فهذا من أجمل ما قرأت في ذم المنافقين ، و ذكر أخطارهم و هتك أستارهم ، و هي من أكثر من كتاب ، و ستأتي تباعا في عدة حلقات ، قد جمعتها هنا للفائدة و ليستفيد منها الدعاة و الخطباء و سائر المسلمين أسأل الله بمنه و كرمه أن يُعافينا من هذا البلاء و جميع الأخوة و القراء ... آمين آمين
قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين :
فصل وأما النفاق : فالداء العضال الباطن الذى يكون الرجل ممتلئا منه
وهو لا يشعر فإنه أمر خفي على الناس وكثيرا ما يخفى على من تلبس به فيزعم أنه مصلح وهو مفسد وهو نوعان : أكبر وأصغر
فالأكبر : يوجب الخلود في النار في دركها الأسفل وهو أن يظهر للمسلمين إيمانه بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به لا يؤمن بأن الله تكلم بكلام أنزله على بشر جعله رسولا للناس يهديهم بإذنه وينذرهم بأسه ويخوفهم عقابه وقد هتك الله سبحانه أستار المنافقين وكشف أسرارهم في القرآن وجلى لعباده أمورهم ليكونوا منها ومن أهلها على حذر وذكر طوائف العالم الثلاثة فى أول سورة البقرة : المؤمنين والكفار والمنافقين فذكر في المؤمنين أربع آيات وفي الكفار آيتين وفي المنافقين ثلاث عشرة آية لكثرتهم وعموم الابتلاء بهم وشدة فتنتهم على الإسلام وأهله فإن بلية الإسلام بهم شديدة جدا لأنهم منسوبون إليه وإلى نصرته وموالاته وهم أعداؤه في الحقيقة
يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصلاح ، وهو غاية الجهل والإفساد، فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه ! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه ! وكم من علم له قد طمسوه ! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه ! وكم ضربوا بمعاول الشبه فى أصول غراسه ليقلعوها ! وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها ! فلا يزال الإسلام وأهله منهم فى محنة وبلية ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية ويزعمون أنهم بذلك مصلحون ( ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون [ البقره : 12 ] ( يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون ) [ الصف : 8 ]
اتفقوا على مفارقة الوحي فهم على ترك الاهتداء به مجتمعون ( وتقطعوا أمرهم بينهم زبرا كل حزب بما لديهم فرحون ) [ المؤمنون : 53 ] ( يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ) [ الأنعام : 112 ] ولأجل ذلك ( اتخذوا هذا القرآن مهجورا ) [ الفرقان : 30 ]
درست معالم الإيمان في قلوبهم فليسوا يعرفونها ودثرت معاهده عندهم فليسوا يعمرونها وأفلت كواكبه النيرة من قلوبهم فليسوا يحيونها وكسفت شمسه عند اجتماع ظلم آرائهم وأفكارهم فليسوا يبصرونها لم يقبلوا هدى الله الذي أرسل به رسوله ولم يرفعوا به رأسا ولم يروا بالإعراض عنه إلى آرائهم وأفكارهم بأسا خلعوا نصوص الوحي عن سلطنة الحقيقة وعزلوها عن ولاية اليقين وشنوا عليها غارات التأويلات الباطلة فلا يزال يخرج عليها منهم كمين بعد كمين نزلت عليهم نزول الضيف على أقوام لئام فقايلوها بغير ما ينبغي لها من القبول والإكرام وتلقوها من بعيد ولكن بالدفع فى الصدور منها والأعجاز وقالوا : ما لك عندنا من عبور وإن كان لا بد فعلى سبيل الاجتياز
أعدوا لدفعها أصناف العدد وضروب القوانين وقالوا لما حلت بساحتهم : مالنا ولظواهر لفظية لا تفيدنا شيئا من اليقين وعوامهم قالوا : حسبنا ما وجدنا عليه خلفنا من المتأخرين فإنهم أعلم بها من السلف الماضين وأقوم بطرائق الحجج والبراهين وأولئك غلبت عليهم السذاجة وسلامة الصدور ولم يتفرغوا لتمهيد قواعد النظر ولكن صرفوا هممهم إلى فعل المأمور وترك المحظور فطريقة المتأخرين : أعلم وأحكم وطريقة السلف الماضين : أجهل لكنها أسلم أنزلوا نصوص السنة والقرآن منزلة الخليفة في هذا الزمان اسمه على السكة وفي الخطبة فوق المنابر مرفوع والحكم النافذ لغيره فحكمه غير مقبول ولا مسموع لبسوا ثياب أهل الإيمان على قلوب أهل الزيغ والخسران والغل والكفران فالظواهر ظواهر الأنصار والبواطن قد تحيزت إلى الكفار فألسنتهم ألسنة المسالمين وقلوبهم قلوب المحاربين ويقولون ( آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) [ البقره ]
