لماذا لا نعرف كيف نختلف ؟!
لماذا يؤدي الخلاف مع الزوجة إلى ( الطلاق ) ومع المدير إلى ( الفصل ) , ومع الصديق إلى ( القطيعة ) أو ( العداء ) ؟!
لماذا لا نعرف كيف نختلف في عالمنا العربي والإسلامي على مستوى الأفراد أو الدول ؟!
لماذا يتحول خلاف الرأي إلى عداء , وتنقلب المحاسن إلى عيوب , ولا نترك نقيصة إلا ونلصقها بمن اختلفنا معه إن لم تكفنا عيوبه التي نقوم بإحصائها , وقد كنا من قبل نثني عليه ونعدد محاسنه ؟!
لماذا تضيق صدورنا بالنقد , وكأننا قد بلغنا الكمال , ولا نستطيع تقبل النصح برحابة صدر , وإن تظاهرنا بذلك , ورأينا في أنفسنا خلقاً لا يأتيه الباطل من خلفه ولا من بين يديه ؟!
يجب ألا نعجب عندما نجد أن مجتمعنا العربي والإسلامي يحتوي على أكبر عدد من المنافقين في العالم !!
إن الحقيقة كاملة مؤلمة , وأفضلنا الذي يتجرع نصف الحقيقة كما يتجرع العلقم , فعلى مستوى الأسرة لا تستطيع ( الزوجة ) أن تعبر عن رأي يختلف مع ( رب الأسرة ) وقد ينشب خلاف قد يؤدي إلى الطلاق , لأن بعض الأزواج يعتقدون أن إدلاء الزوجة برأي يختلف مع آرائهم إساءة بالغة لرجولتهم وعظمتهم , والابن ينشأ لا يعرف كيف يعبر عن رأيه ويشرح وجهة نظره , لأن الأب أو المدرس لا يسمح له بذلك لأن ذلك في نظرهم ( قلة أدب ) ! وإذا تجرأ تعرض للضرب أو الإهانة , والموظف يخاف أن يبوح بـ ( الحق ) لرئيسه ويتفق دائماً معه في الرأي خوفاً من أن يخسر وظيفته ! .
أما على مستوى الصداقة والعلاقات الاجتماعية فكل الذين يختلفون معنا في الرأي أو الذوق فسرعان ما نخسرهم ونستبعدهم من قائمة الأصدقاء أو نحولهم مباشرة إلى أعداء , ونكيل لهم بدلاً من الصاع صاعين , وما أكثر ما نخسر من الأهل والأقارب والأباعد لأسباب لها صلة بالرأي الآخر .
أما الدول فحدث ولا حرج , فسرعان ما يتحول الخلاف إلى قطع علاقات دبلوماسية , وحرب إعلامية كلامية قد تتطور إلى حرب بالسلاح , ومؤامرات واغتيالات وسفك دماء , وما أكثر ما حدث هذا في تاريخنا العربي الحديث !
والدليل على أننا بالفعل لا نعرف كيف نختلف ما نجده في الساحة الفكرية والثقافية عموماً عندما ينشب خلاف في الرأي بين من نسميهم بالمثقفين , نجد الخلاف يخرج عن مساره ويتحول من مناقشة قضية الخلاف إلى قذف شخصي وسباب واستعراض للعضلات المعلوماتية ونيل من الآخر وتعريته بكل الطرق .
وأتمنى أن يدرس أحد طلابنا في الجامعات تاريخ المعارك والأدبية أو الثقافية التي شهدتها الصحافة العربية في مختلف البلاد العربية , فإنه سيجد أن معظمها يتكئ على النيل أخلاقياً وعلمياً وشخصياً من الطرف الآخر أكثر من اتكائه على الموضوعية والإنصاف والعدل .
ورغم أننا " مسلمون " منذ خمسة عشر قرناً إلا أننا لا نزال " متعصبون " نمارس عصبيتنا على مستويات مختلفة - لعل العصبية القبلية أخف أنواعها - فأخطر أنواع العصبية اليوم هي " العصبية الفكرية والثقافية والمذهبية " , فنحن نتعصب لهذا العالم أو لذلك المفكر , ونمدح ذاك الشاعر أو الكاتب - دون غيرهم - وكأنهم قد نزلوا أطهاراً من السماء لا يخطئون , فنجعلهم فوق مستوى النقد , والويل والثبور وعظائم الأمور لمن يبدي فيهم رأياً , أو يقدم لهم نصحاً , فسرعان ما يتعاوره محبو هذا الشيخ أو الشاعر أو الكاتب بسيوفهم البتارة وكلماتهم الحادة وهجماتهم اللاذعة وكأنه قد مس آية من كتاب الله أو كفر , والصحف اليومية تشهد بالكثير من هذا النوع من المعارك العصبية , بالرغم من قول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم : ( ليس منا من دعا إلى عصبية ) [ رواه أبو داود ] .
