د.مصطفى حميد أوغلو
بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ
على مر التاريخ، كانت كل الحركات الدعوية والتحررية والثورات الشعبية تبدأ بتأثير فردي، أو فكرة يكون مؤيدوها الأوائل قلة قليلة.
ثم تأخذ بالتنامي تناسباً طرديا مع قوة الفكرة وأحقيتها وصدقها وإخلاص القائمين عليها ويلتف حولها مؤيدوها ويتمسكون بثوابتها، مضحين بكل ما يملكون من غالي ونفيس لأجل الوصول إلى الهدف النهائي والنصر وتحقيق ما تصبو إليه تلك الفكرة أو الثورة من نشر للفكر أو إسقاط لنظام والوصول للحكم أو الانتصار على عدو، هذا ما نراه بشكل واضح في كل الحركات الاجتماعية على اختلاف أهدافها.
حتى في دعوة الرسل، نجد أن الانعطاف الكبير والتحول المفصلي يحدث عندما تنضم الأغلبية الصامتة، التي ترقب التطورات على أرض الواقع وهي تعيش صراعا نفسيا بين الإحجام والإقدام بين التأييد، أو الاستمرار بالسكوت.
هناك ثورات حدث بها هذا التحول بشكل سريع مفاجئ، كما حصل في تحرر شعوب دول أوربا الشرقية بشكل عام، ورومانيا خاصة، وعلى النقيض من ذلك، فكثير من حركات التحول والتحرر الاجتماعي ونيل الحقوق، مر بطريق طويل ومليء بالأشواك والمنعطفات الخطرة والسنين المريرة المليئة، كما عاشته جنوب أفريقيا بقيادة مانديلا.
ونجد في ثورتي تونس ومصر، أن هذا التردد لم يستغرق طويلا، واستطاع شباب الثورة كسب تأييد الشريحة المؤثرة، مما عجل في تحقيق الهدف بأقل الخسائر وأقصر الطرق.
بينما ظلت الثورات الشقيقة تعاني من انقسام، أدى ويؤدي إلى شبه حرب أهلية، كما تشير التطورات في الحالة اليمنية، رغم انحسار مؤيدي عبدالله صالح وتزايد الجماهير الملتحقة في كل يوم لجموع الشباب المرابط في ميادين التحرير في سائر المدن اليمنية، ليبيا اختار العقيد بعبقريته الفذة؛ جر القوات التابعة لحلف الأطلسي لتقصفه في زنقته، وها هو الشعب الليبي يحاصره مدينة مدينه وبلدة بلدة ودار دار، كما كان يتمنى هو أن يطاردهم لا هم وهاهو الشعب يشارف على حسم المعركة على أرض الواقع.
تظل سورية مفتوحة على كل الاحتمالات وحبلى بكل المخاوف والأنفاق المظلمة التي يجرها إليها من بيدهم القوة والقرار ومن يمتلك الحكم والجيش ويستطيع تجنيب البلاد هذه الويلات وليس الشعب الذي يطالب بحقوقه المشروعة والمعترف بها حتى من قبل رئيسها.
هذه الشريحة الصامتة هي هدف الفكرة أو الثورة، وهي ما تراهن عليها ـ أيضا ـ الأنظمة، وتؤول سكوتها على أنه تأييد لها، والمعارضة هي بدورها تنسب هذا السكوت بالتعاطف الضمني لها، وتعتبر هذه الأغلبية الصامتة قوة الدعم الخامدة، كالبركان، متى انفجرت، حُسم الأمر.
أكثر ما يكون هذا الأمر وضوحا هو الحالة السورية، حيث تأخر وطال صمت بعض المناطق التي كان من المتوقع نظرياً على الأقل أن تكون هي القوة الرائدة وفي مقدمة ركب هذه القافلة، وأكبر مثال على هذه الحالة، مدينة حلب بشكل أخص.
تأخر صمتها رغم المناداة المستمرة لها بالتحرك من أبناء شعبها ومحاولة إثارة النخوة والهمة وإغاثة المدن المحاصرة، ورغم تخويفها بأن الدور سيأتي عليها إن لم تتحرك، فلم يحصل التجاوب، وكل ما رأيناه -حتى هذه اللحظة - محاولات خجولة لا تطفئ عطش المنادين لها، هذا ما دفع بعض المناشدين من تصعيد لهجتهم لتصل إلى التهكم والوصف بالجبن والتخاذل، ووصل الأمر إلى نعتها بصفات فقدان الحس والشرف والتخوين أحيانا كثيرة,
هذا ما نراه جلياً من هتافات المتظاهرين في المدن السورية والردود الكثيرة على الصحف ومواقع التواصل الاجتماعي من فيس بوك وغيرها، مما يظهر حنق وغضب هؤلاء على من لم يشاركهم الرأي والثورة، وهو الذي يجدر بنا التوقف عنده ودراسة هذه الظاهرة بشكل علمي ومنطقي لا عاطفي وحسي فقط.
