بياض الوجوه وسوادها
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: “يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين. ولله ما في السماوات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور” (الآيات: 106-109).
تتحدث بعض آيات القرآن الكريم عن أهوال يوم القيامة وما ينتظر المؤمنين فيه من نعيم وافر وينتظر الجاحدين المعاندين من عذاب مقيم بسبب كفرهم وجحودهم للحق. ومن هذه الآيات قوله سبحانه “يوم تبيض وجوه وتسود وجوه”.
وبياض الوجوه وسوادها في هذا المشهد الرهيب محمولان كما قال جمهور المفسرين على الحقيقة، وذلك لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يوجب ترك هذه الحقيقة فوجب الحمل على ذلك.
ويرى بعض العلماء أن بياض الوجوه هنا المراد منه الفرح والسرور، كما أن سوادها المراد منه الحزن والغم وعليه يكون التعبير القرآني محملا على المجاز لا على الحقيقة.
تهويل وتشويق
وفي وصف هذا اليوم بأنه تبيض فيه وجوه وتسود فيه وجوه تهويل لأمره، وتعظيم لشأنه وتشويق لما يرد بعد ذلك من تفصيل أصحاب الوجوه المبيضة وأصحاب الوجوه المسودة، وترغيب للمؤمنين في الإكثار من التزود بالعمل الصالح وترهيب للكافرين من التمادي في كفرهم وضلالهم.
والتنكير في قوله “وجوه” للتكثير.. أي تبيض وجوه عدد كثير من المؤمنين وتسود وجوه كثيرة للكافرين.
ثم بيّن سبحانه حال الذين اسودت وجوههم وسوء عاقبتهم فقال: “فأما الذين اسودت وجوههم” بسبب كفرهم وأعمالهم القبيحة فيقال لهم “أكفرتم بعد إيمانكم” والاستفهام هنا للتوبيخ والتعجب من حالهم.
ومعنى قوله عز وجل “فذوقوا العذاب بما كنت تكفرون” ادخلوا جهنم وذوقوا مرارة العذاب وآلامه بسبب استمراركم على الكفر وموتكم عليه.
والأمر في قوله “فذوقوا” للإهانة والإذلال.. أي فذوقوا العذاب المعهود الموصوف بالعظم، والذي سبق أن حذركم الله تعالى منه، ولكنكم لم تعيروا التحذير انتباها، بل تماديتم في كفركم وضلالكم حتى أدرككم الموت وأنتم على هذه الحال الشنيعة.
وعن حال الذين ابيضت وجوههم وحسن عاقبتهم قال سبحانه: “وأما الذين ابيضت وجوههم” ببركة إيمانهم وعملهم الصالح “ففي رحمة الله” أي في جنته.. وفي التعبير عن الجنة بالرحمة إشعار بأن داخلها إنما هو بمحض فضل الله تعالى، فهو سبحانه المالك لكل شيء والخالق لكل شيء.
وقوله “هم فيها خالدون” بيان لما خصهم الله تعالى من خلود في هذا النعيم الذي لا يحد بحد، ولا يرسم برسم، ولا تبلغ العقول مداه.. أي هم في الرحمة باقون دائمون فقد أعطاهم الله تعالى عطاء غير محدود.
آيات الله
وبعد أن أفاض الله سبحانه في الحديث عن أحوال السعداء وأحوال الأشقياء وعن رذائل الكافرين من أهل الكتاب وغيرهم ممن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا.. وبعد أن ساق سبحانه من التوجيهات الحكيمة والإرشادات النافعة ما يشفي الصدور ويهدي النفوس.. بعد كل ذلك خاطب سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: “تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق، وما الله يريد ظلما للعالمين”.
والمراد بالآيات ما سبق ذكره في هذه السورة وغيرها من آيات قرآنية تهدي إلى الرشد وتشهد بوحدانية الله تعالى وبصدق رسوله صلى الله عليه وسلم فيما يبلغه عنه.
ثم بيّن سبحانه بعد ذلك أنه هو المالك لكل شيء وأنه هو وحده الذي تصير إليه الأمور فقال: “ولله ما في السماوات وما في الأرض” أي له سبحانه وحده ما فيهما من المخلوقات ملكا وخلقا وتدبيرا وتصرفا وإحياء وإماتة وإنابة وتعذيبا.
“وإلى الله ترجع الأمور” أي: إلى حكمه وقضائه تعود أمور الناس وشؤونهم فيجازي الذين أساؤوا بما عملوا ويجازي الذين أحسنوا بالحسنى، لأنه سبحانه منه المبدأ وإليه المآب فيجازي كل إنسان على حسب اعتقاده وعمله بدون ظلم أو محاباة.