك يدها داخل الظلام... الكافر... استيقظت... وإذا بهمس والدتها وهي تقول:
ــ «خذي هذه الكسرة يا حبيبتي...»
... طرِبت عائشة... إنه الأكل... نعم إنه إكسير الحياة... كم هي جميلةٌ الحياة... عندما يوجد فيها شيء من الطعام
...وضعت عائشة قطعة في فمها... تذوقتها... إنها كالعسل بقيت تمضغ، وتتلذذ... مرت دقائق... تهيَّجت فكرة في ذهن عائشة... الحليب، نعم.. حليب البقرة «طُعْمة»... ستذهب إلى البقرة... وستحلب شيئاً من الحليب، وتشربه على هذه الكسرة... الله... وجبة دسمة جداً، وبعدها ستسخر من الجوع ومن عصافير بطنها الظالمة...
... خرجت عائشة ترقص فرحة... انعكست أشعة القمر على شعرها الأبيض... وعلى ثوبها المتهالك... دخلت من جديد إلى ظلام حظيرة البقرة... ستمسك بثدي البقرة... وستشرب حتى الإشباع .
مرت ساعات الليل صامتة حزينة، وكأنها تستر فاجعة ما، في مكان ما... وحين طلع الفجر... وظهر بصيص الصبح... عاد الأب من المسجد. وبدأ يصرخ من بعيد:
ــ «ستعاقبين يا عائشة... لماذا لم تُخرجي الماعز إلى الآن ... يا عائشة... يا عائشة... لازلتِ نائمة... ستُحرمين من الفطور..»
... ومع نبرات صوت الأب الغاضبة من الخارج انبعثت نبرات الأم قلقة خائفة من الداخل...
ــ «عائشة ليست هنا... أين هي... ليست في مِلْحَفِهَا..»
...فزع الأب.. وفزعت الأم أكثر.. وانطلقوا جميعاً للبحث... أين «عائشة يا ترى.. عائشة... يا عائشة»..
وعندما دخلوا حظيرة البقرة... كانت عائشة نائمة هناك ... نائمة؟ ... وهل ينام أحد هنا...
ــ «ألا زلت نائمة... قومي يا عائشة قومي... قومي... هيا»
صرخت الأم.
ــ «انظر.. الأفعى هناك... يا ويلي... يا ويلي»
تقدم الوالد راكد العواطف... باهت الملامح... أمسك بيد عائشة.. دمعت عيناه... إنها ميتة... لقد لدغتها الأفعى وأكلت البقرة خبزتها... ماتت وهي تُمنِّي نفسها باللبن... فلم يدخل جوفها سوى السُّم.. وسيموت لموتها قمل رأسها... وصديق دربها ... وحتماً سيدفن معها في قبرها ويكون رفيقها في الحياة وبعد الممات.
منقولة ...