أيام في إمارة الأفغان العرب في جبال أفغانستان .. وقصة اللقاء مع أخطر رجل في العالم
في شهر تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1996، اتيحت لي الفرصة لاجراء لقاء مع الشيخ اسامة بن لادن في افغانستان. ترددت في البداية في قبول العرض لأن افغانستان في ذلك الوقت كانت تشهد حرباً اهلية طاحنة. ولكني عدت وقبلت وجري ابلاغي ان الرحلة ستكون عن طريق نيودلهي، ومنها الي جلال اباد. وبعد ان اجريت الترتيبات اللازمة جاء من يبلغني بأن الموقف خطير، وطالبان تزحف نحو جلال اباد واحوال الاخوان في افغانستان ليست علي ما يرام ولا بد من التأجيل.
لم اغضب كثيراً او احزن، فالشيخ اسامة بن لادن لم يكن علي شهرته الحالية، رغم انه كان متهما بترتيب هجوم علي قاعدة امريكية في الخبر بالمملكة العربية السعودية عن طريق شاحنة ملغومة، اسفر عن مقتل 19 جنديا امريكيا.
بعد اسبوعين جاء شخص من طرف بن لادن ليبلغني ان خط الرحلة سيكون عبر بيشاور هذه المرة.
ما شجعني علي قبول العرض ان الصحافي البريطاني الجريء روبرت فيسك سبقني الي لقاء الشيخ اسامة بن لادن، الأمر الذي اصابني بالارتياح والطمأنينة، وشكل لي حصانة امام بعض الجهات العربية وغير العربية.
اليوم نعيد نشر الحديث، مثلما نعيد نشر تجربة السفر الي افغانستان، ولكن مع ادخال اضافات عديدة، لم تنشر في المرة الأولي، بعضها طريف، وبعضها الآخر ينطوي علي معلومات جديدة. والهدف من اعادة النشر هو اطلاع القارئ علي حقيقة هذه الظاهرة، ظاهرة الافغان العرب، وكيف يفكر ابرز اقطابها الشيخ بن لادن. وما هي حقيقة مواقفه تجاه البلاد العربية، والولايات المتحدة الامريكية. فعندما نشرنا هذا الحديث في المرة الاولي لم تكن القدس العربي علي هذه الدرجة من الانتشار، كما ان الشيخ بن لادن لم يكن ايضاً علي هذه الدرجة من الشهرة، بحيث تحشد الولايات المتحدة سبع حاملات طائرات وآلاف الطائرات والقاذفات وتكون تحالفاً من دول صغري وعظمي لمواجهته.
كانت البداية في لندن، شخص ملتح يهمس في اذني بان الظرف بات مهيئا للسفر الي افغانستان ولقاء الشيخ اسامة بن لادن زعيم العرب الافغان، واكثر شخص يخشاه الامريكيون.
الامر يحتاج الي تفكير عميق، فافغانستان ليست آمنة، وحركة الطالبان نشطة، والبلاد في حالة من الفوضي المطلقة، ثم انني لست في بداية حياتي الصحافية، ابحث عن مجد مهني، او ترقية من رئيس التحرير، وزيادة في المرتب بالتالي.
ولانني اري الحياة، وليست الصحافة فقط، مغامرة كبيرة، ولايماني بان الصحافي العربي ليس اقل من نظيره الاجنبي في الذهاب الي خطوط القتال الاولي، وتغطية الاحداث من مواقع الخطر، وفوق هذا وذاك لانني لا اؤمن بنظرية مليون جبان ولا الله يرحمو التي يؤمن بها الكثيرون في هذه المهنة، كان قراري بالموافقة دون تردد.
خطة الرحلة كانت في الذهاب الي بيشاور، وهناك سيأتي من يأخذني الي افغانستان للقاء الرجل وانصاره، وصلت بيشاور عن طريق دبي وكراتشي في ساعة متأخرة من ليل الثلاثاء 19 تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، واتخذت كل اجراءات السرية المطلقة، وكانت مفاجأتي عظيمة عندما انقض علي احدهم محتضنا مقبلا امام مكتب الاستقبال في الفندق الذي قصدت الاقامة فيه. لقد كان صديقا قديما، جاء في اطار وفد سعودي لتقصي الحقائق في افغانستان، وعاد لتوه الي بيشاور في طريقه الي المملكة. وعندما سألني عن سبب وجودي في هذا المكان الغريب، قلت انه السبب نفسه الذي اتي من اجله والوفد، اي تقصي الحقائق، ولكنه تمني علي لو ارسلت زميلا آخر البلاد خطرة والامن فالت .
