دار الزمان دورته يارمضان، واستنسر البغاث علينا، وتذأبت الأرانب وتعملقت الجرذان، وأصبح الحال غير الحال ، فخنعت أسودنا، وانهدت حصوننا ونكست رماحنا، وأغمدت سيوفنا، وسرحت خيولنا، وأقفرت الديار إلا من جبان أو منافق، أو مضيع متصدر أو أعمى أو غبي أو جاهل متحكم، وهؤلاء الخوالف والعاهات التي تصدرت هي التي تحمل الزهور والرياحين اليوم للغزاة ليشهد لهم المستعمر بأنهم أهل للصدارة، ومحل للثقة، هذا بدل أن تحمل المدفع، وتقود الطائرة دفاعاً عن حماها المستباح وعرضها المنتهك ومقدساتها المغتصبة.
لكنه ومن حسن حظ هذه الأمة أن ظلت فيها بقية من إيمان، وأثارة من عزيمة حفزتها للعمل والتضحية، ونفخت فيها روح الأنفة والكرامة وقذفتها في أتون الحوادث والمعارك، لتحمل الراية حتى لا تسقط، وتقود الركب قبل أن يهوي، رغم قوافل الشهداء والجرحى والمشوهين وواقع الدمار والخراب والثكل واليتم، وكل ذلك نتيجة طبيعية لجذوة الإيمان التي أججت أوارها، وأشعلت فتيلها.
والعجيب أن المتصدرين من بني جلدتنا، والمستعمرين من أعدائنا كانوا يجهلون حيوية هذه الأمة إذا ثارت، وعزمها إذا غضبت وهمتها إذا انتفضت. والعجيب كذلك أن هذه الأمة الطيبة التي كانت تُخدع بالكلمات وترضى بالبسمات والتحيات هي التي تستهين بالصعاب وتتحمل التبعات الآن.
والعجيب أيضاً أن المتصدرين من بني جلدتنا هم الذين يتعهدون للمستعمر والدخيل بالحفاظ على أمنه وقمع كل ثورة ومظاهرة غضبى من أفعاله، وقد أعطوه العهود والمواثيق أن يسيروا معه إلى نهاية الشوط، وهم اليوم ينفذون عهودهم ويقومون بمهماتهم على خير وجه، إذ كيف يتركون شباب هذه الأمة يغضبون المستعمر، ويثيرون حفيظته فتضيع الكراسي، ويذهب الجاه، وتفوت المغانم؟
وشباب الأمة الذين يتصدرون المسيرة اليوم لا يطلبون شططاً، ولا ينادون بالمستحيل، حين يقولون: نريد أن نسير رؤوسنا مرفوعة، وكرامتنا مصانة، وتراثنا محفوظ، وقلوبنا مطمئنة، وأيدينا طاهرة، فرسالتنا خير للبشرية وسعادة للإنسانية، وطب للقلوب وهناء للنفوس.
نريد أن نسير حتى لا يبقى في الأمة ضعيف ولا خوار ولا جبان أو متخاذل.. نريد أن نعيش ولا يظل في البلاد غش ولا كذب ولا إهمال أو استهتار، نريد أن نكون وليس في الدولة اختلاس ولا رشوة ولا هضم للحقوق، نريد أن نسير ولا تكميم للأفواه ولا قتل للإرادات، ولا تبديد للطاقات ولا حماية للفساد ولا وأد للقانون، ولا لعب بالدستور.
نريد أن نعيش في بلادنا أحراراً فلا يعتدي علينا أحد أو يأخذ خيراتنا إنسان. فنحن لا نعتدي على أحد ولا نستحل خيرات إنسان.
نريد أن ننهض من كبوتنا الحضارية والعلمية والثقافية والتكنولوجية.
نريد أن نعيش مسلمين مؤمنين في ديارنا آمنين أعزة صالحين.
نريد أن نكون أقوياء مستعدين لرد كيد المغيرين والطامعين، ولا يجوز أن نكون نهباً للأقوياء والمغيرين ونحن خانعون خائفون.
أليس هذا من حقنا؟ ألسنا شعباً من شعوب الأرض يريد الأمن والعزة والحرية والكرامة، فضلاً عن أننا كنا الأمة الأولى في العالم وعشنا في ظل الإسلام زمناً رغداً؟ إذن فلماذا ينكر علينا الظالمون ذلك، سواء من بني جلدتنا أو من غيرهم؟ إننا أيها الناس يكال لنا بمكيالين، ونعامل بقانونين، ويُتحدث عنا بلسانين.
الأمة اليوم تستباح من أي قوة، وتسام الخسف من كل حقير أمام سمع الدنيا وبصرها، وهذا في عصور وأزمان المؤسسات الدولية التي يقال إنها أنشئت لحماية الشعوب وإقامة العدالة، فإذا بها اليوم مخلب لافتراس الأمم، وناب لازدرادها، وسكين في يد القوي يذبح به من يشاء من ضعاف الشعوب، أو يحرض على ذبحهم وبذر الفتن فيما بينهم وزرع القلاقل على أرضهم.
والحقيقة أن دنيا السباع هذه لا يصلح فيها إلا الأسود، وكما يقال: "تذأب وإلا أكلتك الذئاب"، والإسلام لا يحب المسكنة والذلة وإنما يجعل الهوان طريق الضلال والكفر، فدائماً وأبداً كان المجتمع المسلم لا يهزه إلا النصر ولا يطربه إلا الفوز وأخرى" تحبونها نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين (13)(الصف).
ونحن في رمضان، فهل يدور الزمن دورته مرة أخرى في شهر القرآن والعبادة والإيمان؟ وقد كان شهر رمضان دائماً فاتحة خير على المسلمين في شتى أصقاع العالم، تجلت فيه الانتصارات تلو الانتصارات وتحققت فيه الفتوحات والبركات. وكانت فاتحة انتصارات المسلمين هي "غزوة بدر" في 17 من رمضان في السنة الثانية للهجرة، وكان نصر المسلمين حاسماً، وعون الله فيها ظاهراً، وكسر الله الشرك فيها كسراً مهيناً، حيث قتل وأسر من جيش المشركين ما يقارب الثلث.
وكان فتح مكة في 20 رمضان حيث قضي على معقل الكفر وطهرت الكعبة من الأرجاس والأصنام ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وكان الفتح المبين والفوز العظيم، ودائماً أبداً في رمضان كان الخير العميم على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ففي رمضان في عام 82ه فُتح المغرب الأوسط، وانتصر المسلمون على الكاهنة، وفي رمضان عام 666ه استرجع بيبرس إنطاكية من الصليبيين، وفي رمضان عام 599ه انتصر نور الدين زنكي على الصليبيين في معركة حارم، وفي رمضان عام 362 انتصر الحمدانيون على البيزنطيين، وفي 25 رمضان فتح المسلمون مدينة بلجراد، وفي 28 رمضان عام 92 ه فتحت الأندلس، وفي رمضان 94ه فتح المسلمون مدينة ماردة في الأندلس.
وظل المسلمون ينتصرون في رمضان وتهب عليهم رياح الفتح دائماً أبداً لأنهم كانوا رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فصدقهم الله، وأعزهم وفتح لهم، فهل تنتبه الأمة إلى تربية الأجيال الذين يعيدون للزمن دورته ويرجعون لرمضان عزته وفتحه وفرحته؟ نسأل الله ذلك؟
د. توفيق الواعي