في يوم الخميس كانت العاشرة صباحاً ، وقفت تحت ذلك الجبل الأشم وقلبت ناظري في أرجائه ، بدت لي فكرة الصعود إلى القمة أحسست بطول الطريق ومشقته .. ولكن انتابني شعور غريب تملكني في تلك اللحظة .. لا بد من الصعود ... وبداع من الحماس والنشاط صعدت ذلك الجبل ولكن عندما صعدت قليلاً أحسست بالتعب نوعاً ما فجلست لكي أنال قسطاً من الراحة أسترد فيها أنفاسي ، ولكن هل ستطول الاستراحة ؟ لا .. لابد من الصعود فالوقت يداهمني ، فصعدت بقليل من الحماس وقليل من الإصرار ثم صعدت وصعدت ، حينها بدأت ذاكرتي تستعرض الكثير من الذكريات والمواقف وبدأ شريط الحياة يدور بمخيلتي فتذكرت الصقور البيضاء على تلك الجبال الشاهقة " جبال الشيشان الأبية " حلمت بأنني منهم وأني على جبل من تلك الجبال تذكرتهم ، ومن قبلهم على " جبال البايانيك " وغيرها في البوسنة ، والذئاب الضارية التي لم يهنأ لها العيش إلا فوق قممها ، وتذكرت " جبال الهندكوش " وغيرها من الجبال الصامدة في أفغانستان التي كانت تعيش فيها الأسود الكاسرة التي طالما زأرت غيرة على هذا الدين ..
في خضم هذه الأفكار نظرت إلى القمة نظرة مفعمة بالشوق والتعب وتساءلت : ترى هل هي طيبة المقام إلى هذا الحد ؟ وأدركت الجواب عندما رأيت شموخها وهو يلوح في الأفق وكأن لسان حالها يقول : " هي العزة لا تأتي إلا فوق القمم " . صعدت بدافع من الحماس ونظرات التعب والأسى تستبعد القمة ولكن لابد من الوصول إليها ، في هذه الأثناء حلمت بأنني أحمل أمتي معي كما يفعل أولئك الأبطال .. للأسف كان مجرد حلم ولكنه جميل .. جميل جداً .. صعدت وصعدت وقد أدركني التعب .. وبنظرة مفعمة بالأمل أحسست بالارتياح وأنا أرى القمة وقد بسطت لي ذراعيها .. صرخت بكل ما أملك من الصوت ولأول مرة في حياتي .. بسعادة غامرة وفرحة كبيرة .. كبيرة جداً ، سيطرت على جميع مشاعري ، وقفت أنظر إلى جميع الجهات " ما أروع القمة " . أحسست بأني أملك كل ما حولي ..
عندها تساءلت بأسى : ترى متى أرى أمتي فوق القمة ، وأراها تملك الدنيا بأسرها كما كانت من قبل ؟ حلمت بأن الجبل بصمته الرهيب يجاوبني : بأنها لن تيلغ القمة إلا على أكتاف الأبطال الذين ينذرون أنفسهم للأمة ودينها القويم وليس للشهوات .. سألته والحزن واليأس يملؤني : ولكن أين هم ؟ .. عجباً أنظري إليهم ، ألا ترينهم ؟ إنهم كالتيجان المكللة بالدرر والجوهر متوجة على رؤوس الجبال ... " جبال الشيشان الأبية " يشع نورهم في أرجاء الكون ، ألا تري بريق وجوههم المضيئة ؟ ألا ترينهم عشقوا القمم وفضلوا العيش عليها بكرامة وقد كرهوا عيش الذل بين ظهورنا ؟ أرئيتيهم ؟ نعم ، جاوبته وأنا أحلم بمستقبل مُضيء كوجوههم .. إني أراهم ، وهل يشغل تفكيري وغيري إلا هم ؟ بل أراهم والعالم بأسره يراهم ونرى فيهم مستقبل أمتي الضائعة ، إنهم الأمل الذي أنتظره وينتظره الكثير من حولي ...
مع إدراك الوقت وأنا ألملم أشلاء حزني المتناثر فوق قمة الجبل وقد هممت بالنزول ، ودعت ذلك الجبل وقد كرهت النزول من فوق القمة .. ودعت الجبل الذي أحسست أنه نطق من هذا الجرح الدامي وهو الصامت الرهيب ، ولم ينطق الناطقون الذين خلقهم الله لذلك .
عندما وصلت إلى النهاية لم أستطع أن أنظر إليه ، لأنني أحسست بالصغر وأنا تحته حيث تعيش أمتي اليوم ، ولم أستطع أن أرفع طرفي لكي أرى القمة .. ابتعدت قليلاً عنه إلى تلك الحياة الصغيرة التي لا أعلم متى ستنتهي ... ولكن هذا حلمي وماذا عساي أن أفعل غير ذلك ؟ ولكن ماذا سيفعل الذين خلقوا لذلك ؟ هل راقت لهم هذه الحياة ؟
المصدر : مجلة شباب العدد (35)