بعد ساعتين من الاقامة في غرفتي في الفندق، اتصل بي شخص قال ان اسمه فيصل وهو الذي سيرتب لي الرحلة الي افغانستان، وعلي ان اكون جاهزا في العاشرة صباحا، وسيشرح لي كل شيء وجها لوجه، فالهاتف غير آمن.
عبور الحدود حتي جلال اباد
في العاشرة صباحا، كان فيصل يطرق باب غرفتي في الفندق، شاب متوسط القامة، يرتدي ملابس باكستانية، اسمر البشرة، متحفظ في الحديث، غير حليق الذقن، وفهمت من خلال الكلمات القليلة التي نطق بها انه من جدة، او لعله من مكة المكرمة، وربما اكون مخطئا.
فيصل احضر لي زيا افغانيا، عبارة عن بنطال فضفاض (سروال) وقميص طويل (ثلاثة ارباع جلباب)، وعمامة، وطلب مني ان ارتديها جميعا، واترك كل شيء في الفندق، وقال ان اثنين من الطالبان سيرافقانني لتهريبي عبر الحدود حتي جلال اباد، وهناك تنتهي مهمتهما، وتبدأ مهمة اخرين، وطمأنني بعد ان لاحظ مظهري الجديد، ان قوات الامن الباكستانية التي تمنع العرب من الذهاب الي افغانستان وتعتقلهم، لن تتعرف علي، فشكلي يوحي كما لو كنت احد زعماء قبائل البشتون.
انطلقت من الفندق بالزي الجديد، وفي صحبة الطالبانيين الي محطة الحافلات في بيشاور، وهناك تركنا فيصل، بعد ان اطمأن الي دقة الترتيبات، انحشرنا في حافلة تويوتا صغيرة (بيك آب) مع 15 مسافرا اخرين، وكان منظري غريبا بالنسبة الي علي الاقل، وان كان متجانسا مع الاخرين، والاستثناء الوحيد ان ملابسي كانت جديدة، وعمتي كذلك، واذا كنت قد لفت نظر جميع ركاب الحافلة، ومعاون سائقها الذي نظر الي بتشكك، فلذلك السبب وحده.
السائق كان شابا، ويسابق الريح في سيارته القديمة المتهالكة، ويتلوي بين المطبات بطريقة بهلوانية في طريق جبلي مرعب، باكستان في حالة طواريء، والاجراءات الامنية في ذروتها، ولكن رغم الحواجز الكثيرة التي اوقفتنا الا اننا مررنا بسلام حتي نقطة الحدود.
مرافقاي من حركة الطالبان (اي طلبة العلم) شابان في العشرين من عمرهما او اقل قليلا، متواضعان، لا يعرفان العربية، ولا اي لغة اخري، وانا بالطبع لا اعرف الافغانية، وكانت اللغة المشتركة بيننا هي الصمت، مع ابتسامات الارتياح في كل مرة نجتاز فيها حاجزا للجيش الباكستاني. وقد لاحظت انهما لم يكتما ضحكتهما كلما نظرا الي هيئتي الجديدة، وعمتي، وربما اعتقدا انني احد مهربي الهيروين، او تاجر سلاح، او انسان علي باب الله يريد الجهاد في بلد يبدو ان الجهاد فيه لن يتوقف ابدا.
نقطة الحدود كانت عبارة عن ممر وسط جبلين بعرض عشرة امتار علي الاكثر، يقف عليها جنود ورجال مباحث من باكستان، يتأملون المارين بتفحص، ولكنهم لا يوقفون الا من معه كيس او اشياء لافتة للنظر. ولانني لا احمل الا مخلاة من القماش الرديء، لا تضم الا كاميرا وجهاز تسجيل صغيرا، وبضع اوراق، وبطاريات صغيرة، فقد مررنا بهدوء دون ان يوقفنا احد، او لعل الطالبيين، اللذين يرتبطان بعلاقة جيدة مع باكستان، وجيشها علي وجه التحديد قد كانا اقوي من جواز سفر دبلوماسي بالنسبة الي.
بعد نقطة الحدود الباكستانية مشينا سيرا علي الاقدام لحوالي نصف كيلومتر، بعدها لاحت نقطة الحدود الافغانية، عبارة عن علم ابيض متسخ، او لعله قطعة من ثوب بال، علق علي عصا عادية بالكاد تُري، يجلس الي جانبها شبح رجل ملتح معمم، لم يسأل احدا وكأن الامر لا يعنيه.
