دروس وعبر تربوية من سيرة خير البرية
للشيخ العامل أبي سعد العاملي حفظه الله
الدرس الأول
مرحلة ماقبل البعثة
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد
من المفيد جداً قبل الخوض في أحداث السيرة بالتفصيل أن نلقي نظرة ولو مختصرة وخاطفة عن حالة الجزيرة العربية قبل البعثة النبوية المباركة، وذلك لأسباب عديدة ولحكم كثيرة، أهمها هو الوقوف على الحكمة الربانية لاختيار جزيرة العرب دون غيرها من البلدان ، واصطفاء أهلها دون غيرهم من الشعوب لكي يكونوا مقراً وحاملي هذا الدين الأخير للعالمين.
لا نشك في أن رسالة الإسلام عظيمة وتبعاتها ثقيلة إلى حد عجزت عن حمله السماوات والأرض والجبال ، فأشفق الله عليها وحملها الإنسان ، فلابد أن يكون هذا الأخير على درجة عالية من الصفات والأخلاق والطاقات التي تمكنه من حمل هذه الأمانة العظيمة، وليكونوا بعد ذلك محررين للعالم أجمع من كل العبوديات والأديان الظالمة المنحرفة التي أثقلت كواهل الناس منذ قرون من الزمن، ساد فيها الفساد والظلم والانحراف عن الفطرة واتباع الشهوات والخضوع لشريعة الشيطان دون حسيب ولا رقيب.
الأصول والفصول
نبدأ بذكر أصل العرب وفصائلهم ، فالعرب في أصلها تنقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- العرب البائدة: وهم القدامى، مثل: عاد و ثمود و طسم و جديس و عملاق ..
2- العرب العاربة "القحطانية": وهم المنحدرون من صلب يعرب بن يشجب بن قحطان .
3- العرب المستعربة "العدنانية": وهم المنحدرون من صلب إسماعيل .
والعرب العاربة مهدها اليمن، وقد تشعبت قبائلها وبطونها، فاشتهرت منها قبيلتان:
الأولى: حمير، وأشهر بطونها: زيد الجمهور ، و قضاعة ، و السكاسك .
والثانية: كهلان ، وأشهر بطونها: همدان، وأنمار، وطيء ، ومذحج ، وكندة ، ولخم ، وجذام ، والأزد ، والأوس، والخزرج ، وأولاد جفنة ملوك الشام.
ونتيجة الظروف الاقتصادية ، والصراع بين حمير وكهلان ، هاجرت بطون كهلان من اليمن قبيل سيل العرم ، وانقسموا إلى أربعة أقسام :
1- الأزد: وسيدهم عمران بن عمرو ، وسكنوا الحجاز ، وعُمان ، وتهامة.
2- لخم وجذام: وفيهم نصر بن ربيعة أبو الملوك المناذرة بالحيرة.
3- بنوطيء: نزلوا بالجبلين أجا وسلمى في الشمال.
4- كندة: نزلوا البحرين ، ثم حضرموت ، ثم نجد ، التي كوَّنوا بها حكومة كبيرة.
أما بالنسبة للعرب المستعربة، فيرجع نسبهم إلى إسماعيل عليه السلام الذي ولد في فلسطين، ثم انتقل مع أمه إلى الحجاز، ونشأ بها وتزوج، واشترك مع أبيه إبراهيم عليه السلام في بناء الكعبة ، ورُزق إسماعيل من الأولاد اثني عشر ابناً ، تشعبت منهم اثنتا عشرة قبيلة ، سكنت مكة، ثم انتشرت في أرجاء الجزيرة وخارجها ، وبقي "قيدار" أحد أبناء إسماعيل في مكة ، وتناسل أبناؤه حتى كان منهم عدنان وولده معد، ومن هذا الأخير حَفظت العرب العدنانية أنسابها، وعدنان هو الجد الحادي والعشرون لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقد تفرقت بُطون "معد" من ولده نزار، الذي كان له أربعة أولاد، تشعبت منهم أربع قبائل عظيمة: إياد وأنمار وربيعة ومضر، والأخيران هما اللذان كثرت بطونهما، واتسعت أفخاذهما، فكان من ربيعة : أسد ، و عنزة ، و عبد القيس ، وابنا وائل - بكر و تغلب -، و حنيفة وغيرها.
وكان من مضر : شعبتين عظيمتين : قيس عيلان ، و إياس .
