بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداه .
هذه مسالة جديدة من مسائل الفقه الاستدلالي وهي مسألة تحريم الدخان ,هل فعلا التدخين محرم بالقطع والاجماع أم أن المسألة فيها تفاصيل ؟
سأبدأ اولا بذكر نتيجة البحث لكي نشحذ همم الإخوة والأخوات لخوض النقاش العلمي :
(التدخين سواء اكان بالسيجار ام بالشيشة باستخدام التنباك ,أو كما يسمى التتن ,ليس محرما في ذاته وإنما هو محرم لغيره أي لسوء استخدامه أو سوء تصنيعه ,وغاية ما فيه الكراهة فحسب فلو وجد شخص يحسن استخدام التدخين أو شخص لايضره التدخين فهو في حقه مباح مع الكراهة وماعدا ذلك فهو من المحرمات).
والبحث سيكون في نقاط :
أولا:معنى التدخين ,ومتى بدأالتدخين .
ثانيا:هل التدخين من مسائل الإجماع أم وقع فيه الخلاف المعتبر .
ثالثا:ضوابط القول بالتحريم .
رابعا:مناقشة ادلة من قال بالتحريم .
خامسا:مسالة ثبوت الضرر من جهة الطب ,وهل الأطباء مجمعون على ضرر التدخين .
سادسا :مقارنة بين التدخين وبين كثير مما قيل أنه مباح وهو مثل أو أشد ضررا من التدخين .
سابعا :هل منع الشئ وحظره يستلزم تحريمه شرعا ؟
أولا :مفهوم التدخين :
(عملية يتم فيها حرق مادة تكون غالبا هذه المادة هي التبغ غالبا حيث يتم تذوق الدخان او استنشاقه).
تعريف آخر (التدخين هو شرب الدخان الناتج عما أُحرق من مواد فعالة كمادة "النيكوتين" الموجودة في نبات التبغ. قالوا: المشهور أن سفنا إسبانية بقيادة "كولمبس" أبحرت في المحيط الأطلسي حتى وصلت إحدى مناطق أمريكا فإذا سكانها يدخنون التبغ، ولما عاد الإسبانيون إلى بلادهم جلبوا معهم ذلك النبات ومن بذوره، فاستعملوه وزرعوه فانتشر، ثم دخل البلاد الإسلامية في بداية القرن الحادي عشر الهجري أو قبل ذلك بقليل).
فيتضح مما سبق أن التدخين لايتم إلا من خلال مادة التتن او التبغ المصنوعة بطريقة مخصوصة لهذا الفعل ومن مدخن يقوم باستخدام السيجار او الشيشة ويسمونها في الشام (أرجيلة) وفي اليمن (المداعة)
ثانيا :
متى بدأ التدخين ؟
الرأي الأول :
ان التدخين قديم جدا يعود الى 5000سنة قبل الميلاد ففي موسوعة ويكبيديا (يرجع تاريخ التدخين إلى عام 5000 قبل الميلاد، حيث وُجد في العديد من الثقافات المختلفة حول العالم. وقد لازم التدخين قديما الاحتفالات الدينية; مثل تقديم القرابين للآلهة، طقوس التطهير، أو لتمكين الشامان والكهنة من تغيير عقولهم لأغراض التكهن والتنوير الروحي. جاء الاستكشاف والغزو الأوروبي للأمريكتين، لينتشر تدخين التبغ في كل أنحاء العالم انتشارًا سريعًا. وفي مناطق مثل الهند وجنوب الصحراء الكبرى بأفريقيا، اندمج تدخين التبغ مع عمليات التدخين الشائعة في هذه الدول والتي يعد الحشيش أكثرها شيوعًا. أما في أوروبا فقد قدم التدخين نشاطًا اجتماعيًا جديدًا وشكلاً من أشكال تعاطي المخدرات لم يكن معروفًا من قبل.
اختلف طرق فهم التدخين عبر الزمن وتباينت من مكان إلى أخر، من حيث كونه مقدس أم فاحش، راقي أم مبتذل، دواء عام -ترياق- أم خطر على الصحة. ففي الآونة الأخيرة وبشكل أساسي في دول الغرب الصناعية، برز التدخين باعتباره ممارسة سلبية بشكل حاسم. في الوقت الحاضر، أثبتت الدراسات الطبية أن التدخين يعد من العوامل الرئيسية المسببة للعديد من الأمراض مثل: سرطان الرئة، النوبات القلبية، ومن الممكن أن يتسبب أيضًا في حدوث عيوب خلقية. وقد أدت المخاطر الصحية المثبتة عن التدخين، إلى قيام الكثير من الدول بفرض ضرائب عالية على منتجات التبغ، بالإضافة إلى القيام بحملات سنوية ضد التدخين في محاولة للحد من تدخين التبغ.)