وصلنا الي سوق صغيرة، اشار مرافقاي الي فمهما باشارة عرفت منها انهما يريدان تناول الغداء، فالساعة الثانية والنصف ظهرا، فاوميت بالموافقة، اتجهنا الي مطعم، علي قارعة الطريق، المقاعد خشبية اتت من الجبال مباشرة دون تهذيب، الطاولات من الزنك او الحديد الصديء. الطعام كان عبارة عن مرق فيه قطعة من لحم يعلم الله هويته، ونصف حبة بطاطس، في صحن معدني، وبضعة ارغفة من الخبز، واناء فيه ماء وثلاثة اكواب معدنية.
كانت وجبة شهية بكل المقاييس، حيث انساني الجوع كل توصيات الطبيب حول تجنب الكوليسترول، فالدهون كانت عائمة بطريقة لافتة للنظر، وعلي اي حال فنحن لسنا في مطعم خمسة نجوم مثل تلك التي تعودنا عليها، نحن معشر الصحافيين، في العواصم الغربية المترفة.
تجشأ صاحباي، وحمدا الله كثيرا علي هذه النعمة، وذهبنا بعد ذلك الي مسجد مجاور، للصلاة، وكان من الصعب علي فهم اللغة التي يتحدث بها الإمام، وان كنت تعرفت علي بعض الآيات القرآنية التي تلاها.
توجهنا الي محطة الحافلات الافغانية، ونجح مرافقاي، باعتبارهما في بلدهما، وينتميان الي الحزب الحاكم، في اجلاسي في المقعد الامامي الي جانب السائق وراكب آخر، اي في الدرجة الاولي، بينما جلسا في الدرجة السياحية تأدبا وتواضعا او هكذا اعتقدت.
الرحلة من الحدود الباكستانية الي جلال اباد تستغرق اربع ساعات او اكثر او اقل، الامر يعتمد علي همة السائق، ونوع سيارته وتعاون الركاب، سيارتنا كانت من النوع القديم الذي عاصر الجهاد الافغاني الاول، وربما شارك فيه بطريقة او بأخري.
ولذلك نزلنا منها ثلاث مرات، في الاولي والثانية لانفجار عجلات، والثالثة لاخراجها من وحل غرقت فيه، واستعصي علي محركها الخروج منه بقوته الذاتية، ولذلك كان لا بد من اللجوء الي مناكب الركاب وعضلاتهم ـ لاعطائه قوة اضافية.
السير في باكستان هو علي اليسار، تماما مثل بريطانيا، فالباكستان ربما هي الوحيدة الي جانب مالطا وقبرص علي ما اعتقد، اللتين ما زالتا متمسكتين بهذا الاثر الاستعماري البريطاني، رغم استقلالهما. اما في افغانستان فهوية المرور مجهولة، وتعتمد علي مزاج السائق والمطبات في الطريق، فالسيارة تتلوي مثل ثعبان هرم، فتارة هي علي اليسار، واخري علي اليمين، والطريق مليء بالمطبات الناجمة عن القذائف، او جنازير الدبابات، او السيول وعوامل التعرية الاخري، او كلها مجتمعة.
افغانستان في ظل طالبان
وصلنا الي جلال اباد بآلام شديدة في الرقبة والظهر وبسلامة الله فوق ذلك، مرافقاي اخذاني الي الجهة المحددة، وهي منزل أحد قادة المجاهدين الأفغان في منطقة جلال اباد، حيث سلما الامانة، وانصرفا ولم ارهما بعد ذلك، بينما جري توجيهي الي احد فنادق المدينة، ويحمل اسم الجبل الابيض دائما، يذكر بحياء بماض مستقر لافغانستان.. وآثار عز ولي، الفندق فسيح محاط بحدائق مليئة باشجار البرتقال بكل انواعه، وبساتين ورد، ولكنه خال من النزلاء تقريبا، ولم ار فيه الا صحافيين تلفزيونيين، احدهما من القناة الرابعة البريطانية والآخر من الـ بي.بي.سي وكانا رفيقي في وجبة العشاء المقررة، اي مرق لحم او دجاج، مع ارز هذه المرة وارغفة خبز.