فكان من قيس عيلان : بنو سليم ، وبنو هوازن ، وبنو غطفان التي منها : عبس وذبيان وأشجع.
وكان من إياس : تميم بن مرة، و هذيل بن مدركة، وبنو أسد بن خزيمة، و كنانة بن خزيمة التي منها قريش، وهم أولاد فهر بن مالك بن النضر بن كنانة .
وانقسمت قريش إلى قبائل شتى، أشهرها : جمح ، وسهم ، وعدي ، ومخزوم ، وتيم ، وزهرة، وبطون قصي بن كلاب ، وهي: عبد الدار ، و أسد بن عبدالعزى، و عبد مناف .
وكان من عبد مناف أربع فصائل : عبد شمس ، و نوفل ، و المطلب ، و هاشم ، وهو الجد الثاني لنبينا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم .
وفي اصطفاء نسبه صلى الله عليه وسلم يقول : (إن الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة واصطفى من قريش بني هاشم واصطفاني من بني هاشم) [رواه مسلم] .
ولما تكاثر أولاد عدنان تفرقوا، وانتشروا في بلاد العرب متتبعين سبل العيش، فتوزعوا في البحرين، واليمامة، والعراق ، وخيبر، والطائف ، وبقي بتهامة بطون كنانة ، وأقام بمكة بطون قريش.
وعلم الأحساب والأنساب مع أهميته ومكانته وقيمته، إلا أنه لا يرقى إلى أن يكون مجالاً للتفاضل ، وإنما الذي ينبغي أن يكون ميداناً للتفاضل والتسابق ، وخاصة بين المسلمين التقوى والصلاح كما قال تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (الحجرات : 13) ، وفي الحديث : (إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم) رواه الطبراني ، وصححه الألباني ، والله أعلم .
- حالة الجزيرة العربية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية
لاشك أن معرفة الحالة السائدة في جزيرة العرب وما حولها من الأهمية بمكان قبل التطرق إلى أحداث السيرة، ذلك أن معرفة الواقع القائم قبل الرسالة سيبين الحكمة من وراء ظهور النبي الخاتم في هذه المنطقة، وسيبين كذلك أهمية هذه الرسالة وأهدافها وغاياتها التي جاءت من أجل تحقيقها، وسوف نقارن تلكم الحالة مع الحالة التي نعيشها اليوم، لنجد الحاجة الملحة لعودة هذا الدين من جديد لكي يغير هذا الواقع المعيش، كما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعه من قبل.
ولكي نُقبل على دراسة السيرة النبوية بإرادة التغيير، تغيير النفوس والواقع معاً، فواقعنا أبعد ما يكون عن الواقع المطلوب وهو في الوقت ذاته أقرب ما يكون إلى الواقع الجاهلي قبل البعثة النبوية، بل نكاد نجزم أن واقعنا قد تجاوز بكثير – على مستوى فساد الأخلاق والقيم – وابتعد كثيراً حتى عن هذا الواقع الجاهلي سالف الذكر - ، ومن هنا يتوجب علينا أن ندرس السيرة النبوية ليس من أجل المتاع والترف الفكري بل نعتبر ذلك فرضاً عينياً لنتمكن من تغيير ما بنا ونعود إلى ممارسة دورنا وواجبنا الشرعي وأداء رسالتنا للعالمين.
الحالة الدينية
الوثنية
كانت الوثنية تسود شبه جزيرة العرب , رغم ظهور أفراد من الموحدين عرفوا بالأحناف في مكة , ورغم انتشار محدود لليهودية في اليمن والمدينة , وانتشار محدود للنصرانية في نجران والحيرة ودوحة الجندل وأطراف الشام . والوثنية العربية تؤمن بوجود الله , لكنها تتخذ الآلهة المصنوعة من الحجر والخشب والمعدن وسيلة للقرب إليه . والايمان بالله هو من بقايا دين إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - والديانات السماوية الأخرى المنزلة في مدن عربية قديمة مثل مدائن صالح وعاد وثمود . ولكن عقيدة التوحيد أصابها التحريف واتخذت عبادة الأصنام والأوهام التي كانت تنتشر في الحضارات القديمة حول شبه الجزيرة لدى الآشوريين والبابليين والسومريين والعموريين والآموريين في بلاد العراق والشام.