رأس مالهم الخديعة والمكر وبضاعتهم الكذب والختر وعندهم العقل المعيشي أن الفريقين عنهم راضون وهم بينهم آمنون ( يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون ) [ البقره : 9 ]
قد نهكت أمراض الشبهات والشهوات قلوبهم فأهلكتها وغلبت القصود السيئة على إراداتهم ونياتهم فأفسدتها ففسادهم قد ترامى إلى الهلاك فعجز عنه الأطباء العارفون ( في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون ) [ البقره : 10 ]
من علقت مخالب شكوكهم بأديم إيمانه مزقته كل تمزيق، ومن تعلق شرر فتنتهم بقلبه ألقاه في عذاب الحريق، ومن دخلت شبهات تلبيسهم في مسامعه حال بين قلبه وبين التصديق ، ففسادهم في الأرض كثير وأكثر الناس عنه غافلون ، ( وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا : إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون ) [ البقره : 1112 ]
المتمسك عندهم بالكتاب والسنة صاحب ظواهر مبخوس حظه من المعقول والدائر مع النصوص عندهم كحمار يحمل أسفارا فهمه في حمل المنقول وبضاعة تاجر الوحي لديهم كاسدة وما هو عندهم بمقبول وأهل الاتباع عندهم سفهاء فهم في خلواتهم ومجالسهم بهم يتطيرون ( وإذا قيل لهم : آمنوا كما آمن الناس قالوا : أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون ) [ البقره : 13 ]
لكل منهم وجهان وجه يلقى به المؤمنين ووجه ينقلب به إلى إخوانه من الملحدين وله لسانان : أحدهما يقبله بظاهره المسلمون والآخر يترجم به عن سره المكنون ( وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا : آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا : إنا معكم إنما نحن مستهزئون ) [ البقره : 14 ] قد أعرضوا عن الكتاب والسنة استهزاء بأهلهما واستحقارا وأبوا أن ينقادوا لحكم الوحيين فرحا بما عندهم من العلم الذى لا ينفع الاستكثار منه أشرا واستكبارا فتراهم أبدا بالمتمسكين بصريح الوحى يستهزئون ( الله يستهزىء بهم ويمدهم فى ظغيانهم يعمهون ) [ البقره : 15 ]
خرجوا في طلب التجارة البائرة في بحار الظلمات فركبوا مراكب الشبه والشكوك تجري بهم في موج الخيالات فلعبت بسفنهم الريح العاصف فألقتها بين سفن الهالكين ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين ) [ البقره : 16 ]
أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفىء ذلك النور وبقيت نارا تأجج ذات لهب واشتعال فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون ( مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله : ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون ) [ البقره : 17 ]
أسماع قلوبهم قد أثقلها الوقر فهي لا تسمع منادي الإيمان وعيون بصائرهم عليها غشاوة العمى فهي لا تبصر حقائق القرآن وألسنتهم بها خرس عن الحق فهم به لا ينطقون ( صم بكم عمي فهم لا يرجعون ) [ البقره : 18 ]
صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف التي وظفت عليهم في المساء والصباح فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وجدوا فى الهرب والطلب فى آثارهم والصياح فنودي عليهم على رءوس الأشهاد وكشفت حالهم للمستبصرين وضرب لهم مثلان بحسب حال الطائفتين منهم : المناظرين والمقلدين فقيل : ( أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين ) [ البقره : 19 ]
ضعفت أبصار بصائرهم عن احتمال ما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي وعوده وعيده وأوامره ونواهيه فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه لا ينتفع بسمعه السامع ولا يهتدي ببصره البصير ( كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ) [ البقره : 20 ]
و للحديث بقية ..... ان شاء اللــــــــــة
ملاحظة : تم نشر المشاركة باسم الشمال الغاضب في الساحات الاسلامية للمعلومية فقط و فق الله الجميع لمرضاته