قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين
وحقيقة الأمر : أن التوكل حال مركبة من مجموع أمور لا تتم حقيقة
التوكل إلا بها وكل أشار إلى واحد من هذه الأمور أو اثنين أو أكثر فأول ذلك :
الدرجة الأولى :معرفة بالرب وصفاته من قدرته وكفايته وقيوميته وانتهاء الأمور إلى علمه وصدورها عن مشيئته وقدرته وهذه المعرفة أول درجة يضع بها العبد قدمه في مقام التوكل .
قال شيخنا رضي الله عنه : ولذلك لا يصح التوكل ولا يتصور من فيلسوف ولا من القدرية النفاة القائلين : بأنه يكون في ملكه ما لا يشاء ولا يستقيم أيضا من الجهمية النفاة لصفات الرب جل جلاله ولا يستقيم التوكل إلا من أهل الإثبات ، فأي توكل لمن يعتقد أن الله لا يعلم جزئيات العالم سفليه وعلويه ولا هو فاعل باختياره ولا له إرادة ومشيئة ولا يقوم به صفة فكل من كان بالله وصفاته أعلم وأعرف : كان توكله أصح وأقوى والله سبحانه وتعالى أعلم
الدرجة الثانية : إثبات في الأسباب والمسببات
فإن من نفاها فتوكله مدخول وهذا عكس ما يظهر في بدوات الرأي : أن إثبات الأسباب يقدح في التوكل وأن نفيها تمام التوكل ، فاعلم أن نفاة الأسباب لا يستقيم لهم توكل ألبتة لأن التوكل من أقوى الأسباب في حصول المتوكل فيه فهو كالدعاء الذي جعله الله سببا في حصول المدعو به فإذا اعتقد العبد أن توكله لم ينصبه الله سببا ولا جعل دعاءه سببا لنيل شيء فإن المتوكل فيه المدعو بحصوله إن كان قد قدر حصل توكل أو لم يتوكل دعا أو لم يدع وإن لم يقدر لم يحصل توكل أيضا أو ترك التوكل ، وصرح هؤلاء أن التوكل والدعاء عبودية محضة لا فائدة لهما إلا ذلك ولو ترك العبد التوكل والدعاء ما فاته شيء مما قدر له ومن غلاتهم من يجعل الدعاء بعدم المؤاخذة على الخطإ والنسيان عديم الفائدة إذ هو مضمون الحصول
ورأيت بعض متعمقي هؤلاء في كتاب له لا يجوز الدعاء بهذا وإنما يجوزه تلاوة لا دعاء قال لأن الدعاء به يتضمن الشك في وقوعه لأن الداعي بين الخوف والرجاء والشك في وقوع ذلك شك في خبر الله فانظر إلى ما قاد إنكار الأسباب من العظائم وتحريم الدعاء بما أثنى الله على عباده وأوليائه بالدعاء به وبطلبه ولم يزل المسلمون من عهد نبيهم وإلى الآن يدعون به في مقامات الدعاء وهو من أفضل الدعوات ، وجواب هذا الوهم الباطل أن يقال : بقي قسم ثالث غير ما ذكرتم من القسمين لم تذكروه وهو الواقع وهو أن يكون قضى بحصول الشيء عند حصول سببه من التوكل والدعاء فنصب الدعاء والتوكل سببين لحصول المطلوب وقضى بحصوله إذا فعل العبد سببه فإذا لم يأت بالسبب امتنع المسبب وهذا كما قضى بحصول الولد إذا جامع الرجل من يحبلها فإذا لم يجامع لم يخلق الولد
وقضى بحصول الشبع إذا أكل والري إذا شرب فإذا لم يفعل لم يشبع ولم يرو وقضى بحصول الحج والوصول إلى مكة إذا سافر وركب الطريق فإذا جلس في بيته لم يصل إلى مكة وقضى بدخول الجنة إذا أسلم وأتى بالأعمال الصالحة فإذا ترك الإسلام ولم يعمل الصالحات : لم يدخلها أبدا وقضى بإنضاج الطعام بإيقاد النار تحته وقضى بطلوع الحبوب التي تزرع بشق الأرض وإلقاء البذر فيها فما لم يأت بذلك لم يحصل إلا الخيبة فوزان ما قاله منكرو الأسباب : أن يترك كل من هؤلاء السبب الموصل ويقول : إن كان قضى لى وسبق في الأزل حصول الولد والشبع والري والحج ونحوها فلا بد أن يصل إلي تحركت أو سكنت وتزوجت أو تركت سافرت أو قعدت وإن لم يكن قد قضى لي لم يحصل لي أيضا فعلت أو تركت فهل يعد أحد هذا من جملة العقلاء وهل البهائم إلا أفقه منه فإن البهيمة تسعى في السبب بالهداية العامة .