وكانت عبادة الآلهة المزعومة تنتقل بين تلك الأقوام , ومنها دخلت إلى شبه جزيرة العرب حيث عبدت اللاّت ومناة والعزّى وهبل وسواع وودّ , إلى جانب تقديس الأسلاف والحيوانات وعبادة النجوم والشمس والقمر والدبران والثريا والشعريان , وعبادة الجن والملائكة والنار , وكانوا ينكرون النبوة والبعث بعد الموت , وتظهر بينهم الكهانة والعرافة والسحر , وتشيع الأساطير والخرافات .
وقد اتخذ العرب أماكن خاصة لعبادة الأصنام التي اشتهرت منها الكعبة المكرمة التي بناها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام لعبادة الله الواحد فأحاطها المشركون بالأصنام التي بلغ عددها ثلثمائة وستين صنماً تعبدها القبائل التي تؤم البيت للحج وتقدم لها القرابين والنذر , ومن الأماكن الأخرى للعبادة ذو الخلصة وذو الشرى وذو الكفين.
وكان العرب يتخذون التمائم والتعاويذ والرقى, ويحملون أسنان ثعلب أو كعب أرنب ؛ ويعتقدون أن فيها قوى سحرية خفيّة , تجلب لحاملها الخير , وتبعد عنه الشر. وكانوا يستقسمون بالأزلام؛ وهي عيدان عليها رموز وعلامات يرمونها بالماء , وينتظرون خروجها , وبذلك يستشيرون آلهتهم فيما سيقدمون عليه من عمل.
وكان يوجد بعض الأفراد من الحنفاء الذين يرفضون عبادة الأصنام, وما يتعلق بها من الأحكام والنحائر وغيرها، ومن هؤلاء زيد بن عمرو بن نفيل، وكان لا يذبح للأنصاب، ولا يأكل الميتة والدم.
وممن كان يدين بشريعة إبراهيم وإسماعيل عليهما الصلاة والسلام، قُس بن ساعدة الإيادي, فقد كان خطيبًا، حكيمًا، عاقلاً، له نباهة، وفضل، وكان يدعو إلى توحيد الله، وعبادته، وترك عبادة الأوثان، كما كان يؤمن بالبعث بعد الموت، وقد بشر بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد روى أبو نعيم في دلائل النبوة عن ابن عباس قال: «إن قس بن ساعدة كان يخطب قومه في سوق (عكاظ) فقال في خطبته: سيعلم حق من هذا الوجه وأشار بيده إلى مكة، قالوا: وما هذا الحق؟ قال: رجل من ولد لؤي بن غالب يدعوكم إلى كلمة الإخلاص، وعيش الأبد، ونعيم لا ينفد، فإن دعاكم فأجيبوه، ولو علمت أني أعيش إلى مبعثه لكنت أول من يسعى إليه» وقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ومات قبل البعثة.
اليهودية
لقد تعمدت تفصيل الحديث عن هذه الفئة لأهميتها وخطورتها على ديننا وعلى كل الأديان السماوية من قبل، وسوف نتطرق أكثر إلى أنواع المكر والكيد الذي كانوا يكيدونه لنبينا الكريم ولأصحابه ولديننا الحنيف على مختلف مراحل الدعوة .
أما العقائد الأخرى التي انتشرت بصورة محدودة كما سبق ذكره فمنها اليهودية التي تمثلها بعض القبائل في المدينة والأفراد في اليمن واليمامة وكانوا يستعملون في أدبياتهم الدينية اللغة العبرية والآرامية , ويتكلمون العربية فيما بينهم في حياتهم اليومية , وقد تأثروا بعادات العرب وتسموا بأسمائهم , وكانت لهم مدارس يتدارسون فيها التوراة والمشنا والتلمود , وتعرف بالمدارس التي هي موضع عبادة وصلوات وندوات لهم أيضاً . وكانوا يتعاطون السحر , ويحرمون العمل يوم السبت , ويصومون عاشوراء , ويلزمون بالأعياد اليهودية , ومعظمهم أميون كما وصفهم القرآن.
