"الذكــر والشكــر"
مبنى الدين على قاعدتين: الذكر والشكر، قال تعالى((فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون))( سورة البقرة، الآية: 152.) ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ(1) : "والله إني لأحبك فلا تنس أن تقول دبر كل صلاة : اللهم أعنِّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك" ، وليس المراد بالذكر مجرد ذكر اللسان بل القلبي واللساني، وذكره يتضمن ذكر أسمائه وصفاته وذكر أمره ونهيه وذكره بكلامه ، وذلك يستلزم معرفته والإيمان به وبصفات كماله ونعوت جلاله والثناء عليه بأنواع المدح. وذلك لا يتم إلا بتوحيده. فذكره الحقيقي يستلزم ذلك كله ويستلزم ذكر نعمه وآلائه وإحسانه إلى خلقه.
وأما الشكر فهو القيام له بطاعته والتقرب إليه بأنواع محابه ظاهرا وباطنا، وهذان الأمران هما جماع الدين، فذكره مستلزم لمعرفته، وشكره متضمن لطاعته، وهذان هما الغاية التي خلق لأجلها الجن والإنس والسموات والأرض ووضع لأجلها الثواب والعقاب ، وأنزل الكتب وأرسل الرسل ، وهي الحق الذي به خلقت السموات والأرض وما بينهما وضدها هو الباطل والعبث الذي يتعالى ويتقدس عنه، وهو ظن أعدائه به قال تعالى ((وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا))( سورة: ص الآية رقم :27.) ،وقال : ((وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق))( الدخان: الآية رقم :38.). وقال : ((وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وإن الساعة لآتية))( سورة الحجر : الآية رقم :85.) ، قال بعد ذكر آياته في أول سورة يونس : (( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ))( يونس : الآية رقم :5.). وقال : ((أيحسب الإنسان أن يترك سدى))( القيامة : الآية رقم :36.) ، وقال : ((أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا وأنكم إلينا لا ترجعون))( المؤمنون : الآية رقم :115.) ، وقال: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون))( الذارايات : الآية رقم :56.). ((الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما))( الطلاق : الآية رقم :12.) ،وقال : ((جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس والشهر الحرام والهدي والقلائد ذلك لتعلموا أن الله يعلم ما في السموات وما في الأرض وأن الله بكل شيء عليم))( سورة المائدة : الآية رقم :97). فثبت بما ذكر أن غاية الخلق والأمر أن يذكر وأن يشكر . يذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر . وهو سبحانه ذاكر لمن ذكره، شاكر لمن شكره، فذكره سبب لذكره، وشكره سبب لزيادته من فضله(2). فالذكر للقلب واللسان ، والشكر للقلب محبة وإنابة ، وللسان ثناء وحمد، وللجوارح طاعة وخدمة.
من كتاب ــ الفوائد ــ " لابن قيم الجوزية "