صاحب الفندق رجل طريف من كابول، هاجر الي جلال اباد هربا من القذائف واشتري النزل او استولي عليه والله اعلم، اعتقد انني افغاني بشتوني بسبب ملابسي، وعندما حدثني ورددت عليه بالانكليزية، ازداد تشككا وفضولا، وازدادت اسئلته عن مقصدي، فتحايلت عليه بالقول انني من اب بشتوني وام انكليزية، وعندما سألني عن سبب جهلي بلغة الباشتون، اسعفني الله بالقول ان والدي توفي وانا صغير، وتولت والدتي تربيتي، وهي لا تتحدث غير الانكليزية.
الاعذار هذه كانت ضرورية لاخفاء مقصدي، وتجنب اسئلة صاحب الفندق المزعجة، وكانت فرحتي كبيرة عندما كف عن الاسئلة وبدأ تحليل الوضع في افغانستان، وقد بدا لي انه من مؤيدي نجيب الله، فقد اشاد به وبمواصفاته القيادية، ولكنه اشاد بالطالبان ايضا، بمناسبة ودون مناسبة، طلبا للامان ربما، وتجنبا للمشاكل. وقد اعترف ان المدينة لم تعرف الامن الا في عهدهم، حيث كانت نهبا لقطاع الطرق واللصوص والميليشيات المتعددة التي فرضت خوات علي الجميع، ووصل ببعضها الامر الي اغتصاب السيدات وهي جريمة، او بالأحري ام الجرائم في افغانستان.
الكهرباء في النزل انقطعت بعد العشاء مباشرة واستعنا في اكتشاف طريقنا الي غرفتنا، وهي متواضعة الاثاث بكل المقاييس، بأضواء الشموع، وعندما سألت صاحب الفندق عن عودتها (اي الكهرباء) قال انها قد تعود بعد سبع دقائق او سبعة ايام، الله وحده، ثم الطالبان، اعلم. وفعلا غادرت الفندق في عصر اليوم التالي والكهرباء ما زالت مقطوعة ولعلها كذلك حتي الان.
الليلة الاولي في الفندق كانت نوعاً من العذاب، فقد استعصي علي النوم، والسبب كثرة الحشرات التي تشاطرني الفراش، وبعضها من النوع الفتاك، المزود بأجهزة دمار شامل بيولوجية، مثل البق، اما عن البراغيث فلا تسأل. والحسنة الوحيدة من تجربة النوم في هذا الفندق انني تعرفت مجددا، وبعد طول انقطاع، علي هذا النوع من الحشرات والقوارض، فجاءت عملية التعارف هذه مؤلمة جدا، وظهرت آثارها واضحة علي ساقي وبعض اجزاء جسمي الأخري.
صباح الجمعة جاء سفير بن لادن في جلال اباد الي الفندق صباحا واعتذر لي بان الشيخ لن يتمكن من مقابلتي هذا اليوم، وعلي الانتظار، فابلغته انني علي عجلة من امري، ولدي ارتباطات مسبقة في لندن تحتم وجودي الاثنين، فتفهم الامر، ووعد خيرا.
كان هذا السفير هو ابو حفص او أحد العقول العسكرية الجبارة المحيطة بالشيخ اسامة بن لادن، نحيل الجسم، اسمر البشرة، طويل القامة، معمم، ويمتلئ حيوية وشبابا، وللحق كان في قمة التهذيب. ولم يحدثني ابدا عن نفسه او دوره، ولم اكتشف مكانته الا بعد مغادرتي افغانستان.
واعترف انني احترمت فيه صدقه وتواضعه وايمانه العميق بالقضايا التي يؤمن بها. ولا بد انه احس بهذا الاحترام من جانبه. وآخر مرة تحدثت معه، بعد ذلك، كانت بعد القصف الامريكي لافغانستان، حيث هاتفني ليبلغني بيانا، انفردنا به في حينه، يؤكد لي نجاة الشيخ اسامة بن لادن، واستشهاد خمسة من المجاهدين العرب، ويتوعد علي لسان الشيخ بن لادن بالانتقام من الرئيس كلينتون وتلقينه درساً لن ينساه. في الساعة الثالثة بعد الظهر، جاءت سيارة حمراء الي الفندق، وبها شخص جديد، وسائق ومسلحان، قالا لي اننا سننطلق الي الشيخ، وحذراني من ان الطريق شاقة ومتعبة، علاوة علي كونها خطرة، فحمدت الله علي هذا الامتحان، وتعوذت من الشيطان الرجيم، وسلمت امري الي الخالق.