إن ما اتفق عليه أكثر المؤرخين هو أن قبائل اليهود فيالحِجاز هم عبرانيون نازحون من جراء الإضطهاد الروماني, في الفترة ما بين عامي 70 مو135 م. ولم يكونوا عرباً ، أي انهم هم الناجون من دمار أورشليم على يد تيطوس أوالذين تم إجلائهم (بني النضير وقريظة ) على يد الإمبراطور هادريان, ولِذا فهم يُطلقعليهم الكاهنين نسبة إلى هارون النبي أخو موسى عليهما السلام. وحين انتقلوا إلىالحِجاز في الجزيرة العربية ، فقد جاءوا على يهود سبقوهم (بنو قينُقاع), ويدعي يهودبني قينقاع أن أصلهم موغل في القدم بيثرِب و يعود لزمان موسى في الوجود كما تدعيالإسرائيليات التي حاول اليهود ترويجها ، ونقلها لنا المؤرخون المُسلِمون ، إلا أنقِدم تواجُدِهم لا دليل عليه ، فلا يُمكِن الإستِدلال على قِدم الوجود اليهودي ماقبل الميلاد فضلاً لزمان موسى عليه السلام ، لأن اليهود على مر التاريخ لاقوا منالإضطهاد مالم تلْقهُ أمة أخرى ، ولذا فلا يُمكِن نفي أن اليهود في يثرِب قد جاءواعلى فترات متقطِّعة ولكن لا يُمكِن تأكيد بحال من الأحوال فترات ما قبل الميلاد ،أما ما بعد الميلاد فالثابت هو نزوح بني النضير وقريظة إلى يثرِب . و تبقى هذهالإدعاءات ادعائات يهودية محضة رُبما عن قصد ألّفوها ونشروها بين المُسلمينليكتسِبوا شرعية في المكان الذي استقروا فيه ، وهذا حال اليهود دائماً ، و برغمأصالة وعبرية تلك القبائل مثل بني النضير وقريظة وبني قينقاع ويهود خيبر وفدك ووادي القرى إلا أن هناك من قبائل العرب من اعتنق اليهودية أيضاً و ربما تقرباًلليهود.
القبائل العربية التي إعتنقتاليهودية
ذكر ابن قتيبة في حديثه عن أديان العرب في الجاهلية: أناليهودية كانت في حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة و بعض قضاعة. و ذكرنفس الأمر ابن حزم الأندلسي الظاهري في جمهرة أنساب العرب عند حديثة عن نفسالموضوع، و بالمثل ياقوت الحموي في معجمه.
أما صاعد البغدادي الأندلسي، صاحب المصنفات، والذي كانمن المقربين من محمد بن أبي عامر المعروف بالمنصور، فقد ذكر صاعد مجموعة من القبائلالتي تسربت إليها اليهودية مثل حمير و بني كنانة و بني الحارث بن كعب و كندة. وذكرت مصادر أخرى أن اليهودية وجدت في بعض الأوس من قبائل الأنصار، و بني نمير و بعضغسان و بعض جذام. بل إن بعض المصادر تذكر أن الآية القرآنية { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ } [البقرة 256،]، نزلت بسببأن بعض الأنصار هودوا أولادهم قبل الإسلام و عندما جاء الإسلام أرادوا أن يقسرواأبنائهم على إعتناق الإسلام، فنزلت تلك الآية الكريمة التي تحرم الإكراه فيالدين.
طبيعة اليهودية في الجزيرة العربية
إن بني إسرائيل الوارد ذكرهم في التوراة والقرآن الكريمهم بإجماع أهل الاختصاص من نسل سيدنا يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم الخليل، عليهمالسلام جميعا. وإبراهيم هو أبو العرب المستعربة من الإسرائيليين والعدنانيين، الذينتنتمي قبيلة قريش إليهم. موطن العرب المستعربة بشقيها الإسرائيلي والعدناني هو غربشبه الجزيرة العربية، فيما يعرف بالحجاز وتهامة، حيث عاش سيدنا إبراهيم الخليل،عليه السلام في حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد وقام ببناء الكعبة مع ولدهإسماعيل.
يبدو أن شبه الجزيرة العربية قد عاشت في هذه الحقبةالتاريخية بالذات عصرها الذهبي وفردوسها المفقود، حيث كانت تحتضن أهم الطرقالتجارية العالمية البرية والبحرية. كان الخليج العربي في الشرق والبحر الأحمر فيالغرب والبحر العربي في جنوب الجزيرة العربية والموانيء والثغور البحرية العربيةالمطلة عليها تغص بالسفن، التي تنقل البضائع والتجارة العالمية آنذاك بين حوض البحرالأبيض المتوسط الخاضع للسيادة العربية الكاملة، الأشورية والبابلية والفينيقيةوالمصرية وبين موانيء الهند والصين. وفي موازاة هذا الممر المائي كان هناك خط بريللقوافل يربط بلاد الشام والعراق ومصر عبر نجد والحجاز باليمن وعمان. في ظل هذاالانتعاش الاقتصادي، الذي شهدته الجزيرة العربية في هذه الحقبة، إستقر البدووالرعاة وتطورت الزراعة وبنيت السدود. كذلك كثرت الأسواق وازدهرت المدن والثغوروأصلحت الطرق وشيدت المعابد. استمر هذا العصر الذهبي في جزيرة العرب أكثر من ألفعام. هذا العصر تمجده التوراة كثيرا وتخلده بالمزامير ويشير إليه القرآن الكريم فيقصص عاد وثمود وإرم وفرعون ومدين وسبأ. كذلك الأساطير العربية التي ربما تستنطقالذاكرة، تتحدث عن عصر غابر تتزاحم فيه الجنان، التي تتدفق فيها العيون وتظللهاالأشجار أو تفيض بالأنهار، التي "يسيل فيها الحليب والعسل"..