فالتوكل من أعظم الأسباب التي يحصل بها المطلوب ويندفع بها المكروه فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ولكن من تمام التوكل عدم الركون إلى الأسباب وقطع علاقة القلب بها فيكون حال قلبه قيامه بالله لا بها وحال بدنه قيامه بها، فالأسباب محل حكمة الله وأمره ودينه والتوكل متعلق بربوبيته وقضائه وقدره فلا تقوم عبودية الأسباب إلا على ساق التوكل ولا يقوم ساق التوكل إلا على قدم العبودية والله سبحانه وتعالى أعلم .
الدرجة الثالثة : رسوخ القلب في مقام توحيد التوكل
فإنه لا يستقيم توكل العبد حتى يصح له توحيده بل حقيقة التوكل توحيد القلب فما دامت فيه علائق الشرك فتوكله معلول مدخول وعلى قدر تجريد التوحيد تكون صحة التوكل فإن العبد متى التفت إلى غير الله أخذ ذلك الالتفات شعبة من شعب قلبه فنقص من توكله على الله بقدر ذهاب تلك الشعبة ومن ههنا ظن من ظن أن التوكل لا يصح إلا برفض الأسباب وهذا حق لكن رفضها عن القلب لا عن الجوارح فالتوكل لا يتم إلا برفض الأسباب عن القلب وتعلق الجوارح بها فيكون منقطعا منها متصلا بها والله سبحانه وتعالى أعلم .
الدرجة الرابعة : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونهإليه:
بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشويش الأسباب ولا سكون إليها بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وعلامة هذا أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه قد
حصنه من خوفها ورجائها فحاله حال من خرج عليه عدو عظيم لا طاقة له به فرأى حصنا مفتوحا فأدخله ربه إليه وأغلق عليه باب الحصن فهو يشاهد عدوه خارج الحصن فاضطراب قلبه وخوفه من عدوه في هذه الحال لا معنى له ، وكذلك من أعطاه ملك درهما فسرق منه فقال له الملك عندي أضعافه فلا تهتم متى جئت إلي أعطيتك من خزائني أضعافه فإذا علم صحة قول الملك ووثق به واطمأن إليه وعلم أن خزائنه مليئة بذلك لم يحزنه فوته وقد مثل ذلك بحال الطفل الرضيع في اعتماده وسكونه وطمأنينته بثدي أمه لا يعرف غيره وليس في قلبه التفات إلى غيره كما قال بعض العارفين : المتوكل كالطفل لا يعرف شيئا يأوي إليه إلا ثدي أمه كذلك المتوكل لا يأوي إلا إلى ربه سبحانه
الدرجة الخامسة : حسن الظن بالله عز و جل
فعلى قدر حسن ظنك بربك ورجائك له يكون توكلك عليه ولذلك فسر بعضهم التوكل بحسن الظن بالله والتحقيق أن حسن الظن به يدعوه إلى التوكل عليه إذ لا يتصور التوكل على من ساء ظنك به ولا التوكل على من لا ترجوه والله أعلم .
الدرجة السادسة : استسلام القلب له وانجذاب دواعيه كلها إليه
وقطع منازعاته وبهذا فسره من قال أن يكون العبد بين يدي الله كالميت بين يدي الغاسل يقلبه كيف أراد لا يكون له حركة ولا تدبير وهذا معنى قول بعضهم التوكل إسقاط التدبير يعني الاستسلام لتدبير الرب لك وهذا في غير باب الأمر والنهي بل فيما يفعله بك لا فيما أمرك بفعله
فالاستسلام كتسليم العبد الذليل نفسه لسيده وانقياده له وترك منازعات نفسه وإرادتها مع سيده والله سبحانه وتعالى أعلم.
فصل الدرجة السابعة : التفويض
وهو روح التوكل ولبه وحقيقته وهو إلقاء أموره كلها إلى الله وإنزالها به طلبا واختيارا لا كرها واضطرارا بل كتفويض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه العالم بشفقته عليه ورحمته وتمام كفايته وحسن ولايته له وتدبيره له فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه وراحته من حمل كلفها وثقل حملها مع عجزه عنها وجهله بوجوه المصالح فيها وعلمه بكمال علم من فوض إليه وقدرته وشفقته.