وفي الوسوعة أيضا معلومة مذهلة متعلقة بقدم استعمال الشيشة في الشرق الأوسط حيث جاء فيها ( التدخين (dhumrapana) ويعني حرفيًا (شرب الدخان) فتمت ممارسته لمدة لا تقل عن 2000 سنة. فقبل العصر الحديث، كانت تُستهلك هذه المواد من خلال أنابيب، وقصبة مختلفة الأطوال
وكان تدخين الحشيش رائجًا في الشرق الأوسط قبل وصول التبغ، وكان شائعًا قديما كنشاط اجتماعي تَمركز حول تدخين نوع من أنابيب التدخين المائية الذي يطلق عليه "شيشة". وبعد دخول التبغ أصبح التدخين مكونًا أساسيًأ في المجتمع والثقافة الشرقية، وأصبح ملازما لتقاليد هامة مثل الأفراح والجنائز حيث تمثل ذلك في العمارة والملابس والأدب والشعر.
دخل تدخين الحشيش إلى جنوب الصحراء الكبرى بإفريقيا من خلال إثيوبيا وساحل إفريقيا الشرقي عن طريق التجار الهنود والعرب في القرن الثالث عشر أو ربما قبل ذلك. وقد انتشر على طرق التجارة نفسها التي كانت تسلكها القوافل المحملة بالبن والتي ظهرت في مرتفعات أثيوبيا.
حيث تم تدخينه في أنابيب تدخين مائية تصنع من اليقطين مع جزء مجوف مصنوع من الطين المحروق لوضع الحشيش، ويبدو جليًا أن هذا اختراع أثيوبي وتم نقله فيما بعد إلى شرق وشمال ووسط إفريقيا.
وعند وصول أخبار من أول مستكشفين أوروبيين يصلوا إلى الأمريكتين وردت أنباء عن الطقوس التي كان يقوم فيها الكهنة المحليين بالتدخين حتى يصلون إلى مستويات عالية من النشوة ولذلك فمن غير المحتمل أن تكون تلك الطقوس قاصرة على التبغ فقط.
(وفي عام 1560 قدم رجل فرنسي يدعى جان نيكوت (الذي ينسب إليه لفظ النيكوتين) التبغ إلى فرنسا.
وانتشر التبغ من فرنسا إلى إنجلترا. وفي عام 1556 شوهد أول رجل إنجليزي يدخن التبغ، وهو بحارًا شوهد وهو "ينفث الدخان من فتحتي أنفه".
كان التبغ واحدًا من بين المواد المسكرة مثل الشاي والقهوة والأفيون التي كانت تستخدم في الأساس كشكل من أشكال الدواء.
قُدم التبغ في عام 1600 من قبل التجار الفرنسيين إلى ما يعرف اليوم ب غامبيا والسنغال.
وفي الوقت نفسه، قدمت القوافل القادمة من المغرب التبغ إلى المناطق المحيطة بمدينة تيمبوكتو، كما قدم البرتغالييون السلعة والنبات إلى جنوبي أفريقيا، ومنهاانتشر التبغ في كل أنحاء أفريقيا بحلول منتصف القرن السابع عشر.
الرأي الثاني :
أن بدايته كانت عام 1492مع اكتشاف كرسوتفر كولومبوس لأمريكا ووجد الهنود الحمر يستخدمونه بدأ التدخين اول ما بدأ بين أهل أمريكا الأصليين ( الهنود الحمر ).. وبالتحديد في جزيرة " كوبا " .. فعندما نزل كريستوفر كولومبس خلال رحلته الشهيرة الى العالم الجديد عام 1492 شاهد قرية صغيرة .. ووجد اهلها فقراء وبين ايديهم لفافات بنية وبجوارهم نار بها جمرات .. توضع الجمرة على احد طرفي اللفافة .. ويوضع الطرف الآخر في إحدى فتحتي الأنف .. ومنه يحدث الشهيق .. ويخرج الزفير على هيئة حلقات من الدخان .. هذا ويستنشق الشخص مرتين او ثلاثة من اللفافة قبل ان يناولها لمن يليه.
تعجب البحارة لما رأوه وبدافع الفضول عرفوا سر هذه اللفافات فهي مصنوعة من أوراق نبات بري ينمو بكثرة هناك . وتوهم الهنود الحمر والكوبيون ان دخان هذا النبات مهديء وملطف ويزيل الملل والضجر. أخذ كولومبس بذور هذا النبات الى اوروبا حيث بدأ الفلاحين بزراعته واستخدام أوراقه كعشب طبي للإسترخاء.