الطريق الي امارة بن لادن كانت شاقة فعلا، غير معبدة، نصفها يمر وسط قري جبلية ووديان، ونصفها الثاني حلزوني صخري مرعب بكل ما تعنيه هذه الكلمة، ومن سوء حظي اننا سرنا اليه بعد حلول الظلام، فكنا نسير الي المجهول، مع سائق يستعجل الموت، ويقود السيارة كما لو انه علي احدي طرقات المانيا السريعة الفسيحة، ولا يفوته، من حين الي آخر، استعراض مهاراته بطريقة بهلوانية، اتت علي ما تبقي من سواد في شعر رأسي. وحمدت الله انني وفقت في انجاب ما اتفقنا علي انجابه بقدرة الخالق من الاطفال والا لانقطع نسلي الي الابد.
في منتصف الطريق، توقفنا امام صخرة حالت دون استمرارنا، وقال السائق بثقة مطلقة، انها سقطت لتوها من قمة الجبل، وهنا سقط قلبي، وسألت عما اذا كان هذا مألوفا، اجاب السائق بثقة اكبر بالايجاب، واكد ان علينا ان نتوقع صخوراً اخري متساقطة، فنحن في موسم الشتاء، والتربة رخوة. وروي لنا كيف ان صديقه ابو عبيدة انتقل الي خالقه قبل بضعة اشهر علي الطريق نفسها، وبسبب سقوط صخرة علي سيارته. بلعت ريقي وقرأت الفاتحة.
بعد حوالي سبع ساعات من المعاناة، ومصارعة الصخور، والمنحنيات الجبلية الخطرة، بدأت اجهزة الاتصال تخرج عن صمتها، فقد اعطي مرافقي اشارة عن قرب وصولنا، وهنا استقبلتنا سيارة مدججة بالمسلحين، وراجمات ار بي جي ومدفعية تزين ظهرها، ولم اشعر بالاطمئنان، رغم ان الهدف كان طمأنتنا، والله اعلم.
عش النسور قاعدة بن لادن
وصلنا الي عش النسور او قاعدة الافغان العرب علي ارتفاع ثلاثة آلاف متر تقريباً، كهوف محفورة في سفوح الجبل وسط الثلوج، مجموعات حراسة مسلحة تتحرك هنا وهناك دون ان اعرف ملامحها، رياح باردة جدا لفحت وجهي بمجرد النزول من السيارة، وكادت ان تقذف بعمامتي الي سفح الجبل، فهرعت الي المدخل حيث ينبعث نور خافت، وهناك كان احدهم في استقبالي وقادني مباشرة الي كهف آخر يتصدره الشيخ بن لادن الذي عرفته من صوره التي نشرت مؤخرا.
وقد فاتني ان اذكر انه قبل الوصول الي قاعدة بن لادن، ان حاجزا لحركة الطالبان كان يتحكم بالطريق المتوجهة اليها، وكانت هناك مجموعة من المسلحين، لم يهتموا بأمرنا، ولم يسألونا عن هويتنا، وسرنا في طريقنا وعيون الرب ترعانا.
للحق، واعترف هنا للمرة الثانية، بأنه لم تجر اي عملية تفتيش لي، او للمخلاة التي احملها، وهو اجراء توقعته، خاصة ان الرجل تطارده كل مخابرات الدنيا، وخاصة المخابرات المركزية الامريكية التي كتبت قصائد المدح، وجري تأليف العديد من الكتب والافلام حول عظمتها.
الكهف عبارة عن حجرة طولها حوالي ستة امتار وعرضها اربعة، تتصدره مكتبة مليئة بكتب التراث والتفسير، مثل تفسير الجلالين، وفتاوي ابن تيمية، والسيرة النبوية لابن هشام، وغيرها. وبعد ذلك خمسة اسرة من الخشب الصلب هي اقرب الي منصات بيع الخضار في الاسواق الشعبية الفقيرة. اما جدرانها فقد زينتها بنادق كلاشنكوف المعلقة هنا وهناك.
الشيخ بن لادن استقبلني باسما، وتحولت ابتسامته الي ضحكة مكتومة وهو يري هيئتي، انا القادم من لندن، بسروالي وعمامتي، وقميصي الفضفاض، كان الي جانبه صحافي عربي متقدم في السن، جاء الي افغانستان مبعوثاً من صحيفة خليجية لتغطية انباء المجاهدين الافغان، وهو من اسرة مصرية معروفة بتراثها ومكانتها في المجتمع، اعتزل الصحافة وانضم الي المجاهدين، ويقيم في جبال افغانستان منذ عشرين عاما علي الاقل، ولا يريد غيرها بديلا، وفي ركن آخر من الغرفة شخص ثالث مثقف يشارك في الحديث من حين الي آخر، ورابع كان يقرأ في احد الكتب، لعله تفسير ابن كثير.
