هكذا كانوا يوم كنا ( 1 )
كتب الدكتور حسان شمسي باشا طبيب وكاتب إسلامي سوري مقيم في السعودية :
للمسلمين فضل لا ينكر على الحضارة الإنسانية قاطبة، ولا سيما على حضارة الغرب المعاصرة.
فلقد نبغ علماء المسلمين في شتى العلوم والمعارف ، ويخطئ من يظن أن المسلمين كانوا مجرد نقلة ، نقلوا التراث الإغريقي فقط ، ذلك لأنهم قد استوعبوه وهضموه وفهموا أسراره ومضامينه ، وأضافوا إليه ومزجوه بعلوم الإسلام والقرآن .
وشهد الله ما ذكر ذاكر حضارة العرب إلا استهلت بعبراتنا الشؤون ، حسرة على من كانوا رسل خير ورحمة ، وحملة علم وعرفان ، أن تذهب جهودهم الإنسانية سدى على يد من خلفوهم في الحضارة ، فرجعوا بالفضيلة قرونا إلى الوراء .
وفي مجال الطب نبغ المسلمون في علوم الطب وفروعه ، وألفوا فيه الكتب والمراجع وابتكروا الآلات الطبية ، وأقاموا المستشفيات الثابتة والمتنقلة . واتسم العمل بالمستشفيات بالطابع الإسلامي ، والطابع الخلقي والإنساني بما يفوق نظام العمل بأرقى المستشفيات في بلاد الغرب .
ومن مفاخر الإسلام حقا أن أول المستشفيات في الإسلام كانت خيمة رفيدة ، و هي امرأة كانت تداوي الجرحى ، وتحتسب بنفسها على خدمة من أصابته الجراح من المسلمين . ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصاب سعد بن معاذ رضي الله عنه السهم في غزوة الخندق:
" اجعلوه في خيمة رفيدة حتى أعوده من قريب " .ولما تتابعت الفتوح كان الجيش مضارب فيها الممرضات من النساء يداوين الجرحى ، وهذا من جهادهن .وكان العرب يسمون المشافي ( بيمارستانات ) ويخففونها فيقول مارستانات . وهي في الأصل كلمة فارسية معناها " معسكر المرضى ".
وكانت البيمارستانات من أول عهدها إلى زمن طويل مستشفيات عامة ، تعالج فيها جميع الأمراض والعلل من باطنية وجراحية ورمدية وعقلية ، إلى أن أصابتها الكوارث ، ودار بها الزمن وهجرها المرضى فأقفرت إلا من المجانين، فصارت كلمة مارستان تعني مأوى المجانين
وفي الوقت الذي كانت فيه المشافي تُشادُ في كل مدينة من المدن الإسلامية ، كانت أوروبا تغرق في ظلام الجهل والتخلف .
وكان من أشهر المشافي في أوروبا في القرون الوسطى مستشفى " أوتيل ديو " في باريس . وقد جاء ذكره في كتاب ألفه " ماكس نوردو " قال فيه عن هذا المستشفى :
" كان يستلقي في الفراش الواحد أربعة مرضى أو خمسة أو ستة. فترى قدمي الواحد في جانب رأس الآخر. وكان الأطفال الصغار إلى جانب الشيوخ الشيب. حقا إن هذا لا يصدق، ولكنه الحقيقة والواقع. كانت المرأة تئن من مخالب المخاض إلى جانب رضيع يتلوى من التشنجات ، ورجل يحترق في هذيان الحمى إلى جانب مسلول يسعل سعلته الجارحة ، و مصاب بإحدى الأمراض الجلدية يمزق جلده الأجرب بأظافره الثائرة .
كانت رائحة الهواء في قاعات المرضى فاسدة حتى أن الزوار ما كانوا يجرؤن على دخولها إلا بعد أن يضعوا على وجوههم إسفنجة مبللة خلا . وتبقى جثث الموتى أربعا وعشرين ساعة في الفراش . وقد وصفه في القرن الثامن عشر باللي ويتنون ولافوازيه في تقريرهم وصفا تقشعر منه الأبدان ، إذ رأوا الموتى جنبا إلى جنب مع الأحياء ، كما رأوا الناقهين مختلطين في غرفة واحدة مع المحتضرين ، وكانت غرفة العمليات حيث الشق والقطع والبتر تأوى الذين تعمل لهم العمليات في الغد . فكانت تعمل في وسط الغرفة نفسها ، وكان المريض يرى أمامه تحضيرات العذاب ويسمع صراخ المعذبين ، فإن كان ممن ينتظر دوره في الغد كانت أمامه صورة أوجاعه المقبلة . وإن كان ممن مر بهذا الجحيم كان أمامه منظر يذكره بالأوجاع التي قاساها ".
ولم تعمل يد التحسين في هذا المستشفى الذي أنشئ عام 660 م إلا بعد الثورة الفرنسية عام 1789 م .