وفي عام 1560 كان السفير الفرنسي ( جين نيكوت ) في زيارة لسجون البرتغال فإذا بحارس السجن يتقدم إليه بهدية غريبة عبارة عن عشب وبذور استوردت حديثا من فلوريدا التي استعمرها البيض. فبعد تجربته بعث منها الى ملكة فرنسا التي جربته ثم اعلنته لشعبها على انه نبات يشفي من الصداع.. زمن ثم انتقل هذا النبات إلى بقية أوروبا. وسمي " نيكوتين " نسبة الى جين نيكوت .
في عام 1612 بدأ انتشار التبغ تجاريا الى أمريكا الشمالية بواسطة الكولون ( جون رولف ).. الذي نقل البذور من امريكا الجنوبية الى فيرجينيا .. التي كانت تتمتع بتربة ومناخ مناسبين جدا لزراعة هذا النبات .. فكان معظمه يصدر الى بريطانيا .. الى ان بدأت الحروب التحريرية عام 1775 حين بدأت المصانع الأمريكية في إنتاجه على هيئة سجائر ومضغ ونشوق وذلك من أجل الإستخدام المحلي. اما السيجار فلم يتم تصنيعه حتى أوائل ال1800 للميلاد.
فهذه المعلومات تعطينا الفوائد التالية :
1-ان التدخين قديم جدا 5000سنة قبل الميلاد أي كان موجودا زمن الأنبياء عليهم السلام .
2-أنه كان يعد من الاستعمالات الروحية التي تسمو بالانسان .
3-أن بدايته كان مصنفا على أنه نبات طبي ومهدئ للأعصاب وطارد للضجر.
4-أنه عرف في بلاد العرب والشرق الأوسط أي أن التدخين كان موجودا في زمن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ولكنه لم يكن شائعا مشتهرا.
5-أن استخدام التدخين من قبل الهنود الحمر كان استخداما يختلف عما نشاهده اليوم .
6-أن الحشيش كان رائجا في الشرق الأوسط قبل وصول التبغ ,وكان الناس يدخنونه.
7-ان التدخين خلال الفترات السابقة أي قبل انتشاره وذلك منذ أكثر من سبعين عاما لم يكن محرما إلا من بعض رجال الكنيسة ,وكان علماء المسلمين لايحرمونه .
8-وقد حورب التدخين من قبل السلاطين وحظر الستخدامه وبيعه إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل ففي الموسوعة بعد فترة وجيزة من تقديم التبغ إلى العالم القديم، تعرض للنقد المتكرر من قبل الدولة وكبار رجال الدين. حيث كان السلطان مراد الرابع (1623-1640) أحد سلاطين الإمبراطورية العثمانية، من أول الذين حاولوا منع التدخين بدعوي أنه يمثل تهديدًا للصحة والأخلاقيات العامة. كما قام الإمبراطور الصيني "شونجزين" بإصدار مرسوم يقضي بمنع التدخين قبل وفاته بسنتين وقبل الإطاحة بسلالة مينج الحاكمة. وفي وقت لاحق، اعتبر المانشووي المنحدرين من سلالة تشينج الذين كانوا في الأصل قبيلة بدوية من المحاربين الفرسان، اعتبروا التدخين جريمة أكثر شناعةً من إهمال الرماية. وخلال عهد إيدو في اليابان، تعرضت بعض مزارع التبغ الأولية إلى الازدراء الشديد من قبل قادة القوات المسلحة اليابانية التي رأت أن هذا الأمر يعد تهديدًا للاقتصاد العسكري، حيث إن ذلك الأمر يمثل إهدارًا للأرض الزراعية القيمة في زراعة المخدرات بدلاً من استخدامها في زراعة محاصيل غذائية.
ماكينة لف السجائر التي اخترعها بونساك كما عرضت في مكتب براءات الاختراع الأمريكي، 238,640.
لطالما كان رجال الدين من أبرز المعارضين للتدخين حيث رؤوا أن التدخين عمل غير أخلاقي أو من أعمال الكفر الصريح. ففي عام 1634، قام بطريرك موسكو بحظر بيع التبغ وحكم على الرجال والنساء الذين يخالفون القرار بأن تشق فتحات أنوفهم طوليًا وأن تجلد ظهورهم حتى ينسلخ عنها الجلد. وبالمثل قام بابا الكنيسة الغربية إربان السابع بإدانة التدخين في بيان رسمي باباوي في عام 1950.