الرجل طويل القامة، اي الشيخ اسامة بن لادن، نحيل البنية دون ضعف، اطلق العنان للحيته، يرتدي الملابس الافغانية، ويضع شماخا احمر علي رأسه، ويتقي البرد بجاكيت مرقط من ذلك النوع الذي ترتديه الفرق الخاصة (كوماندو) متواضع الي ابعد الحدود، لطيف المعشر، صوته خافت، ولكنه مسموع، باسم طوال الوقت، ابتسامته توحي بالطمأنينة، وتختصر المسافات بينه وبين ضيفه. خاصة اذا كان يقابله للمرة الاول، كما هو الحال معي.
تجاذبنا اطراف الحديث، واشتكيت له ما عانيته في الطريق، وما حل بي من آلام ظهر ورقبة ومغص في المعدة، فضحك، وقال لي انه هون علي الامر بان قرر مقابلتي في منتصف الطريق، فقد كان في قاعدة اخري ابعد واعلي، فشكرت له هذه المبادرة مضطرا.
في منتصف الحديث، سمعت صراخا وجلبة واطلاق نار وقصفاً مدفعياً وصاروخياً. وشاهدت مضيفي يهرع بسرعة خارج الغرفة، ويتركني وحدي، فقلت في نفسي انها النهاية، وقرأت آية الكرسي، فقد اعتقدت ان هجوما وقع، فالرجل مطلوب رأسه من اكثر من دولة عظمي، امريكا وروسيا من بينها، وعدة قوي غير عظمي، ولن تكون، معظمها عربية.. بعد برهة عاد الرجل، واعتذر لي بأنه ليس هناك ما يزعج، مجرد استنفار يحدث من حين لآخر، تحسبا للطوارئ، وابقاء حالة الاستعداد في اقصي درجاتها، ارتحت قليلا، ولكنني لم اطمئن، ولعنت حظي، وما جلبته الي نفسي.
عشاء متواضع
بعد اكتمال الحديث، قالوا ان العشاء جاهز، توقعت ان يكون غزالا بريا مشويا، او جديا من ذلك النوع الجبلي خالي الدهن، وتواضعت في احلامي الي درجة مجموعة من الطيور، وحتي الدجاج البلدي، وكانت مفاجأتي عظيمة، عندما كان العشاء عبارة عن بطاطس مقلية علي الطريقة العربية وعائمة في زيت بذرة القطن، وصحن من البيض بالكاد يكفي شخصا منهم، وجبن مالح اعتقد ان تناوله انقرض حتي في قري صعيد مصر، ومجموعة من الارغفة اعتقد انها عجنت بالرمل، لان مضغها كان يحدث صريرا بين الاضراس لا يشجع علي تكرار التجربة.
تناولت بضع لقيمات، وادعيت انني لا اتعشي عادة لاسباب صحية، قبلوا عذري، وواصلوا الاكل، بينما سرحت في تفكيري، وتساءلت، عما دفع هذا الرجل، ابن الاكرمين، الذي ينتمي الي اسرة ثرية معروفة تملك المليارات، لكي يعيش هذه الحياة الخشنة، وسط هذه الجبال الخطرة المقفرة، يواجه كل هذه المخاطر، ينتظره الموت في كل منعطف، وتتصيده جهات عديدة.
بعد انتصاف الليل، وبعد حديث شيق غير مسجل عن اشياء كثيرة ليست للنشر، عن مصر والسودان واليمن وافغانستان والجزائر وغيرها، قالوا حان موعد النوم، واشاروا الي احد الاسرة، وقالوا انه لك، وتدبر امرك، اما الشيخ فينام علي سرير آخر مشابه.
سريري كان جافا غليظا بكل المقاييس، ولا اعتقد ان حاله تغير منذ عشرين عاما. فالبطانيات علي حالها، والمرتبة (الفرشة) باتت عديمة الملامح والالوان من كثرة الاستعمال، وقلة التنظيف، والشيء نفسه يقال عن الوسادة. التدفئة بدائية، عبارة عن خزان مياه تحته كانون للحطب، وماسورة ترتفع الي السقف، ويبدو ان هذه الطريقة البدائية في التدفئة، المطبقة في معظم افغانستان، كما سمعت، هي اكثر فعالية من كل اجهزة التدفئة الحديثة في اوروبا.