من هي هذه الشريحة الصامتة؟ هل هي أثنية أم دينية ؟ هل كلها خائفة؟ أم بالفعل لديها مخاوف وتردد؟؟ وهل هي خائنة بالفعل؟؟
لا بد من التأكيد قبل كل شيء على حقيقة، أنه لا مستقبل مستقر لسوريا إلا في ظل حكم ديمقراطي تعددي، وهذا عكس ما تحاول أبواق النظام الإعلاميين تسويقه، وهو أن شعب سوريا الخليط من إثنيات وأعراق ومذاهب وقوميات، لا يمكنه التعايش بشكل سلمي تحت سقف الديمقراطية، ناسين أو متناسين أن تاريخ سوريا الذي نصب رئيس وزراء من هذه الطوائفـ، ولم يميز يوما بين أبطال الثورة العربية وقادة التحرر، يدحض زيف هذه النظرية الفاسدة.
ورغم أنني لا أحب ذكر أسماء هذه التقسيمات في كتاباتي، لكن موضوعية المقال تتطلب تناول هذا الأمر،ـ بذكر بعض هذه الطوائف للوصول إلى التشخيص الصحيح لهذه الحالة المؤرقة، ومنعا للتحامل الحاصل وتعليق بعض الفشل الذاتي على شماعة الخوف أو التخاذل.
ولابد من الإشارة أيضاً إلى مشاركة الطائفة المسيحية في حمص، حتى ولو كانت رمزية في رش جنازات الشهداء بالرز ووقوف كثير من رجال هذه الطائفة مع مناصرة الثورة وتعرضهم للاعتقال وتحملهم أعباء النفي والحرمان من الوطن.
وأن الأحياء السباقة للتظاهر في حلب تقطنها أغلبية كردية، وأن الدماء التي سالت في هذه الثورة هي دماء سورية وطنية قبل كل شيء ولا تقتصر على أي شريحة محددة، هذه مؤشرات ودلائل على شعبية الثورة شموليتها وتقبلها من كل أطياف الشعب السوري.
ولكن مما لاشك فيه أيضاً، أن الحراك الأعظم للثورة السورية بدأ، ويزداد بشكل واضح وملحوظ في مناطق العرب السنة، ومشاركات المناطق ذات الكثافة من الأكراد بشكل أخف، وأن المناطق الصامتة غالبية سكانها من بقية الخليط السوري، وتظل حلب رغم ما يقطنها من أقليات، وضعا استثنائياً على كافة المستويات حتى الآن.
من هنا نستطيع القول: إن الانتشار الأوسع في مناطق العرب السنة، وأقل منه في المناطق الكردية ذات التركيبة المتنوعة، مع محدودية مشاركة المناطق التي تقطنها بقية الطوائف والأعراق، يدل على أن تبرير هذا السكوت بالخوف والرعب الذي زرعه النظام على مرور أربعة عقود، ليس هو الاستنتاج الصحيح، أو على الأقل ليس هو الوحيد لتوضيح هذه الظاهرة.
وهذه الطوائف هي التي يمكن لها أن تصدح بقولها وتنادي بمطالب الشعب بالحرية والكرامة، لأنها منطقياً هي في منأى وبعيدة عن التهمة بالصفات الجاهزة، من مثل اتهام أخوتهم العرب السنة والأكراد بالرجعية والسلفية والانفصالية والقاعدة والتآمر على تمزيق البلاد.
ضعف كثافة الاحتجاجات عن المستوى المنتظر في المناطق ذات التركيبة العربية الكردية أيضاً، يمكن تفسيره بتردد أو إحجام أو امتناع قسم من الأكراد والعرب معهم تحت مؤثرات عديدة وليس الخوف وحده.
وإذا ما أضفنا لهذا، محاولة النظام تجنيب هذه المناطق ما تم إنزاله بأشقائهم في درعا وحمص وبانياس وتلبيسه من قسوة وحصار وقتل من دون إنذار من السلطة وأعوانها، نجد أن الرعب لا يعدو أن يكون مسوغا ضعيفا لتفسير عدم المشاركة في هذه المناطق الآمنة نسبياً .
الخوف الذي عاشه الشعب السوري ولا يزال يعيشه حتى في منامه، قتل في نفسه أي حلم أو أي تفكير في أي محاولة للتغيير، قتل عنده روح الأمل وأوصله قاع بئر اليأس، وأدخله نفق مظلم لم يبق فيه بصيصا من ضوء.
