السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
من الأقوال المألوفة التي قد اعتدنا على تداولها وتناقلها حتى غدت من الأشياء (الملقاة) على قارعة الطريق -كما يقول أديب العربية الرافعي- وبلغ التكثيف بها لحدّ أن يتوّهم بعض الناس أنها من المسلّمات الفقهية.. القول بأن المحرّم في الشريعة هو(الخلوة) لا(الاختلاط) وأن المجتمع المسلم في نشأته الأولى كان مجتمعاً مختلطاً يجتمع فيه الرجال والنساء، ويسوقون في سبيل ذلك النصوص والأدلة الشرعية المؤيّدة له.
وتلقائياً.. يأتيك من يحكي الخلاف في المسألة بأن منع (الاختلاط) هو مذهب الحنابلة، وأما مذهب الفقهاء الآخرين فهو الجواز .. كما يفعلون في كلّ المسائل التي يرونها شهيرة في المجتمع السعودي إذ ينسبونها قولاً فقهيّاً من مفردات الحنابلة في مقابل الجمهور، من غير بيّنة على ذلك سوى أنه يشاهد كثيراً من المجتمعات الإسلامية لا تلتزم بهذا القول مما يدلّ على أن هذا مذهب الجماهير، فهو يتصوّر أن مذهب الفقهاء هو ما يفعله الناس في هذه الأيام.
دعونا من مذهب (الحنابلة).. وتخيّروا ما شئتم من مذاهب السادة الفقهاء .. ولكم حرية الاختيار في القرن الفقهي الذي تريدون.. وأحضروا أي كتابٍ تهوون .. فإنكم ولا بدّ ستجدون أن من العبارات الفقهية المألوفة لدى جميع أصحاب المذاهب على توالي القرون (والمرأة ليست أهلاً لمجامع الرجال) و (المجامع التي يختصّ بها الرجال) ونحو هذه العبارات التي تساق كمسلّمات، بل وتذكر كأدلة فقهية لإلزام الرأي الآخر.
فمثلاً: حين يردّ جمهور الفقهاء على الحنفية في قولهم بصحة (قضاء المرأة) في بعض الأحكام: يردون عليهم أن (المرأة ليست أهلاً لمجالس الرجال) فيجعلون هذا الكلام كدليلٍ على إبطال قول الحنفية، وهو أمر يسلّم به الحنفية وإلا لما كان لمثل هذا الكلام في الردّ عليهم أي معنى.
وستجد المقولات الكثيرة في ذمّ الاختلاط ووجوب الستر، وحثّ المحتسبين على متابعة هذا الأمر وتأديب المخالفين.. إلى ما شاء الله من النصوص التي لا طاقة بأحد على استقصائها..
إذا كان الأمر كذلك.. فمن أين دخل علينا مفهوم أن المحرّم هو (الخلوة) لا (الاختلاط) وأن المجتمعات الإسلامية في عصر الإسلام كانت مجتمعات مختلطة؟
ثمّة عدة أوهام سبّبت هذا الأمر، ولعلّي أخصّ بعضاً منها:
الوهم الأول: تصوّر أن التحريم في الشريعة إنما جاء في خصوص الخلوة دون الاختلاط
وللأسف.. أن يقول بهذا الكلام من يدعو للعمل بالمقاصد الشرعية، فعجباً: كيف تحرم الخلوة ويباح الاختلاط؟
إذا كان اجتماع الرجل مع المرأة في مجلس خالٍ وهي محتشمة وهو منشغل عنها بأي شغل يعتبر محرّماً بالنصّ والإجماع مع أن ثمّة موانع تحول دون حصول المكروه من الحياء وخشية الفضيحة والجهل بالطرف المقابل ونحوها.. فهل يكون هذا محرّماً.. واللقاء المتكرر المختلط في (قاعات الدراسة) و (أروقة العمل) أمراً مباحاً مع ما تقتضيه طبيعة اللقاء المتكرر والعمل المشترك من (مودّة) و(ابتسامة) و(لطافة) و(مصافحة) و(مقاربة) و(إزالة كلفة) وأمور لا تخفى على أحد، فأي جمود فقهي وظاهرية يابسة تلك التي تحرّم الخلوة وتبيح الاختلاط، وواقع الأمر أن دوافع الفساد والانحراف في الاختلاط أضعاف ما هي في الخلوة؟
ثمّ إن (الاختلاط المتكرر) يمهّد لحصول الخلوة بأبشع وأشنع صورها، فتهيئة الأجواء المختلطة وتطبيع الناس عليها وتنشئة أجيال المسلمين على إذابة الحساسية والكلفة بين الطرفين يعين ويمهّد لحصول الخلوة التي (نقطع) بحصول المكروه فيها لا بالخلوة التي هي (ذريعة) للمكروه.
أريد أن أفهم:
الشريعة تأمر المرأة (بالقرار) في البيت، وإذا خرجت فهي (عورة) يستشرفها الشيطان، فلا بدّ من (الحجاب) و(ترك) التعطّر والتزيّن و(مأمورة) بأن لا تخضع بالقول ولا تخلو بالرجال، والرجل يجب عليه أن (يغضّ) بصره عنها. هذه الأحكام .. فكيف يحصل لقاء مختلط متكرّر مع هذا؟
وإذا كانت الشريعة قد (أسقطت) عن المرأة الجمع والجماعات مع ما فيها من فضيلة لأجل حثّها على القرار في البيت، بل وصلاتها في بيتها (خير) لها من صلاتها في المسجد مع ما في صلاة الجماعة من أجر الجماعة وسماع القرآن ترغيباً للمرأة في القرار، وإذا أبت إلا الحضور في المساجد فإنها (ممنوعة) من الاختلاط بالرجال في وقت العبادة والذكر والاجتماع المفتوح الآمن، بل صفوف النساء الأخيرة خير لهنّ لما فيها من مزيد بعد وصيانة، أفيكون هذا خاصّاً بالمسجد والأماكن الآمنة، وأما مقاعد الدراسة والعمل فشيء آخر أطهر وأبرّ!
إن القول بتحريم (الخلوة) يتضمّن في ذاته القول بمنع (الاختلاط)؛ لأن تحريم الخلوة مبنيٌّ على ما في علاقة الرجل بالمرأة من حساسية تقتضي سدّ الذرائع المؤدّية إلى أي تلويث يمسّ هذه العلاقة، وبالتالي: فمن يحرّم الخلوة لا يمكن أن يقول بقول الصحفيين التائهين (إن العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة تسودها الثقة والاحترام لا الجنس والشهوة) لأن من يقول بهذا يلزمه أن لا يحرّم الخلوة، فالاحترام إن كان هو صفة علاقة الطرفين فهو موجود في الخلوة والجماعة، وإن كان ثمّة حساسية وكلفة فهي موجودة فيهما، وأما من يمنع الخلوة ويجيز الاختلاط فهو في شتات.