أحمد فال ولد الدينفي شتاء عام ألفين وعشرة، قررت ترك العمل في "جنوب الجنوب" وحزمت متاعي منتقلاً من مهجر إلى آخر. قررت الانتقال من بلاد قوس قزح إلى جزيرة العرب.
كان من أهم دوافع القرار أن لدي عصفورة ( ابنتي ) في عامها الرابع، وكنت أوقن أني لو بقيت في ديار العجم لصارت لغتها الأولى اللغة الإنكليزية. وأنا رجل لا يضيق بشيء ضيقه أن يشقى عقديْن كيْ يربي سمسارا حضاريا في أحسن الحالات..
كانت ليلى تدرس في روضة تعتبر عريقة وممتازة، فقد كانت خاصة بالبيض أيام التمييز العنصري. دخلتُ إلى المدرسة في أحد الصباحات الوضاءة بجوهانزبيرغ، فخرجت لي سيدة بيضاء تتهادى في عقدها الرابع ما زلت أذكر أنها تدعى "جاكي". بادرتني قائلة: "سمعت أن ليلى ستغادر. لدي وصية واحدة: احرص على أن لا تدرس بنتك إلا في مدارس أمريكية أو بريطانية محضة".
بادلت السيدة ابتسامتها التجارية بابتسامة ورددتُ: "سرّ تركي لهذه الديار هو الخوف من أن تظل ليلى تدرس بالإنكليزية فقط ، مما سيحرمها من لغة تختزن أربعة عشر قرنا من الثقافة والفكر والتاريخ. إنها اللغة الوحيدة على ظهر الأرض التي يوجد بها كتاب سماوي بنصه الأصلي هي لغتي التي أهوى.. اللغة العربية. إنها لغة عتيقة تختزن الذاكرة الجمعية لبني قومي، ولو فات بنتي إتقانها وهي صغيرة لن تتقنها وهي كبيرة.
كنت أتحدث بتدفق كأني أطارد ثاراتي مع كل بلهاء الآباء الذين يضج بهم العالم العربي.
ثم كان مما قلت لجاكي أني أشجع دراسة اللغات الأجنبية وأني أومن – كما قال عبد الرحمن بدوي- بأن اللغات كالبنيان يشد بعضها بعضا، لكني أحرص على لغتي من أي لغة أخرى ولن أتمكن من الاطمئنان على لغة بنتي إذا ظلت في محيط إنكليزي ضاغطٍ ثقافيا.
وبفضل الله- ثم بفضل قراري ذاك - ها هي ليلى اليوم تتحدث لغة عريبة صقيلة إضافة إلى تعاطٍ مميز مع لغة أجنبية.
تذكرت هذه القصة قبل أيام وأنا أقرأ تغريداً لزميلتي الإعلامية ديمة الخطيب.