نبوة النساء[1]:
ذهب بعض العلماء إلى نبوة بعض النساء، مثل مريم بنت عمران، ومنهم من يقول: حواء وسارة وأم موسى وهاجر وآسية.
وممن ذهب إلى ذلك أبو الحسن الأشعري والقرطبي وابن حزم - عليهم رحمة الله[2].
واستدلوا بأدلة، منها:
1- أن الله أخبر في القرآن أنه أوحى إلى أم موسى؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ [القصص: 7].
فقالوا: إن كل من أُوحي إليه بأمر أو نهي أو إعلام فهو نبي.
2- أن الله أرسل جبريل إلى مريم فخاطبها؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا ﴾ [مريم: 17 - 19].
فقالوا: إن كل من جاءه الملَك عن الله بحُكم من أمر أو نهي أو إعلام فهو نبي[3].
3- أن الله اصطفى مريم على العالَمين؛ كما في قوله: ﴿ وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 42].
4- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر بكمال بعضهم؛ كما في حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كمل من الرجال كثيرٌ، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإنَّ فضْل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام)) [4].
قالوا: الذي يبلغ مرتبة الكمال هم الأنبياء.
وقد رد أصحاب هذا القول على الآية التي تحصر الرسالة في الرجال دون النساء؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى ﴾ [يوسف: 109]، وفي قوله: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [النحل: 43].
قالوا: نحن لا نخالف في ذلك؛ فالرسالة للرجال، أما النبوة فلا يشملها النص القرآني، وليس في نبوة النساء تلك المحذورات التي عددتموها فيما لو كان من النساء رسول؛ لأن النبوة قد تكون قاصرة على صاحبها يعمل بها، ولا يحتاج إلى أن يبلغها إلى الآخرين. (5)
وقد ذهب جمهور العلماء - كما نقل ذلك القاضي عياض - إلى عدم القول بنبوة النساء، وهو الراجح، وقد ردوا على أدلتهم بما يلي:
1- أننا لا نسلِّم لهم أن النبي غيرُ مأمور بالتبليغ والتوجيه ومخالطة الناس، والذي اخترناه ألا فرق بين الرسول والنبي في هذا، والفرق واقعٌ في غير هذا الأمر كما سبق الإشارة إليه في ثنايا البحث.
2- أن وحي الله إلى هؤلاء النسوة إلهامٌ، وهذا يقع لغير الأنبياء، كذلك ورد الوحيُ للنحل؛ كما في قوله: ﴿ وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ﴾ [النحل: 68].
ويلزم من قولهم هذا نبوة حواري عيسى عليه السلام، قال - تعالى -: ﴿ وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ ﴾ [المائدة: 111].
وبيان هذا: أن الوحي في القرآن يأتي على أكثرَ من معنى، منها: أن يكون بالإلهام؛ كما في حق أم موسى وغيرها من النساء، وكما في حق الحواريين.
ويأتي بمعنى الإيماء والإشارة؛ كما قال - تعالى - في حق زكريا - عليه السلام - مع قومه: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾[مريم: 11].
3- لا نسلِّم لهم أن كل من خاطبتْه الملائكة فهو نبي؛ ففي الحديث أن اللهَ أرسل ملَكًا لرجل يزور أخًا له في قرية أخرى؛ فعن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((أن رجلاً زار أخًا له في قرية أخرى، فأرصد اللهُ له على مدرجته ملَكًا، فلما أتى عليه، قال: أين تريد؟ قال: أريد أخًا لي في هذه القرية، قال: هل لك عليه من نعمة ترُبُّها؟ قال: لا، غير أني أحببته في الله عز وجل، قال: فإني رسولُ الله إليك بأن اللهَ قد أحبك كما أحببتَه فيه)) [5].
وكما في قصة الأقرع والأبرص والأعمى، وقد جاء جبريل في صورة رجل يسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابةُ يشاهدونه ويسمعونه.
4- أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - توقَّف في نبوة ذي القرنين؛ فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((ما أدري، تُبَّع أنبيًّا كان أم لا؟ وما أدري ذا القرنين أنبيًّا كان أم لا؟ وما أدري الحدود كفَّارات لأهلها أم لا؟)) [7].
مع أن الله أخبر في القرآن بأنه أوحى إليه، قال - تعالى -: ﴿ قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا ﴾ [الكهف: 86].
5- أما عن النصوص الدالة على اصطفاء الله لمريم؛ فالله قد صرح بأنه اصطفى غير الأنبياء؛ كما في قوله - تعالى -: ﴿ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [فاطر: 32]، وكما في قوله - تعالى -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [آل عمران: 33].