بسبب التنافس والنزاع المستمر بين الدول العربية القديمةمن الفينيقيين والأشوريين والبابليين والمصريين في السيطرة على هذا الممر التجاريوالبحري الهام، في القرون الثامن والسابع والسادس قبل الميلاد، ثم أخيرا صعودالإمبراطورية الفارسية وتدمير الدولة البابلية وإحراق عاصمتها بابل ثم غزو العاصمةالثانية تيماء عام 539 ق.م.، تعرضت الجزيرة العربية كسائر المشرق العربي القديمآنذاك لإضطرابات وكوارث اقتصادية وسياسية خطيرة، وظلت عقودا طويلة فريسة للسلبوالنهب والسبي، فدمرت القرى والمدن وبادت كثير من القبائل العربية أو وقعت في الأسرأو أضطرت إلى هجر مواطنها الأصلية. ربما كان أخطر هذه الأحداث هي حملة الملكالأشوري سرجون الثاني (721 ق.م)، حيث دمرت مملكة إسرائيل في الشمال ، ثم حملتاالملك البابلي نبوخذ نصر (597 ثم 587 ق.م، غزوة ذات عرق قرب مكة)، حيث تم تدميرمملكة يهودا في الجنوب وتخريب عاصمتها أورشليم (القدس القديمة في عسير، التي ربماهي اليوم قرية فرت الواقعة قرب مدينة الطائف، أنظر د. كمال الصليبي / التوراة جاءتمن جزيرة العرب) وأخذ كثير من كهنة وأعيان القبائل، ومن ضمنهم بنو إسرائيل (بنوإسرائيل كانوا آنذاك أقرب إلى تحالف قبلي يضم عددا من قبائل الحجاز في غرب الجزيرةالعربية) أسرى إلى نينوة وآشور وبابل. لعل بعض ما تحدثنا به التوراة، وما يرد فيالقرآن الكريم، وما يرويه المؤرخون المسلمون (مثل الطبري، تاريخ الملوك) عن العربالبائدة مثل عاد وثمود وطسم وجديس والعماليق وانهيار سد مأرب، وكذلك حملة الملكالبابلي نبوخذ نصر (غزوة ذات عرق عام 587 ق.م. مثلا)، يرتبط بهذا التاريخ المضطرببالذات وبهذه الكوارث والمحن التي ألمت بهذا الجزء من غرب الجزيرة العربية. إن هذاالفصل من تاريخ العرب القدماء يعطي تفسيرا معقولا لاندثار حضارات الجزيرة العربيةولإختفاء بني إسرائيل ككيان سياسي واجتماعي وتحالف قبلي من الوجود واندثارهم (العربالبائدة). أما اليهودية، التي كانت في البداية دينا قبليا أو قوميا خاصا بالعرب منبني إسرائيل في الحجاز، فقد واصلت انتشارها وإعتنقها كثير من القبائل والشعوبالعربية الأخرى في وقت لاحق، فوصلت أولا إلى اليمن والحبشة، كما بلغت في القرنينالرابع والثالث قبل الميلاد شمال أفريقيا ومصر والشام والعراق. وقبل ظهور النصرانيةوالإسلام كانت اليهودية دينا سائدا في الوطن العربي بين جميع الشعوب العربية منالأشوريين والبابليين والكلدانيين والآراميين والمصريين والأحباش.
وعند ظهورالإسلام كان كثير من قبائل الجزيرة العربية وحواضرها تدين باليهودية، وكانت مدنتيماء ويثرب ونجران مراكز يهودية معروفة. كذلك كان الشاعر العربي الجاهلي السموألبن غريض بن عادياء الأزدي، من بطون قحطان، الذي يضرب به المثل في الوفاء عند العربيهودي الديانة ويسكن في خيبر القريبة من يثرب.
