<div align="center">و إذا غلا شيء عليّ تركته</div>
هذه القاعدة من القواعد المهمة في حياة البشر ، ذلك لأن كثيراً من الناس يرخصون أنفسهم بسبب جريهم وراء رضا من استغنى عنهم ، أو طلبهم محبة من ترفّع عليهم ، أو لهثهم خلف شيء مما في أيدي من استعلى عليهم ، فتكون النتيجة ذلاًّ و هواناً ، و ربما خساراً وبواراً ، فلا هم حفظوا كرامتهم ، و لا هم حصلوا على منشودهم ، و فوق هذا و ذاك يشتعل الهم و الضيق في قلوبهم . إن الناس يستهجنون الرجل الملحاح الذي يصر على طلب ما عند الآخرين و لا يترفّع عن أمر غلا عليه .
ولقد أبدع الإمام الشافعي حينما قال :
إذا المرء لا يلقاك إلا تكلّفا
فدعه و لا تكثر عليه التأسفا
ففي الناس أبدال و في الترك راحة
و في القلب صبر للحبيب و لو جفا
فما كل من تهواه يهواك قلبه
و لا كل من صافيته لك قد صفا
ويقول إبراهيم بن أدهم ، وهو يجسّد هذه القاعدة الجليلة :
و إذا غلا شيء عليّ تركته فيكون أرخص ما يكون إذا غلا
نعم و الله ، و هل هناك أرخص من شيء تركته فلم تعد تفكر فيه أو تلهث خلفه ؟! إن هذه القاعدة الكريمة لا يفهمها من كان همه الدنيا و زينتها ، و لايدركها من لم تعد نفسه غالية عليه ، و لا يعيها من استوى عنده العز و الذل و الرفعة و الوضاعة .
لقد حذّر الإسلام من عبادة الدنيا ، ونفّر من أن تكون أكبر هم المسلم ، بل صوّرها بصورة تجعل المسلم يربأ بنفسه من أن يتعلق بها على حساب الآخرة ، و ما عند الله تعالى .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ على شاة ميتة فقال : أترون هذه الشاة هيّنة على أهلها ؟ قالوا : من هوانها ألقوها ، فقال : و الذي نفسي بيده للدنيا أهون على الله من هذه الشاة على أهلها ، و لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء .
و روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر .
وحتى لا يلتبس علينا هذا المعنى ، ويساء فهم هذه القاعدة ، فيحسن التنويه إلى الملاحظات التالية :
1 - لا تعني قاعدة ( و إذا غلا شيء عليّ تركته ) اليأس و القنوط ، و لا تدعو الناس إلى ترك معالي الأمور ، ولا تريد منهم أن يكونوا ضعاف الهمم ، كلا و حاشا ، ولكنها تريد منهم أن لا يتكالبوا على حطام الدنيا ، ولا يحزنوا إذا ما فات شيء منها ، ولا يلهثوا وراء التوافه ، كما أنها تدعوهم إلى العزة و الرفعة و الابتعاد عن الذل و الهوان .
2 - إن الزهد في الدنيا لا يعني أن يترك الناس الدنيا و العمل فيها ، ويذهبوا إلى الجبال و الوديان و يعتزلوا الناس و يتعبدوا الله تعالى . ولكن الزهد في الدنيا يعني أن تبقى الدنيا خارج القلوب ، و أن لا تكون أكبر همّ المسلم ، و أن يسخِّر العبد الدنيا لما يُرضي الله تعالى . و لذا كان كثير من الصحابة أغنياء كعثمان بن عفان و عبدالرحمن بن عوف و أبي بكر الصديق و غيرهم ، و لكنهم سخَّروا هذه الدنيا لخدمة دينهم و دعوتهم .
3 – إن هذه القاعدة لا تعني أيضاً أن لا يجتهد الإنسان في طاعة الله ، و لا تدعو إلى ترك الإلحاح طلباً لما عند الله تعالى ، فشتّان بين الخالق والمخلوق ، فهذه القاعدة محصورة في علاقة المخلوق بالمخلوق ، أما علاقة المخلوق بالخالق فهي على النقيض ، فالجنة غالية و لا يجوز لمريدها أن يترك طلبها ، و الله يحب الإلحاح في الطلب و الدعاء .
4 – أثبتت كثير من التجارب و الأحداث أن من ترك الدنيا ، و ترفّع عن اللهث في طلبها أتته وهي راغمة ، و من استغنى عن الناس افتقروا إليه ، و من ترفّع عن شيء غلا عليه فإنه سيأتي اليوم الذي يرخص هذا الشيء فيحصل عليه دون مشقة أو عناء .
سلسلة
قواعد و فنون التعامل مع الآخرين
و إذا غلا شيء عليّ تركته
د. علي الحمادي
<marquee>م
ن
ق
و
ل</marquee>