ومعلوم أن من آل إبراهيم وآل عمران مَن ليس بنبي جزمًا.
6- أما ما ورد من لفظ الكمال؛ فالمراد بلوغ الكاملات في جميع الفضائل التي للنساء، وليس المراد كمال الأنبياء.
7- ثبت في الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((فاطمةُ سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران))[8].
وهذا يُبطل القول بنبوة من عدا مريم؛ كأم موسى وآسية؛ لأن فاطمة ليست بنبيَّةٍ جزمًا، وقد نص الحديث على أنها أفضل من غيرها، فلو كانت أم موسى وآسية وحواء ثبتت لهن النبوة لَكُنَّ أفضلَ من فاطمة.
الحكمة من كون الرسل رجالاً:
1- أن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة، ومخاطبة الرجال والنساء، ومقابلة الناس في السر والعلانية، والتنقل في فجاج الأرض، ومواجهة المكذبين، ومحاججتهم، ومخاصمتهم، وإعداد الجيوش، وقيادتها، وكل هذا يناسب الرجال دون النساء.
2- الرسالة تقتضي قوامة الرسول على من يتابعه، فهو في أتباعه الآمر الناهي، وهو الحاكم القاضي، وهذا أيضًا مناسب للرجال دون النساء.
أن المرأة يطرأ عليها ما يعطِّلها عن كثير من الوظائف والمهمات؛ كالحيض والنفاس والولادة.
[1]نقلاً من كتاب الرسل والرسالات ( 82 - 88)؛ للأستاذ الدكتور عمر بن سليمان الأشقر - رحمه الله - بتصرف واختصار وزيادة.
[2] انظر: فتح الباري (6/447 - 448، 6/473)، وانظر: لوامع الأنوار البهية (2/266).
[3] فتح الباري (6/447).
[4] متفق عليه؛ البخاري (3769)، ومسلم (2431).
[5] قلت - أبو البراء -: ردًا على الآية : (وما أرسلنا قبلك إلا رجالًا )، قد يقال: إن الرسول والنبي إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا؛ أي: إذا اجتمعا في الموضع افترقا في المعنى، وإذا افترقا في الموضع اجتمعا في المعنى - كما يقال في الإسلام والإيمان - وكما يقال في الفقير والمسكين، والله أعلم.
وهذا رأي الشيخ العثيمين أن كل من ذُكر في القرآن من الأنبياء فهو رسول، ورجح أن الفرق بينهما أن الرسول أُوحي إليه بشرع جديد وأُمِر بتبليغه والعمل به، بينما النبي أوحي إليه بشرع، ولم يُؤمَرْ بتبليغه، وإنما يعمل به في نفسه.
(قلت): وهذا منتقد؛ لأنه ثبت أن الأنبياء كانوا يبلغون الناس؛ كداود وزكريا ويحيى، كما ورد في الحديث: ((كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياءُ، كلما مات نبيٌّ خلَفه نبيٌّ))؛ البخاري (3455)، مسلم (1842)، وقد رجح شيخي العزازي هذا القول في "ماذا يعني انتمائي لأهل السنة والجماعة"؛ أي: إن النبي يأمر أيضًا بالتبليغ، ورجح أن الفرق بينهم هو الوحي بشرع جديد للرسول، أما النبي فيوحى إليه بشرعِ من قبله، وهذا أيضًا فيه نظر؛ لِما ثبت في الآية أن يوسفَ رسول ولم يأت بشرعٍ جديد، ولكن هذا التفريق كذلك مدفوعٌ بقوله - تعالى -: ﴿ وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ ﴾ [غافر: 34]، فيوسف - عليه السلام - نبيٌّ من أنبياء بني إسرائيل، لم يأتِ بشرع جديد، ومع ذلك فهو رسول بمفهوم الآية .
كذا آدم أول الأنبياء ولم يسبقه رسول .
والراجح أن الرسول من أرسل إلى قوم مخالفين في التوحيد أي على الشرك، والنبي من أرسل إلى قوم موافقين له في التوحيد فيذكرهم .
للمزيد راجع الموضوع في هذا الرابط : رابط الموضوع:
[6] مسلم (2567).
[7] الحاكم (104) في المستدرك، والبيهقي (8/329)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (5524)، وأعل بالإرسال ؛ ورجح إرساله البخاري والدارقطني والبيهقي وغيرهم
[8] الحاكم في المستدرك (6837)، وصححه الألباني في صحيح الجامع (796).