النصرانية
ومن العقائد الأخرى النصرانية التي دخلت بلاد العرب عن طريق التبشير الذي قام به الرهبان والتجار النصارى والرقيق المستورد من بلاد نصرانية وكانت الامبراطورية البيزنطية تشجع التبشير ، لأنه يمهد لسلطانها السياسي . وقد انتشر مذهب اليعاقبة من بلاد الشام والعراق إلى دومة الجندل وأيلة وبعض دياطيء , وأفراد بمكة ويثرب والطائف وخاصة من الأحابيش والرقيق .
لكن أهم مراكز النصرانية في بلاد العرب كانت في اليمن وخاصة نجران , كما انتشرت بصورة محدودة في البحرين وقطر وهجر . وكانت الآرامية هي لغة العلم والدين عند النصارى الشرقيين عامة، ولكن الإنجيل كان يكتب بالعربية أيضاً كما في خبر ورقة بن نوفل.
المجوسية :
وقد انتشرت المجوسية من إيران إلى بعض بلاد العرب , كالحيرة بحكم الجوار , واليمن لورود الحملة الفارسية عليها لطرد الأحباش, وحضرموت ومناطق أخرى شرق شبه جزيرة العرب لقربها من إيران , ولم يكن هذا الانتشار المحدود بدعوة من المجوس , لأنهم لا يحرصون على إدخال الغرباء في دينهم القومي.
- الصابئة :
وكان للصابئة انتشار محدود في العراق وحرّان , وقد انتشرت لفظة (صبأ) بمعنى الخروج من الدين في مكة والطائف حيث أطلقها المشركون على المسلمين لخروجهم من الشرك إلى الإسلام.
كانت تلك لمحات عن الحالة الدينية التي مرت بها الجزيرة الإسلامية عند ظهور الدين الإسلامي. والله أعلم
الحالة الاجتماعية
تعتبر القبيلة الوحدة الاجتماعية في بلاد العرب, وتتكون من:
الصليبية : وهم رجال القبيلة الذين تربطهم روابط الدم , فهم ينتمون إلى سلف واحد .
والحلفاء : وهم رجال أو قبائل صغيرة انتمت إلى القبيلة للاحتماء بها .
والعبيد : ومصدرهم أسرى الحرب أو الشراء .
ويرأس القبيلة شيخ يتصف بالحكمة والشجاعة والكرم , وعادة يكون كبير السن . ويجتمع أعيان القبيلة حول الشيخ في خيمته أو بيته لتدارس شؤون القبيلة ومصالحها , والتحكيم بين أفرادها عندما يقع بينهم خلاف , وبذلك تمارس الشورى بنطاق محدود . وقد تتحالف عدة قبائل كبيرة ضد قبائل أخرى , أو للقيام بمهمة ما ، كما حدث في مكة في حلف الفضول , أو تعقد بينها معاهدات " إيلاف " تضمن سلامة الطرق التجارية كما في إيلاف قريش مع القبائل العربية التي تسكن على امتداد تلك الطرق .
وقد استمرت الحروب بين القبائل العربية حتى غلب الإسلام عليها , مثل حروب الأوس والخزرج في المدينة , وبكر وخزاعة قرب مكة وكان العربي قبل الإسلام يتزوج عادة بامرأة أو أكثر دون تحديد , ولم يكن الحجاب شائعاً بين النساء , ووجد الاختلاط بين الرجال والنساء , ولكنهم سمّوا من يكثر من مخالطة النساء " بالزير ".
وكانت أنواع الزواج تأخذ صيغاً مختلفة منها الزواج بخطبة ومهر وهو الشائع بينهم وقد أقره الإسلام , ومنها صيغ أخرى حرمها الإسلام . وفي الغالب كان الأبوان يزوجان البنت دون أن يكون لها رأي, وقد منع الإسلام ذلك.