اعترف انني لم استطع النوم تلك الليلة، فتحت السرير صناديق قنابل، وعلي الجدران، والارض بنادق، وصرير الرياح في الخارج مثل صفارات الانذار، وديك احول بدأ صياحه في الواحدة صباحا وبصوت جهوري لم اسمع مثله، وما زاد الطين بلة ان سيارات القاعدة تطلق العنان لمحركاتها بالتناوب، وعندما سألت عن السبب في الصباح قالوا انها مسألة ضرورية حتي لا يتجمد الديزل في المحركات وتتبخر الكهرباء.
سحر الطبيعة البكر
في الساعة الرابعة صباحا دبت الحركة في القاعدة، وانطلق صوت الاذان لصلاة الفجر، يا الله ما اجمله وصداه يتردد في الجبال الشاهقة في ارض افغانستان، تصورت انني في معسكر لجنود ابو مسلم الخراساني يستعد مجاهدوه للتصدي للكفار في معركة فاصلة. كل الاسماء حولي توحي بذلك هذا هو ابو عبيدة، وذاك ابو معاذ، وثالث ابو صهيب، ورابع ابو ذر، وخامس ابو الوليد، لم انم، كما قلت، حتي اصحو، ولكن المشكلة في الوضوء، والجماعة مطاوعة، وصلاة الصبح يجب ان تكون حاضرا لا قضاء فيها، والوضوء بعد النوم واجب.. قمنا بتثاقل، زودونا الاخوان ببعض الماء الفاتر من اجل الوضوء سألت اين التواليت.. قالوا ضاحكين.. تواليت، اين تفكر نفسك في شيراتون، واشاروا الي منطقة خلاء. وقالوا هناك يمكن قضاء الحاجة والوضوء.. درجة الحرارة كانت في حدود عشرين درجة مئوية تحت الصفر علي الاكثر، ولكن للضرورة احكاما. وكل ما اذكره ان اطرافي السفلي من الوسط حتي القدم تجمدت تماما، ولا اعرف ما اذا كان وضوئي شرعيا ام لا، وكل ما اعرفه انني اجتهدت والله اعلم.
المدافع والدبابات والطبيعة
مع تسلل الضوء رويدا رويدا بدأت تتضح ملامح الامارة القاعدة، وبدأ منظر الجبال يطل علي شخص مثلي قاطع الطبيعة البكر منذ ثلاثين عاما علي الاقل. انه جمال من شكل خاص، اشجار الصنوبر تعانق بطن الجبل، والثلوج تغطيه من كل جانب، وهواء نقي يملأ الرئتين، وشمس تبزغ علي مهل واستحياء في الافق البعيد، يسبقها شفقها بألوانه القرمزية والحمراء، كأنه هودج عرس لاجمل فتيات القبيلة.
القاعدة تتمتع بحراسة جيدة، هكذا اعتقد، فهناك مدفعية مضادة للطائرات، ودبابات ومجنزرات تتحكم بالطريق، ومكامن للمجاهدين في كل منحني، وراجمات صواريخ، وقيل ان هناك صواريخ من نوع ستينغر لمواجهة اي غارات جوية، ولكنني شخصيا لم أرها ولم اسأل عنها ايثارا للسلامة ودرءا للشبهات.
افطار الصباح لم يكن مختلفا كثيرا عن العشاء اياه، الجبن نفسه، أو ما تبقي منه مع بعض عسل القصب الاسود، وشاي بالحليب، وقد رافقته تلاوة آيات من القرآن الكريم. ولاحظت ان الشيخ بن لادن قليل الأكل، ولا يحتسي اي مشروب غير الماء، بما في ذلك الشاي والقهوة، والله اعلم.
قاعدة عصرية ونخبة متعلمة
نسيت ان اقول ان القاعدة مزودة بمولد كهرباء صغير، واجهزة كمبيوتر، واجهزة استقبال حديثة، وارشيف ضخم من المعلومات محفوظة علي اقراص كمبيوترية، واخري مؤرشفة علي الطريقة القديمة، وهناك قصاصات من كل الصحف العربية والاجنبية، وتصل الي الشيخ خدمة اخبارية صحافية يوميا من لندن والخليج.
