تركيا الجديدة.. التألق ليس سرّاً
| 29/10/1430
تركيا اليوم في ذروة تألقها: اقتصاد منتعش حتى في ظل الأزمة المالية والاقتصادية العالمية، واستقرار سياسي وأمني ولا سيما مع بوادر معالجة شاملة وربما تغدو نهائية وحاسمة لمشكلة الأكراد في جنوبي تركيا، وإنهاء ملفات شائكة عمرها نحو قرن من الزمان مع أرمينيا، وتنفيس لاحتقان مزمن مع اليونان، وازدهار لعلاقاتها بالعالم العربي إلى حد التعاون الاستراتيجي مع أكثر من دولة عربية، ودور إقليمي نشط في حل المشكلات وإصلاح ذات البين...وأخيراً وليس آخراً:منع الكيان الصهيوني من المشاركة في مناورات جوية سنوية، ورفع السقف بإجراء مناورات عسكرية مع سوريا، ثم اشتراط رفع الحصار عن غزة لعودة العلاقات مع تل أبيب إلى سابق عهدها!!!
ومن يعرف حجم الإرث الثقيل الذي استقبل حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا منذ سنوات، يدهشه مدى النجاح الذي أحرزه هذا الحزب ذو الجذور الإسلامية العميقة.
هي إنجازات تجاوزت توقعات أشد الناس تفاؤلاً، بل إنها تفوقت حتى على أحلام قادة الحزب، عندما حَمَلَتْهم أصوات شعبهم إلى سدة السلطة في أنقرا.
وإذا كان الغرب الحقود قد سمى دولة الخلافة العثمانية في أواخر أيامها"الرجل المريض"، فإن تركيا غداة تسلم أردوجان وصحبه مقاليدها، يمكن وصفها عن استحقاق بأنها"الرجل المتوفى سريرياً".
فجمهورية أتاتورك قامت على القمع ضد الأكثرية الساحقة المتشبثة بدينها وهويتها، وكذلك على العنصرية إزاء الأكراد، فضلاً عن العداء المستمر لكل محيطها بدءاً من كراهية العرب ، والتنازع مع اليونان، ...ولعل هذا البناء الفوقي الباطش يفسر تبعيتها المطلقة للغرب(عضوية حلف شمال الأطلسي مع أن الشعار الأم للأتاتوركية هو الوطنية المسرفة في عنصريتها!!)، مثلما يكشف الأسباب الحقيقية لتردي الاقتصاد التركي وتخلفه، حيث تنهشه الديون الخارجية، وانخفاض قيمة الليرة التركية إلى درجة جعلتها موضع سخرية الأتراك وتندرهم.ويضاف إلى تلك العلل القاتلة كلها، تفشي الفساد الإداري والرشوة ونشوء طبقة سياسية لا ذمة لها إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
كل ما سلف ليس من عندياتنا، وليس مما يقوله خصوم التجربة التغريبية المريرة، بل إنه موثق في المنظمات الدولية والغربية، التي إذا جاز اتهامها بالمحاباة فإنها لن تكون سوى انحياز لطفل الغرب المدلل، الذي قضى على الخلافة الإسلامية، وقطع روابط تركيا مع أمتها!!
ولا ننس شبح الجيش الذي أقيم لضمان الإبقاء على الأتاتوركية فوق رقاب الأتراك بالقوة، وهو ما تجلى في أبشع صوره بالانقلابات العسكرية العديدة التي قام بها الجيش ضد الحكومات المنتخبة.
فكيف استطاع حزب العدالة والتنمية أن يسير في وسط حقول الألغام والأسلاك الشائكة الداخلية والخارجية؟
بعد توفيق الله عز وجل، يأتي الدهاء السياسي المدعوم بنظافة اليد في فترة إدارة بلديات كبرى في البلاد، على رأس عوامل النجاح، فقيادات هذا الحزب تميز بدقة بين الاستراتيجية والتكتيك في الساحتين المحلية والخارجية، ولذلك فهي تمارس الكر والفر بحنكة مبهرة، تعرف متى تُقْدِم ومتى تُحْجِم، متى تتكلم بصراحة ومتى تصمت ومتى تتحدث بلغة دبلوماسية حمّال أوجه!!
ولولا نجاح أردوجان في احتواء العسكر وتحجيم دورهم بصورة غير مسبوقة، لما تمكن من البقاء في الحكم حتى الآن.
غير أن هنالك نقطة مهمة ينبغي التنبه لها.فأتاتورك بالرغم من أنه أقام نظامه فوق الجماجم وبالحديد والنار، إلا أنه كان أهون من مقلديه العرب في أمر واحد، هو وجود حد أدنى من هيبة الدولة وسلطة القانون، مع أن هذا القانون جائر ومستورد ومفروض على الناس عنوة.
أما أخلافه في العالم العربي فقد أخذوا عن الرجل كل شروره، ولم يقتبسوا "حسنته" اليتيمة، التي نفذ منها إسلاميو تركيا بصبر وذكاء وعبر معاناة طويلة وشاقة، حفلت بالتضحيات الجسام.
ونظرة عجلى على البلدان العربية التي تسيطر على أكثرها نظم تغريبية مستبدة، تؤكد صحة ملاحظتنا، فليس فيها سيادة حقيقة للقانون البتة، إلا من الناحية الشكلية وفي الادعاءات الإعلامية الدعائية.
كلمة موقع المسلم