يعجب المرء لهذا كله أن يكون اليوم في أمة قال نبيها صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق ) [ رواه أحمد ] بمعنى أن الأخلاق الكريمة أصيلة فيها وليست مكتسبة بعد الإسلام , وإنما جاء الإسلام ليهذب هذه الأخلاق , ويضيف إليها ويرتقي بها , فكان الرسول صلى الله عليه وسلم نموذجاً لخلق الإنسان العربي قبل البعثة , ونموذجاً لخلق الإنسان المسلم بعد البعثة , لهذا قال الله تعالى : ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ) [ سورة الأحزاب : 21 ]
فكان صلى الله عليه وسلم من أوسع الناس صدراً لمن يختلف معه , وأحلمهم على من يثير غضبه , وكان أكثر خَلْق الله تسامحاً مع من يسيء إليه , وأعفّهم لساناً , وألينهم قولاً , وأقلهم جدلاً . ما غضب يوما قط لنفسه , أو استكبر أن يختلف معه أحد من المسلمين أو المشركين وهو رسول الله يوحى إليه من السماء !
[color=#660066]ومع ذلك فقد عاتبه ربه في بعض المواقف ليعلمه ويتعلم من بعده قومه , ولهذا كان ( القرآن ) أعظم كتاب يشتمل على أسس التربية وقواعد السلوك وآداب المعاملات من خلال توجيهات رب العالمين لنبيه صلى الله عليه وسلم , فهناك الأمر بالعدل مع الآخر سواء كان عدواً أو صديقاً , وأن عيوب الآخر يجب ألا تحول بيننا وبين إنصافه ( وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ ) [ سورة المائدة : 8 ]
ويحدد القرآن الكريم ( استراتيجية ) الحوار في خطاب الله لنبيه حين نهاه عن الضيق بما يسمع من الطرف الآخر : ( وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ ) [ سورة الحجر : 97 ] . وحدد له أسلوب الرد عليهم ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) [ سورة فصلت : 34 ] . ثم يقرر أحكم الحاكمين نتيجة مخالفة تلك ( الاستراتيجية ) فيقول لنبيه : ( فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [ سورة آل عمران : 159 ]
وقد وقفت طويلاً أمام هذه الآية متأملاً حكمة رب العالمين لأن فيها ( فرضية ) التعامل مع الناس بغلظة , وفيها ( نتيجة ) وهي خسرانهم وفيها ( أمر ) هو العفو عنهم إن أخطؤوا واحتمالهم الاستغفار لهم إن أذنبوا .
ولا يتوقف التوجيه الرباني عند هذا الحد , بل عليه أن يشاورهم وأن يستمع إلى رأيهم إن أراد أن يتخذ قراراً , فكونه نبياً لا يخوله أن يتخذ قراراً دونهم إلا إذا كان الأمر مباشراً من رب العالمين , ثم تأتي النهاية ( نتيجة ) أخرى لمسألة الشورى : ( فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ) [ سورة آل عمران : 159 ] .
والحقيقة أننا إذا عدنا لكتابنا المنزل من رب العالمين سنجده الكتاب الوحيد في هذا الكون الذي حفظ لأعدائه كلامهم ضده وافتراءهم عليه دون تحريف أو تبديل أو تخفيف ثم يرد عليهم بموضوعية , فتاريخ الحوار والجدال الذي دار بين الأنبياء والذين كفروا بهم من آدم عليه السلام إلى محمد صلى الله عليه وسلم وتوجيهات رب العالمين لهؤلاء الأنبياء من أساليب التعامل وإدارة الحوار مدونة جميعها في القرآن الكريم الذي يتلوه المسلمون ليل ونهار , فنحن نقرأ : ( وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى ) , ( وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا ) , ( قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ ) [ سورة البقرة : 111 , 116 , 247 ] , ( قَالُواْ إِنَّ اللّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء ) [ سورة آل عمران : 181 ] وغيرها من عشرات الآيات التي تسجل بإنصاف ( الرأي الآخر ) , والحوار مع اليهود والنصارى ثم كفار قريش والمنافقين بشكل يسقط كل دعاوى الذي يزعمون أن الديمقراطية وحرية الرأي وأدب الحوار مع الآخر بدأ في الغرب ولا يوجد إلا في الغرب !
إن أمة نبيها محمد صلى الله عليه وسلم الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه , ولها هذا التاريخ العريق في مكارم الأخلاق , واحترام الرأي الآخر , وبين يديها هذا الكتاب السماوي الخالد الذي حوى كل خير الدنيا والآخرة الأولى بها أن تكون قدوة الأمم في أدب الحوار والاختلاف واحترام الآخر والتعامل بإنصاف حتى مع العدو لنستحق عن جدارة قوله تعالى : ( وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ) [ سورة البقرة : 143 ] .
0 0 0
المصدر : التعامل مع النفس والناس كما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
الدكتور : محمد أبو بكر حميد .