ذكر أهل السير أن هشام بن عمار رحمه الله كان شغوفاً بطلب علم النبوة وهو صغير ، وكان معاصرًا للإمام مالك عليه رحمة الله ، جاءه في رحلة شاقة طويلة
فعن محمد بن الفيض الغساني قال : سمعت هشام بن عمار يقول : باع أبي بيته بعشرين ديناراً وجهزني للحج وطلب العلم ، قال :
فتوجهت من دمشق تاركاً أهلي ووطني رغبة في الحج إلى بيت الله ولقاء الأئمة أمثال مالك رحمه الله ، قال :
فلما صرت إلى المدينة أتيت مجلس الإمام ومعي مسائل - أعدَّ مسائل يريد أن يسائل الإمام فيها – قال : وأريد مع ذلك أن يحدثني ، قال : فأتيته وهو جالس في هيئة الملوك ، وغلمانه قيام حوله ، والناس يسألونه ويجيبهم ، يتدفق كالبحر ، قال : فلما انقضى المجلس قمت لأسأله وأطلب أن يحدثني ، فاستصغرني ورآني لست أهلا للرواية ، فقال :
حصَّلنا على الصبيان ؛ يعني أنه لم يبقَ إلا الصبيان ، يا غلام – لأحد غلمانه الذين حواليه – احمله ، قال : فحملني كما يُحْمل الصبي ، وأنا يومئذ غلام مدرك ، فأخرجني.
يقول ابن جزرة : ودخل هشام ذات يوم على الإمام مالك بغير إذن وقال له : حدثني ، فرفض الإمام مالك ، يقول هشام : فكررت عليه وراددته فقال لغلامه : خذ هذا واضربه خمسة عشرة سوطًا ، قال : فأخذه وذهب به وضربه خمسة عشرة سوطًا ، فوقف يبكي على الباب حتى خرج الإمام مالك فإذا به يبكي، فقال له :
ما يبكيك يا هشام ؟ أو أوجعتك ؟ قال هشام : إن أبي باع منزله بعشرين دينارًا ، ووجه بي إليك لأتشرف بالسماع منك ، فضربتني وظلمتني بغير جرم فعلته ، سوى أني أطلب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله لا جعلتك في حلٍّ ، لأسائلنك بين يدي الله ، فتأثر الإمام مالك ، وعلم أنه طالب حديث وجامع سنة بحق ، فقال : يا بني ما يرضيك ؟ ما كفارة ذلك ؟ فقال هشام :
أن تحدثني بكل سوط ضربتنيه حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فجلس الإمام وقال : : حدثنا فلان عن فلان عن فلان ، فسرد له خمسة عشرة حديثًا ، فقال هشام بعدها :
يا إمام زِد في الضرب وزد من الحديث ، فضحك الإمام مالك وقال : اذهب.
فانظر يا طالب العلم، يا طالب العلم انظر كيف عرفوا العلم وقدره ، واستعذبوا العذاب في سبيل الحصول عليه ، باعوا بيوتهم ، وقطعوا الفيافي والقفار حتى وصلوا ؛ لأنهم يعرفون أنه بواسطة العلم يُعْبد الله في الأرض على بصيرة.
من محاضرة ( صفحات مطوية ) لفضيلة الشيخ علي بن عبد الخالق القرني