فأمره أن يجاهد الكفار بالسيف والمواعظ الحسنة والدعاء إلى الله، والمنافقين بالغلظة وإقامة الحجة، وأن يعرفهم أحوالهم في الآخرة، وأنهم لا نور لهم يجوزون به الصراط مع المؤمنين. وقال الحسن: أي جاهدهم بإقامة الحدود عليهم فإنهم كانوا يرتكبون موجبات الحدود، وكانت الحدود تقام عليهم. انتهى كلامه - رحمه الله -.
ولئن كان جهاد الكفار بالسنان، فإن جهاد المنافقين باللسان.
ولكن ما حدود هذه المُجاهدة؟
وكيف تكون الغلظة؟
هذا يُحدده فعله - صلى الله عليه وسلم -، وهديه في تعامله مع المنافقين.
فقد قالوا عنه وعن أصحابه ما قالوا.
ونالوا منه ومن أصحابه.
وآذوه في عرضه الشريف - صلى الله عليه وسلم -.
ومع ذلك صبر عليهم، مع دوام مُجاهدتهم.
ولو أردت أن أسرد القصص والوقائع التي جرت في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - في كيفية التعامل مع المنافقين لطال بنا المقام، ولكني أورد بعض الأمثلة.
هذه واقعة ينال فيها رجل من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويعفو عنه - عليه الصلاة والسلام - ويُعامله بالرفق.
بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهبة في أديم مقروظ لم تحصل من ترابها، فقسمها بين أربعة نفر بين عيينة بن حصن والأقرع بن حابس وزيد الخيل والرابع إما علقمة بن علاثة وإما عامر بن الطفيل، فقال رجل من أصحابه: كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء. قال فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء. يأتيني خبر السماء صباحا ومساء. قال فقام رجل غائر العينين مشرف الوجنتين ناشز الجبهة كث اللحية محلوق الرأس مشمر الإزار، فقال: يا رسول الله اتق الله! فقال: ويلك! أو لست أحق أهل الأرض أن يتقي الله. قال ثم ولّى الرجل، فقال خالد بن الوليد: يا رسول الله ألا أضرب عنقه؟ فقال: لا لعله أن يكون يصلي. قال خالد: وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس، ولا أشق بطونهم. رواه مسلم.
وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال: كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما بال دعوى الجاهلية؟ قالوا: يا رسول الله كسع رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمعها عبد الله بن أُبيّ فقال: قد فعلوها! والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزّ منها الأذل. قال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق! فقال: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.
وكان عمر - رضي الله عنه - فيه من الشدة ما فيه حتى إنه في كل مرة يقول: دعني أضرب عنقه!
ومع ذلك يعفو - عليه الصلاة والسلام - عن المنافقين رجاء توبتهم وإسلامهم.
قال - سبحانه وبحمده - عن المنافقين: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا)
ومع أنه - عليه الصلاة والسلام - أُمِـر بإغلاظ القول للمنافقين، إلا أنه ما كان يُصرّح بأسمائهم، وهذه طريقة القرآن (ومنهم..)، ولذا ما كان يعرف أسماء المنافقين بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا حُذيفة - رضي الله عنه -.
ومن هنا فإن هناك من يغلط في عدم استعمال الشدة، مُستدلا بقول الله - تعالى - لموسى وهارون في أمر فرعون: (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)
فيظن بعض الناس أن اللين في القول والمعاملة بالحسنى تكون باستمرار، وليس الأمر كذلك، فإن نبي الله موسى - عليه الصلاة والسلام - لما احتاج إلى إغلاظ القول لفرعون أغلظ له فقال: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَـؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا)
ومع ذلك هو ملتزم بالأمر الأول (فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا) ولكن لكل مقام مقال.
فالشدة في موضعها، واللين في موضعه.
ولا أعني عدم الكلام على المنافقين، أو محاهدتهم، بل يُتّبع في ذلك طريقة القرآن في توضيح الأوصاف، ومُجاهدة من رفع رأس النفاق باسمه خاصة إذا تصدّر في وسائل الإعلام وغيرها.
قال المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا *** مضر كوضع السيف في موضع الندى
والله - سبحانه و تعالى - أعلم.
عبدالرحمن بن عبدالله السحيم