بسم الله الرحمن الرحيم
من تشبه بقوم فهو منهم
وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم-: من تشبه بقوم فهو منهم أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان.
حديث ابن عمر له شواهد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص عند الترمذي، وإن كان إسناده فيه ضعف من جهة ابن لهيعة لكنه بالشواهد: ليس منا من تشبه بغيرنا كذلك عند أهل السنن أبي داود والترمذي والنسائي، +عن ابن عباس اللحد لنا والشق لغيرنا كذا من حديث جرير بن عبد الله عند أحمد وابن ماجه اللحد لنا والشق لغيرنا عند أحمد "أهل الكتاب".
وكذلك أحاديث جاءت، جاءت أحاديث عامة وجاءت أحاديث خاصة، قال -عليه الصلاة والسلام-: فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وقال النبي -عليه الصلاة والسلام- في حديث أبي هريرة في الصحيحين: إن اليهود والنصارى لا يصبغون فخالفوهم وهذا المعنى فيه أخبار كثيرة في أنه -عليه الصلاة والسلام- أمر بالمخالفة.
من تشبه هنا ظاهر قول من تشبه في قوله: فهو منهم ظاهره أنه منهم، وأنه إذا تشبه بالكفار فهو في حكمهم في الكفر، هذا هو ظاهره، وهذا محمول على التشبه بهم في جميع هديهم، أو في أمر هو من خصائص دينهم المخرجة من الملة حينما يتشبه بهم بها، وإن تشبه بهم في بعض الأمور التي هي من خصائصهم فهو بحسب إن كان معصية فهو معصية، وإن كان كفرا فهو كفرٌ بحسبه، وهذه الأمور لها ما لها منازلها في الشريعة بحسب التشبه، والشيء الذي شابههم فيه، وهذا من صيانة الشريعة وحمايتها.
وذلك أن الأصل هو القلب وأنه يقطع المودة بينه وبينهم لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الأصل هو الأمر الأمر..، الأصل والأمر في القلب هو قطع المودة والمحبة لأهل الكفر بجميع أصنافهم، لكن لما كانت الشريعة تأتي بسد الطرق التي تفضي إلى الأمور المحرمة، فأعظم الأمور المحرمة هو مودتهم في دينهم، وهذا قد يفضي إلى الخروج من الدين، جاءت الشريعة بسد الطرق المفضية إلى هذا الأمر.
ومن الممتنع أن يحرم الشارع شيئا ثم بعد ذلك يجيز الطرق الموصلة إليه، ولهذا لما حرم المسكر وهو خمر الأعناب حرم كل خمر يغطي العقل، وهكذا لما حرم الربا، حرم كل معاملة تؤدي للربا، ولو كانت في الظاهر ليست ربا كما يظهرها أصحابها وما أكثرها في هذه الأيام من العقود الباطلة التي تكون وتجري في المعاملات في البنوك والله لا يخدع، الله لا يخدع -سبحانه وتعالى- ولا يخفى عليه خافية.
والقصود في العقود معتبرة، بل ربما كانت بعض العقود التي تجري أقبح من عقود الربا الظاهرة الواضحة، لأن هؤلاء في الحقيقة يخادعون الله، يريدون أن يخادعوا الله وهو خادعهم، يريدون أن يخادعوا، ويظنون أنهم خرجوا من تبعة الحرام، ولهذا قال أيوب السختياني -رحمه الله-: يخادعون الله كما يخادعون الصبيان لو أتوا الأمر على وجهه كان أهون عليهم، وصدق -رحمه الله- لو أنهم جاءوا بربا صحيح ولم يكونوا مختفين كانوا كالمنافقين مع الكافرين، فالمنافق أقبح من الكافر، كذلك العاصي من أهل الإسلام الذي يستر معصيته ويظن أنه بذلك قد سلك سبيلا شرعيا ويظن ذلك ويخادع، أقبح ممن أتى معصية جهر، أظهرها، بمعنى أنه لم يخادع. وليس المقصود أنه جاهر بها يعني معنى أنه لم يخادع بها ويظهر ويقول: إنها حلال، وإنها جائزة.
وعلى هذا المعنى فالشريعة تسد الأضداد التي تفضي إلى الأمور المحرمة، ولما كان التشبه في الهدي الظاهر، من أعظم الطرق الموصلة إلى المودة في الأمر الباطن، فإن الشريعة حرمت التشبه بهم في الظاهر؛ في زيهم ولباسهم، بل ما هو أعظم، قال النبي عليه الصلاة والسلام: إن اليهود والنصارى لا يصبغون ما قال -عليه الصلاة والسلام-: فاصبغوا، ما قال: فاصبغوا، قال: فخالفوهم أوتي جوامع الكلم، هو لو قال: فاصبغوا لحصلت المخالفة؛ لأنه أمر بالصبغ لأن اليهود والنصارى لا يصبغون، ومع ذلك قال: فخالفوهم .
ولهذا من قواعد أهل الأصول في باب التعليق أن الأمر إذا علق بمسمى اسم مشتق، الأمر المأمور به إذا علق بفعل أو بمسمى اسم مشتق علم أن ما منه الاشتقاق أمر مقصود للشارع، مثاله في هذا الخبر، قال: إن اليهود والنصارى لا يصبغون ما قال: فاصبغوا قال: فخالفوهم علقه بالفعل، بفعل المخالفة، والمخالفة مصدر خالف يخالف خلافا ومخالفة، هذا مصدرها، فعلم أن مسمى هذا الفعل المشتق، وهو المخالفة أمر مقصود للشارع، فليس القصد في مجرد الصبغ، لا، الأمر في المخالفة في كل شيء، الأمر بالمخالفة في كل شيء، ولهذا قال: فخالفوهم فدل على أن الشارع قصد الأمر بمخالفتهم في كل ما كان من شأنهم، وهديهم.
ولهذا أول ما يدخل في المخالفة هو ما سيق في النص فيدخل الأمر بالصبغ من وجهين: من جهة الأمر به، ومن جهة المخالفة التي علق عليها وجعل علة له، ولهذا قال اليهود كما في حديث سلمان، لما قال: إنه لما أمرنا أن لا نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، وأن لا نستقبل القبلة ببول ولا غائط، لما قال: لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة.
في لفظ آخر قالوا في حديث أنس لما قال -عليه الصلاة والسلام-: اصنعوا كل شيء إلا النكاح قالوا: ما يريد أن يرى من أمرنا شيئا إلا خالفه، صلوات الله وسلامه عليه.
وكان في أول الأمر ربما وافقهم -عليه الصلاة والسلام- ربما وافقهم؛ لأنه لم ينه، ثم بعد ذلك نهي، وكان -عليه الصلاة والسلام- يسدل شعره، وكانوا يسدلون شعورهم، ثم فرق بعد عليه الصلاة والسلام.
فالمقصود أن أمر التشبه والمبالغة في المخالفة أمر مقصود للشارع، وهذا التشبه، يكون في الأمور التي يكون الإنسان يقصدها وتكون في الأمور التي لا اختيار للإنسان فيها، ولهذا الشيء لا اختيار للإنسان فيه، ومع ذلك أمر بالصبغ فغيره من الأمور من باب أولى في وجوب مخالفتهم، نعم.
شرح الشيخ عبدالمحسن بن عبدالله الزامل
جامع شيخ الاسلام ابن تيمية