وعلى الرغم من تضافر الجهود، فقد تم تجاهل القيود وقرارات الحظر على مستوى العالم. وعندما اعتلى العرش الملك الإنجليزي جيمس الأول، وكان معارضًا شرسًا للتدخين قام بتأليف كتاب ضد التدخين تحت عنوان "إدانة التبغ", وقد حاول تحجيم وحظر هذا الاتجاه الجديد عن طريق فرض زيادة باهظة على ضريبة تجارة التبغ وقدرت ب4000 في المائة في عام 1604.
وعلى الرغم من ذلك، فإن تلك التجربة باءت بالفشل، حيث كان في لندن حوالي 7000 بائع للتبغ في مطلع القرن السابع عشر. وبعد ذلك، أدرك الحكام الذين يهتمون بدقة القرارات بعدم جدوى قرارات منع التدخين، وبدلاً من ذلك، قاموا بتحويل تجارة وزراعة التبغ إلى مشاريع حكومية احتكارية مربحة.
ثانيا :
هل التدخين من مسائل الإجماع أم من مسائل الخلاف المعتبر ؟
اولا:الاجماع هو اتفاق جميع المجتهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي عملي بعد وفاته في عصر من العصور .
فهل أجمع علماء المسلمين على تحريم التدخين متمثلا في السيجار او الشيشة مثلا ؟
نقاط مهمة لابد من معرفتها :
1-قد قدمنا تاريخ التدخين ولم أعثر على نص من العلمائ المتقدمين يدل على تحريم التدخين فكان التدخين قديما ليس فقط مسكوت عنه في الكتاب والسنة بل مسكوت عنه علمائيا أي من قبل اهل العلم والفتوى والأصل في الشئ المسكوت عنه الحل والإباحة .
2-وأقدم ما عثرت عليه هو كلام الامام الشوكاني المتوفى عام 1250هجري في رسالته (إرشاد السائل إلى دلائل المسائل)في السؤال الحادي عشر حيث جاء في اول الرسالة (عن شجرة التنباك هي يجوز استعمالها على الصفة التي يستعملها كثير من الناس الآن أم لا؟
فأجاب :
أقول :ألأصل الذي يشهد له القرآن الكريم والسنة المطهرة هو أن كل مافي الأرض حلال ولا يحرم شئ من ذلك إلا بدليل خاص كالمسكر والسم القاتل وما فيه ضرر عاجل أو آجل كالتراب ونحوه ..الخ.
وتحمس للقول بالإباحة ورد على من قال بالتحريم ,وسأذكر استدلالاته في مكانها من هذا البحث .
3-لقد اختلف علماء المسلمين في حكم التدخين اختلافا لا ريب فيه، بل الأقوال في المذهب الواحد من المذاهب الأربعة أكثر من أربعة (الجواز-الكراهية-التحريم-التفصيل-التوقف)، فالقول إذًا بتحريمه بالإجماع دعوى غير مجردة من الاستقراء الناقص أوالكذب الخالص).
قال بإباحته الشيخ مصطفى السيوطي الرحيباني -الحنبلي-: (كل عالم محقق له اطلاع على أصول الدين وفروعه إذا خلا من الميل مع الهوى النفساني وسئل الآن عن شربه بعد اشتهاره ومعرفة الناس به وبطلان دعوى المدلين فيه بإضراره للعقل والبدن لا يجيب إلا بإباحته...)، وجزم بكراهته الشيخ أبو سهل محمد بن الواعظ -الحنفي-: (الذي تفيده الأدلة كراهته قطعا، وحرمته ظنا، وكراهته لا يتوقف فيها إلا مخذول مكابر، لقاطع الحق معاند، فكل منتن مكروه كالبصل، وهذا الدخان الخبيث أولى، ومنع شاربه من دخول المسجد ومن حضور المجامع أولى)، وصرح بتحريمه أبو الغيث القشاش المغربي -المالكي-، ورأى الشيخ سليمان الجمل -الشافعي- أنه يجب على الزوج توفيره للزوجة المعتادة على شربه,وممن قال بكراهيته رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الشيخ يوسف القرضاوي وغيره ,وكثير من مشايخ الشام كشافعية علماء الأكراد ,وكثير من مشايخ وقراء مصر وبلاد المغرب.
ولذا من استحل التدخين لم يكفر بل لايفسق إذا استعمله على الوجه الذي لايفضي به الى التحريم .
لأنه لم يستحل شيئا معلوما تحريمه من الدين بالضرورة كشرب الخمر والزنا وأكل الربا والظلم .