المجاهدون المحيطون بالرجل هم خليط من معظم الجنسيات العربية، ومن مختلف الاعمار، لكن اغلبيتهم من الشباب، ويحملون درجات علمية عالية، بعضهم اطباء ومهندسون ومدرسون، هجروا اهلهم ووظائفهم، وانخرطوا في الجهاد الافغاني وغير الافغاني. ودائما هناك جبهة مفتوحة، ودائما هناك متطوعون يبحثون عن الشهادة، ويستعجلون الآخرة، وآخر هذه الجبهات جبهة الشمال، حيث قوات دوستم آخر وزراء دفاع نجيب الله، والذي يعتبره الافغان العرب شيوعيا ملحدا جاز قتاله ومن معه، وهناك اكثر من فتوي شرعية بذلك.
المجاهدون العرب يحترمون قائدهم، ويكنون له كل الحب والتقدير، رغم انه لا يظهر اي حزم او بوادر قيادية، جميعهم، قالوا لي انهم علي استعداد للموت دفاعا عنه، وسيثأرون من اي شخص او جهة تتعرض له. فيصل الذي حدثتكم عنه في البداية، السفير غير المعلن في بيشاور، قال لي انه مستعد ان يتلقي الرصاص بصدره، وفي اي وقت دفاعا عن الرجل وحماية له.
الشباب هم خليط من معظم الجنسيات العربية، ولكن غالبيتهم من الجزيرة العربية ومصر، ونسبة ابناء القصيم ومكة والمدينة وباقي امارات الخليج عالية. وجميعهم يعرفون انفسهم باسماء اسلامية، وخاصة الصحابة والمبشرين بالجنة، وقادة الفتوحات الاسلامية الأولي. شباب مؤمن بربه ودينه، ادار ظهره للدنيا منذ زمن بعيد، ويتطلع الي الدار الباقية، ويستعجل ذلك.
تجولت مع الشيخ اسامة او ابو عبد الله كما يناديه اتباعه ومريدوه في الجبال المجاورة للقاعدة، وكان يمتشق بندقيته من طراز كلاشينكوف، وهي بندقية يعتز بها، وقال لي انها كانت تمت لأحد الجنرالات السوفييت الذين قتلوا في احدي معارك الجهاد الافغاني.
الحديث دار حول الماضي والحاضر والمستقبل، وعن الانظمة العربية الفاسدة، والظلم الامريكي الواقع علي المسلمين. حدثني عن ايامه في السودان والصومال، عن المحاولات التي استهدفت قتله واغتياله، عن الاغراءات المالية الضخمة التي عرضــــــت عليه للتراجع عن دعوته وجهاده، عن الوفود والوسطاء الذين تدفقوا عليه، وربما يأتي يوم ننشر فيه بعض ما يمــــكن نشره في هذا الاطار.
ايامي في امارة الافغان العرب لم تطل، كانت قصيرة للأسف، فالتجربة تستحق دراسة اعمق، لمعرفة كل ابعادها النفسية والسياسية والاجتماعية، ولكن هناك التزامات كثيرة تحول دون ذلك. ودعت الشيخ بن لادن، وودعت زملاءه ومريديه، وعدت ادراجي بالسيارة نفسها، والطريق نفسها، وآلام الظهر والرقبة نفسها، الشيء الوحيد الذي تغير رفقاء الرحلة في نصفها الثاني، فقد اصطحبني الي الحدود شابان جديدان من الطالبان، ولم يكن فيصل في استقبالي، فعلي ان اتدبر امري وهكذا فعلت.
بقي ان اقول انني كتمت سر هذه الرحلة عن أهلي وزوجتي، وكتبت وصيتي فعلاً، وكنت اعتقد انني لن اعود. فالمخاطرة كبيرة، واحتمالات الموت كانت أكبر بكثير من احتمالات الحياة، فالبلاد في حال فوضي، ومن لا يموت بالرصاص او علي ايدي قطاع الطرق، فان احتمالات الموت في حوادث السير تظل واردة.
هل ندمت علي هذه الرحلة.. لا وألف لا. فقد كانت أهم حدث في حياتي المهنية والشخصية، واغني تجربة انسانية عشتها، ولو اتيح لي تكرارها مرة اخري فلن اتردد لحظة، وان كنت اعتقد ان الأيام المقبلة خطرة بكل المقاييس وحافلة بالمفاجآت.
عبدالباري عطوان
....................
......
إيه يا عبد الباري عطوان لو كنت مكانك لما عدت أبداّ
أنا ضد أمريكا و لو أفتى لها *** مفت بجوف الكعبة الغراء
أنا معْ أسامة حيث آل مآله *** ما دام يحمل في الثغور لوائي
أنا معْ أسامة إن أصاب برأيه *** أو شابه خطأ من الأخطاء
أنا معْ أسامة نال نصرا عاجلا *** أو حاز منزلة مع الشهداء