فإن الله جعل الموت محتوماً على جميع العباد من الإنس والجان وجميع الحيوان فلا مفر لأحد ولا أمان , كل من عليها فان , ساوى فيه بين الحر والعبد والصغير والكبير والذكر والأنثى والغني والفقير وكل ذلك بتقدير العزيز العليم: ( وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)
فالكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت و الحازم من بادر بالعمل قبل حلول الفوت , والمسلم من استسلم للقضاء والقدر , والمؤمن من تيقن بصبره الثواب على المصيبة والضرر.
- أيها الأحبة ، كرب الزمان وفقد الأحبة خطب مؤلم , وحدث موجع , وأمر مهول مزعج , بل هو من أثقل الأنكاد التي تمر على الإنسان نار تستعر , وحرقة تضطرم تحترق به الكبد ويُفت به العضد إذ هو الريحانة للفؤاد والزينة بين العباد , لكن مع هذا نقول:
فلرب أمر محزن لك في عواقبه الرضا ***** ولربما اتسع المضيق وربما ضاق الفضا
كم مغبوط بنعمة هي داؤه , ومحروم من دواء حرمانه هو شفاؤه , كم من خير منشور وشر مستور , ورب محبوب في مكروه , ومكروه في محبوب:
( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).
لا تكره المكروه عند حلوله ****** إن العواقب لم تزل متباينة
كم نعمة لا يستهان بشكرها ***** لله في طي المكاره كامنة
لهذا كله أحببت أن أجمع هذه الكلماتٍ لطيفة في كشف كرب من أصيب بمصيبة عنونتها بعنوان كتاب في هذا الموضوع هو "كشف الكربة عند فقد الأحبة".
راجياً من الملك الديان أن ينفعني بها وسائر الأخوان , ويجعلها تذكرة لأولي الألباب , وتسلية وعزاء لكل مؤمن محزون مصاب , تشرح صدره وتجلب صبره , وتهون خطبه وتخفف أمره ويلحظ بها ثوابه على الصبر وأجره , والله تعالى هو المسؤول أن يجعل لي ولها القبول لا رب غيره ولا إله سواه هو المأمول , وأحتسب عند الله ثواب من تسلى بهذه الكلمات وأسأله الدعاء بأن يثبتني الله في ساعة فقري وحاجتي , وأن لا يحرمني ثواب هذه الكلمات , فالمصاب حقاً من حرم الثواب , نفع الله بها وأثاب , إنه الكريم الوهاب , اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً , وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً .
أولاً : مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
التأمل والتملّي والتدبر والنظر في كتاب الله جل وعلا وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم , ففيهما ما تقر به الأعين , وتسكن به القلوب وتطمئن له تبعاً لذلك الجوارح مما منحه الله , ويمنحه لمن صبر ورضي واحتسب من الثواب العظيم والأجر الجزيل
ثانياً : ومن وسائل كشف الكربة :-
تذكر المصيبة العظمى بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم , وكل مصيبةٍ دون مصيبتنا بموته صلى الله عليه وسلم تهون , فبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي من السماء إلى القيامة وبموته انقطعت النبوات وبموته ظهر الفساد بارتداد العرب عن الدين فهو أول انقطاع عرى الدين أو نقصانه.
وفيه غاية التسلية عن كل مصيبةٍ تصيب العبد أو تحل بأمة الإسلام جمعاء ... وهاهو صلى الله عليه وسلم يطلب منا أن نذكر بمصائبنا موته وفراقه وبذلك تهون علينا المصائب والخطوب , فيقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي صححه الألباني في السلسة :
(إذا أصيب أحدكم بمصيبة فليذكر مصيبته بي فإنها أعظم المصائب).
ثالثاً : من وسائل كشف الكربة :-
أن يعلم المكروب المصاب علم اليقين أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه:
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
إن من تأمل هذه الآية وتدبرها وجد فيها شفاءً وتبديداً لجميع الكرب والأدواء:
(إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ).