ويحب العربي إنجاب الأبناء ويكره البنات, لقدرة الذكر على القتال, وحماية القبيلة من أعدائها, والقيام بالغزو للآخرين. في حين لا تشترك النساء في الحرب, كما أنهن عرضة للسبي. وكانت بعض القبائل تمارس عادة وأد البنات بدفنهن عند الولادة, وهي عادة كانت تشيع في أمم أخرى عاصرتهم بنطاق واسع, وكان الدافعان الرئيسيان للوأد هما خوف العار والفقر. وقد عرف العربي قبل الإسلام بالكرم والشجاعة والصدق والصراحة والعفو عند المقدرة, وحب الحرية, والحفاظ على العرض, والذود عن الحمى, وقد أكد الإسلام على هذه الصفات و أثنى عليها, كما عرف بالتفاخر والغطرسة والكبرياء, وبالغزو وقطع طرق القوافل ونهبها وطلب الثأر مهما طال الزمن وشرب الخمور, وقد حرّم الإسلام ذلك. ويهتم العربي بنظافة بدنه ودهن شعره وتمشيطه وضفره وبخضاب الشيب بالحناء والوسمة والزعفران والتطيب بأنواع الطيب لكنه يهمل ذلك كله عند طلب الثأر.
وهذا العرض الإجمالي للأوضاع السائدة في شبه جزيرة العرب يوضح أحوال البيئة التي بزغ فيها فجر الإسلام وسطعت من خلاله أنوار الوحي على العالم كله وفي مقدمته بلاد العرب التي ظهر منها رسول الإسلام محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام.
الحالة السياسية والاقتصادية
لقد كانت الجزيرة العربية عبارة عن قبائل متفرقة، لا يجمعها كيان سياسي موحد، بل كل قبيلة أو عشيرة لها أعرافها ومنهجها في تسيير أمورها الداخلية والخارجية، فكان على رأس القبيلة شيخ أو سيد، يرجع إليه القوم في النزاعات أو اتخاذ القرارات الحاسمة التي تهم مصالح القبيلة، كالحروب مثلاً أو في تحيد العلاقات الخارجية وبعض الاتفاقات مع بقية القبائل.
لم تكن هناك قوانين مكتوبة يرجع إليها عند الضرورة، بل كانت الأعراف والتقاليد هي السائدة، وجدوا عليها آباءهم فهم عليها سائرون.
أما حول الجزيرة العربية فقد كان هناك في الشمال الإمبراطورية الرومانية، وفي الجنوب الإمبراطورية الفارسية، وهما بمثابة القوتين العظميين المتنافستين، والساعيتين إلى بسط نفوذهما في المنطقة.
ومن هنا فقد كانت القبائل العربية تتعامل بحذر وخوف شديدين مع هاتين الإمبراطوريتين، حيث لم يكن لديها أي وزن سياسي يومئذ، كانوا في أعين الرومان والفرس مجرد أعراب متخلفين وبدو رحل ورعاة مشردون، لا قيمة لهم ولا اعتبار.
كانت شبه جزيرة العرب مفككة سياسياً لا توحدها دولة, ولا تديرها حكومة, وكانت الدول القديمة التي قامت في اليمن ونجد وأطراف العراق والشام قد اندثرت , وطغت البداوة على المدن الباقية في الحجاز , فكانت القبيلة هي الوحدة السياسية والإجتماعية, وكانت مكة تدار من قبل الملأ في دار الندوة.
والمدينة في حالة نزاع دائم بين الأوس والخزرج تمخض عن ذلك محاولة إنشاء حكم ملكي, لكن انتشار الإسلام فيها حال دون ذلك.
أما دولة المناذرة في الحيرة ودولة الغساسنة في الأردن والجولان فقد سمح الفرس والروم للدولتين بالنشوء لتكونا دولتين حاجزتين تصدان عنهما غزو القبائل العربية, وتتوليان حماية القوافل التجارية. وقد أسقط الفرس دولة المناذرة سنة 602م قبل البعثة المحمدية بثمان سنوات.
- أما الأحوال الاقتصادية في شبه جزيرة العرب, فقد كانت البادية تعتمد على الاقتصاد الرعوي, فالقبائل العربية تستقر في الأماكن التي يتوفر فيها الماء وتصلح لرعي الإبل والأغنام والماعز.
وعندما يشح الماء فإنها تضطر للانتقال مما يجعلها في حروب مع بعضها للحصول على المورد الأفضل. وتوجد في شبه جزيرة العرب واحات زراعية متناثرة يستقر فيها السكان لكنها عرضة لغزو البدو لها.