هذا صحيح وواقع ملحوظ لكل من يريد أن يبصر الحقيقة بعيون محايدة ومتجردة للحق، مهما كان هذا الواقع مراً ومؤلماً، ولكن هذا الخوف هو في الحقيقة سلاح ذو حدين، فهو من جهة عقبة كبيرة ومطب خطير يُعيق أي محاولة للتحرر، ويكبل أنصار الثورة ويزيد من تضحيات الشعب، ويتسبب في نزف الدماء الزكية في قافلة الحرية ويؤخر لحظة النصر من جهة.
ولكنه من جهة ثانية يمكن أن يكون هذا الرعب الدافع الأساس والمحرك الرئيس القوي لدفع روح الثورة والانطلاقة القوية، لأن هذه الشريحة التي اكتوت بجور الظلم وذاقت نار الحرمان وألم التهميش والمهانة، من المفروض أن تكون رغم خوفها مهيأة ومستعدة لأي فرصة وأي متنفس للمطالبة بتغيير وضعها المأساوي وواقعها المظلم وتروي غليلها من الحرمان والإذلال.
كل هذه المؤشرات تدل على أن الخوف المزروع في النفوس ليس هو السبب الوحيد لإحجام شرائح متعددة من الشعب السوري، على تنوعها واختلاف مشاربها ومعتقداتها، فمن الخطأ اختزال الأمر ورده لعامل الخوف وحده، ولا يجب أن يكون شماعة المعارضة للتهرب من تقصيرها السلبي.
هذا الموقف المتردد، يمكن وصفه بالمتخاذل لمن يريد التغيير ويأمل الخلاص من هذا الجور، لكونه يريد هذا من دون أي تضحية وعناء مما يخالف حقائق التاريخ ونواميس الكون ومبادئ الثورات التحررية.
بجانب هذا الخوف، هناك عوامل وعوائق لابد من مكاشفة النفس ومصارحتها بها والتعامل معها كواقع مفروض ومنطقي للوصول إلى الهدف والنتيجة بخطى سليمة وواثقة، وأهم هذه العوامل:
1- الخوف من القادم، وخاصة بين الطوائف والأقليات دينية وعرقية، والتي تخشى من سيطرة قوى تتنكر بالمستقبل لمبادئ الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، لذا ترجح البقاء تحت سيطرة حكم، وإن لم يكن ديمقراطيا، ولكنه على الأقل لا يخصها وحدها بالظلم والتمييز، وهي معروف لها أيضا فوق ذلك.
2- ارتباط المصالح لكثير من المثقفين ورجال الأعمال والتجار وأصحاب المراكز القيادية ممن يخاف المنافسة الحرة، وتعود على الكسب والترقي بغير تعب وجهد.
3- المعارضة المشوهة السمعة أصلا والمفككة، وما طرأ على مسيرها من تحالفات ومنعطفات، استغلها النظام لتشويه سمعتها وتنفير الناس منها.
4- عدم الاكتراث لفقدان الحس الوطني، وفقدان الإحساس بأهمية الدور الفردي، كما نراه عند المواطن الغربي.
5- الشريحة التي استطاع النظام ثنيها وإغراءها بالمال والمناصب، أو بالتسليح وتقريبها من القيادة، أو الوعود بمنحها المزيد من الحقوق والمزايا والعطايا الخاصة لبعض المناطق والجماعات والأعراق.
6- وأخيراً، يجب أن لا يغيب عن البال الشريحة التي آمنت بالحزب عقيدة وفكراً ومنهجاً، ووثقت ولا تزال بقيادة الرئيس، مقتنعة بصدقه ورغبته، بل وقدرته، هذه تشكل رديف دعم لتلك الفئة التي رهنت مصالحها بل ووجودها ببقاء هذا النظام، وتدافع عنه بشكل مستميت، من الدائرة الضيقة التي يعتمد عليها الحكم من قوى الأمن والأسرة الحاكمة، ومن ثم إعدادهم لهذا اليوم العصيب من شبًيحة وقوى داعمة أخرى.
من هنا ندرك أنه ليس كل من سكت وصمت خائف أو خائن، وأن على شباب الثورة ومسانديها والمعارضة بكل أطيافها أن تدرك هذه الحقائق، عليها أن تختار الأفضل والأقدر على تمثيلها، وأن تكون شفافة وواضحة في أطروحاتها وتصرفاتها، وتزرع الثقة والأمل في نفوس الخائفين.
وعلى المعارضة أن تنتبه لأفعالها قبل أقوالها، وتبتعد عن كل ما يزيد خوف من يخاف المجهول ويشكك في القادم، وأن يسعى لاحتضان وكسب انحياز هذه الأغلبية لصالح الثورة قبل أن تميل للطرف الآخر، فتميل الكفة لصالح الجهة المضادة التي تراهن على هذه الأغلبية الصامتة.