كم من عليلٍ قد تخطاه الردى ....... فنجا ومات طبيبه والعوّدُ
رابعاً : ومما يكشف الكربة :-
الاستعانة بالله والاتكال عليه والرضا بقضائه والتسليم لقدره , روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
(ألا أحدثكم بحديث لا يحدثكم به أحد غيري ؟ قالوا : بلى .. قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جلوساً فضحك ثم قال : " أتدرون ممّ ضحكت ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم .. قال صلى الله عليه وسلم : " عجبت للمؤمن , إن الله عز وجل لا يقضي قضاء إلا كان خيراً له).
خامساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم اليقيني أن الجزع لا يرد المصيبة بل يضاعفها , فالجازع يزيد مصيبته ويشمت أعداءه ويسوء أصدقاءه ويغضب ربه ويسر شيطانه ويحبط أجره ويضعف نفسه , أما إذا احتسب وصبر ورضي أخزى شيطانه وأرضى ربه وسر صديقه وساء عدوه وحمل على إخوانه فعزاهم قبل أن يعزوه , هذا هو الثبات في الأمر نسأل الله الثبات في الحياة وفي الممات.
يقول بعض الحكماء العاقل يفعل في أول يوم من المصيبة ما يفعله الجاهل بعد أيام , ومن لم يصبر صبر الكرام سلا سلوّ البهائم، و إنما الصبر عند الصدمة الأولى..:
إذا أنت لم تسلُ اصطباراً و حسبة ....... سلوت على الأيام مثل البهائم
سادساً : ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
العلم بأن النعم زائرة وأنها لا محالة زائلة وأن السرور بها إذا أقبلت مشوب بالحذر بفراقها إذا أدبرت , وإنها لا تفرح بإقبالها فرحاً حتى تعقب بفراقها ترحاً , فعلى قدر السرور يكون الحزن.
والمفروح به اليوم هو المحزون عليه غداً , ومن بلغ غاية ما يحب فليتوقع غاية ما يكره , ومن علم أن كل نائبة إلى انقضاء حسُن عزاؤه عند نزول البلاء: (سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً).
سابعاً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بتفاوت المصائب , فإن كانت المصيبة بعيدة عن الدين فهي هينة سهلة يسيرة , لأن المصيبة في الدين هي أعظم مصيبة , ومصائب الدنيا كذلك تتفاوت , فإذا حصّلت الأدنى من المصائب فتسلّ بذلك عما هو أعلى وأعظم واحمد الله على ذلك.
قال السفاريني عليه رحمة الله : المصائب تتفاوت , فأعظمها مصيبة الدين، نعوذ بالله من ذلك فإنها أعظم مصيبة, والمسلوب من سُلِب دينه.
وكل كسرٍ لعل الله جابره ......... وما لكسر قناة الدين جبرانُ
ثامناً : ومما يكشف الكربة :-
العلم بأن الدنيا فانية زائلة , وكل ما فيها يتغير ويحول ويفنى ويزول , لأنها إلى الآخرة طريق وهي مزرعة للآخرة على التحقيق , إنها ألم يخفيه أمل , وأمل يحققه بإذن الله عمل , وعمل يقطعه الأجل , وعندها يجزى كل امرئٍ بما فعل , إنها الدنيا إن حلت أوحَلت , وكست أوكست , ودنت أودنت , وكم من ملكٍ رفعت له علامات , فلما علا مات.
هي الأيام لا يبقى عزيز ......... وساعات السرور بها قليلة
إذا نشر الضياء عليك نجم ...... وأشرق فارتقب يوماً أفوله
إن أضحكت قليلاً أبكت كثيراً , وإن سرّت يوماً أحزنت شهوراً , وإن متعت كثيراً منعت طويلاً , لا يبقى لها حبور و لا يدوم فيها ثبور .