ويقوم في المدن نشاط تجاري وزراعي وصناعي, وقد يغلب عليها نوع من هذه النشاطات, فمكة كان يغلب عليها النشاط التجاري؛ لأنها تقع بواد غير ذي زرع, وتتحكم بطرق التجارة بين اليمن والشام حيث تمر القوافل محملة بالتوابل والبخور والعطور, وقد استفادت مكة من مكانة الكعبة الدينية عند العرب في حماية قوافلها التجارية وعقد " الإيلاف " مع القبائل التي تجتاز ديارها, واشتهرت برحلة الصيف إلى الشام ورحلة الشتاء إلى اليمن.
أما المدينة - وكانت تعرف قبل الإسلام بيثرب - فكان يغلب عليها الاقتصاد الزراعي حيث اشتهرت ببساتين النخيل والأعناب والفواكه الأخرى والحبوب و الخضروات.
أما الطائف فقد غلبت عليها الزراعة وخاصة بساتين الأعناب والفواكه و الخضروات , وكذلك الصيد حيث تتوافر فيها الحيوانات البرية كالبقر الوحشي والحمار الوحشي والغزلان والظباء والأرانب.
وأما اليمامة فاشتهرت بزراعة القمح الذين كان يزيد عن حاجاتها فتصدر منه إلى الحجاز.
وأما اليمن ففيها زراعة واسعة ومناطق رعوية طبيعية إضافة إلى قيامها بالنشاط التجاري الكبير بنقل التوابل والبخور والعطور والأبنوس والعاج والحرير من الهند إلى بلاد العرب والشام.
وكانت السواحل الشرقية لشبه جزيرة العرب تربط تجارة الصين والهند بالهلال الخصيب (العراق وسوريا ) . وكانت شبه جزيرة العرب تستورد الدقيق والزيت والأقمشة من الشام , كما تستورد التمور والأُدم من العراق . وقد ساعدت أسواق العرب في الجاهلية على نشاط التبادل التجاري, واشتهرت منها أسواق عكاظ ومجنّة وذي المجاز ودومة الجندل ونطاة - بخيبر - وبدر وحباشة.
واستعمل العرب الدينار البيزنطي والدرهم الفارسي في التبادل التجاري, كما استعملوا المكاييل والموازين ومقاييس الطول في عمليات البيع والشراء.
أما الصناعة في شبه الجزيرة العربية, فقد اشتهرت اليمن بصناعة البرود اليمانية.
وعرفت المدينة بصياغة الحلي الذهبية والفضية؛ وصناعة السيوف والرماح والقسي والنبال والدروع والحراب, كما قامت في المدن العربية حرف التجارة والحدادة والصياغة والدباغة, والغزل والنسيج, والخياطة, والصباغة . ولكن معظم الحرفيين كانوا من الموالي والعبيد ولم يكونوا عرباً. وقد شاع التعامل بالربا في مكة والطائف ويثرب ونجران, ومارسه اليهود وانتقل منهم إلى العرب, وكان على نوعين:
ربا النسيئة؛ وهو زيادة المبلغ على المدين مقابل تأجيل الدفع.
وربا الفضل وهو الزيادة التي تترتب على بيع العينات المتماثلة بسبب اختلاف جودتها.
وكان الربا يؤخذ أضعافا مضاعفة, وقد حرمه الإسلام بنوعيه, قال تعالى: { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } (البقرة 275).
وكان العرب يعرفون أنواعاً من المعاملات المالية كالقراض والمضاربة والرهن, وكان الغرر يحيط بكثير من عقود البيع والشراء كالمنابذة والملامسة والنجش وبيع الحاضر للبادي. وكذلك كان الاحتكار يدخل في معاملاتهم التجارية, كما تفرض عليها المكوس الباطلة. وقد حرّم الإسلام البيوع التي فيها غرر أو ضرر كما حرم الربا والاحتكار تحقيقاً للعدل بين الناس. فعاش الناس في خير ورفاهية لما تمسكوا بهدي الإسلام في سياستهم واقتصادهم، وأصابهم الضنك والضيق لما تنكبوا الصراط المستقيم.
هذا باختصار شديد أهم المحطات في حياة العرب في جزيرة العرب وما حولها، وحالتهم المعيشية قبل البعثة النبوية، وبعد هذا ننتقل إلى مرحلة أخرى جديدة ومختلفة تبدأ بمولد النبي عليه الصلاة والسلام وتنتهي بموته، وما بين الحدثين سنعيش أحداثاً عظيمة غيرت مجرى التاريخ البشري ورسمت له معالم جديدة سترافقه حتى تقوم الساعة.
هذا والله تعالى أعلى وأعلم ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.