تاسعا:ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
تذكر ما في البلاء من لطائف وفوائد , منها على سبيل المثال:
أولاً: تذكير العبد بذنوبه فربما تاب إلى الله عز وجل , فالتوبة لله تعالى أعظم عزاء له من كل شيء.
يقول بعض السلف : إن العبد ليصاب بالمصيبة فيذكر ذنوبه فيخرج من عينه مثل رأس الذباب دمعاً من خشية الله فيغفر الله عز وجل له.
ثانياً: زوال قسوة القلب مع حدوث رقة القلب وانكسار العبد لله عز وجل وذلك ملاحظ في المصائب , وذلك والله خير من كثيرٍ من طاعات الطائعين فانكسار المذنب خير وأعظم من صولة المطيع.
ثالثاً: البلاء يوجب من العبد الرجوع إلى الله عز وجل والوقوف ببابه والتضرع له والاستكانة له والدعاء وهذا من أعظم فوائد البلاء، فببعض الأثر : إن الله ليبتلي العبد وهو يحبه ليسمع تضرعه ودعاءه.
رابعاً: البلاء يقطع قلب المؤمن عن الالتفات إلى المخلوقين ,ويوجب له الإقبال على الخالق الذي لا شريك له، فالمشركون وهم مشركون حكى الله عنهم إخلاص الدعاء عند الشدائد: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)، فكيف بالمؤمنين ؟
خامساً: رحمة أهل البلاء ومساعدتهم على بلواهم فإن العبد إذا أحس بألم المصيبة رق قلبه لأهل المصائب والبلايا ورحمهم .
وأخيرا: معرفة قيمة وقدر العافية , فإن النعم لا تُعرف أقدارها إلا بعد فقدها , فلا يعرف نعمة إلا من ذاق مرارة ضدها , وبضدها تتميز الأشياء , فمن تأمل هذه اللطائف زال ما به وانشرح صدره وانفرج همه بإذن ربه.
عاشرا: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :
لطيف التعزية عند فقد الأعزة , فإن الكلمة الطيبة للمصاب يثبت بها بإذن الله , ويغدو صبره عليها سهلاً يسيراً فإن المؤمن كما تعلمون قليل بنفسه كثير بإخوانه ضعيف بنفسه قوي بإخوانه شديد بأعوانه فإذا وجد هذا يعزيه وهذا يسليه سهلت عليه الأمور العظام وكشف ما به بإذن الله رب السماء والأرض.
ولذا فإن الشارع بحكمته البالغة شرع التعزية لأهل المصيبة والدعاء لهم بالثبات والأجر والخلف وللميت بالرحمة والمغفرة.
الحادي عاشر: ومما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
برد التأسي بأهل المصائب فبذلك إطفاء لنار المصيبة ولنعلم أنه في كل قرية ومدينة بل في كل بيت , من أصيب مرة ومنهم من أصيب مراراً وليس ذلك بمنقطع حتى يأتي على جميع أهل البيت حتى نفس المصاب سيصاب يوماً بنفسه أسوة بأمثاله ممن تقدمه , فإن نظر فلن يرى يمنة إلا محنة ويسرة إلا حسرة.
وأخيراً : فإن مما يكشف الكربة عند فقد الأحبة :-
الدعاء والتضرع , واللجوء لله سبحانه وتعالى رب الأرض والسماء , كاشف الضراء , وإن يصبك بسراء فلا راد للسراء، وفي السنة النبوية الغراء من الأحاديث الصحيحة ما يكشف الهم والكرب والضراء , ففي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( ما أصاب عبداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك بن أمتك ناصيتي بيدك ماضٍ فيّ حكمك , عدل فيّ قضاؤك , أسألك اللهم بكل اسم هم لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو استأثرت في علم الغيب عندك أو علمته أحداً من خلقك أن تجعل القرآن ربيع قلبي ونور صدري وجلاء حزني وذهاب همي , إلا أذهب الله همه وحزنه وأبدله مكانه فرحاً).
نقلا من خطبة جمعة لفضيلة الشيخ عبد الخالق القرني / تصرف