بسم الله الرحمن الرحيم
أحمد الحسني
كثير من الناس قد لا يستوعب ما يجري في شمال مالي (منطقة آزَوَاد) بل وقد لا يعرف الكثير عن المنطقة وهي منطقة تستحق الاهتمام, باعتبارها من الأقاليم الإسلامية ذات الأهمية قديما وحديثا، وفي هذا المقال لايسعنا تسليط الأضواء على كل ما يجري هنالك.
لكن الذي يهمنا هاهنا لفت الانتباه إلى منطقة "آزواد" من منظور واقعها الديني ـ لا غير ـ وما يتطلبه من نظرة لمستقبل السنة ودعاتها هنالك.
إن هذه المنطقة بما احتوت عليها من ولايات ثلاث: ( تنبكت، غاو، كيدال ) وما تضم الثلاث من مكونات شعبية هي (الطوارق ،العرب، السنغاي، الفلان) لم تعرف في واقعها
ولا في تاريخها منذ بزوغ فجر الإسلام ديانة غير الإسلام، ولم تَنقَد لغيره ـ إجمالا ـ منذ نالت شرف الإيمان بالله وبنبيه (صلى الله عليه وسلم) في القرن الأول .
وإذ نتحدث عن واقعها الديني المديد فلابد من وضع إطار زمني يكون مدار الحديث هنا،وليكن انطلاقا من زمن الاستعمار الذي يحدد بعض مؤرخي المنطقة بدايات إرهاصاته
بتاريخ (1894)م
ـ الواقع الديني في المنطقة عهد الاستعمار:
جاء الاستعمار الفرنسي إلى المنطقة،وكان التوجه الديني الذي يأخذ بناصيتها هو "التوجه الصوفي " وكان للتغلغل الانتمائي لهذا التيار في المجتمع أثر بالغ على المنطقة بما يحمله من قيم الزهد والتقشف ،وما لا يخلو منه من الخرافة، وهذا التوجه لم ينحبس نفََسُه مترددا في صدره إزاء رجة الاستعمار ومحاولاته الأولى لبسط هيمنته على
المنطقة،بل أبى حسه الديني إلا أن يكون مواجها ـ بقدر ميسوره ـ للاستعمار، الأمر الذي اقتضى من بعض رجاله الصراخ بالدعوة إلى الجهاد حين وفود الاستعمار.
على أنه لم يتفق أهله على المواجهة المسلحة للمستعمر، بل كان لبعضهم رؤية فقهية لها حجمها وفاعليتها تتمثل في الابتعاد عن المجابهة ؛لفقد كثير من الشروط، فكان ميل فئة
غير قليلة من الفقهاء إلى مصالحة المستعمر،حقنا للدماء، وبحجة أن التكليف يدور مع الوسع, وقد كتبوا في ذلك رسائل بينوا فيها وجهة نظرهم ولم تزل موجودة.
وهناك فئة ثالثة من أهل العلم كانت رؤيتها "الدعوة إلى الهجرة نحو بلاد الحرمين" حيث العقيدة الصافية والأمن والطمأنينة ـ ويأتي الحديث عنهاـ ومن هنا فسيكون حديثنا
باعتباره صورة أو ُمعرِفا لواقع ديني ما, لا يخلو من محورين أساسيين:
المحور الأول: حول التنصير:
قبل أن نبتعد ذهنيا عن الاستعمار وأثره ومخلفاته على المنطقة، وقبل أن ندخل في الواقع الديني المنتمي للإسلام ـ على اختلاف توجهاته وتفاوت بينها في صحة الانتماء إليه عقيدة ومنهجا ـ لابد لنا من وقفة قليلة نذكر فيها أن الاستعمار الذي رحل عن المنطقة عند استقلال جمهورية مالي عام (1960)هـ لم يرحل بكل ثقله وأذياله، بل ترك في
المنطقة أطماعا واسعة في تنصيرها، والتي لا يعرف حملَتُها مللا ولا كسلا في تبليغ دعوتهم بشتى الأساليب، كان منها:
1ـ تجربة الزج بأبناء الناس ـ على كره منهم ـ في المدارس الفرنسية، الأمر الذي تنبه شيوخ المنطقة لخطره على المستقبل الديني لأبنائهم، فأخذوا يبتعدون بهم ويختفون وراء كومات البراري وأغطية من ألفاف الأشجار، يبتهلون إلى الله أن يصرفهم ويصرف عنهم التعليم الفرنسي، ما كان له أيضا مع مرور الزمن أثر آخر في تأخر لحوقهم بالركب الثقافي سياسيا، إذ لغة الدولة الرسمية هي: " الفرنسية" والتي تتعلم على مقاعد الدراسة التي كانوا بأبنائهم في معزل عنها.
2ـ بالإضافة إلى استغلال الجمعيات التنصيرية لسنوات عجاف من القحط والجدب، انحسر فيها النبات عن أديم "منطقة آزواد" ومن أشدها نكاية بأهلها عام (1973- 1985)م حيث نفقت الثروة الحيوانية التي كانت بغلاتها هي قوام حياة كثير من أهل المنطقة، ومن ثم زحفت على المنطقة غارة جديدة لا تقل خطرا عن غارة الاستعمار،تتمثل
في جمعيات وإرساليات تنصيرية وبعثات إغاثية، تقدم كسرة خبز وحقنة دواء كوسيلة للاتصال أولا، ثم تنتهي أخيرا إلى محاولة الوصول إلى هدفها، بل قامت ببناء بعض الكنائس في المنطقة،إلا أنها لم يطل عمر بعضها؛ لما تلقته من رفض شعبي علني، أدى إلى إخفاقها الواضح ـ والحمد لله ـ في سبيل الوصول إلى أهدافها.
ومع ما منيت به هذه الدعوات التنصيرية من رفض وفشل في كثير من مخططاتها تجاه منطقة "آزواد" إلا أنها هي أيضا لم ينقطع أملها، بل تخطو خطواتها وبتعثرات متتالية، بيد أنه مع هذا العِثار المتكرر لا يأمن المطلع على جلية الأمر أن سينال هذا التعثر يوما من الأيام قدرا من الاسترسال نحو الأمام إن لم يوقفه عمق الإيمان وعلو صوت الحق
الذي يعلو ولا يعلى ،كما حالا دون تغلغله في السابق.
ولئن كانت لم تفلح البعثات التنصيرية في بسط التنصير في المنطقة ولا في هيمنة التعليم الفرنسي، فقد كان من تم اختطافه أو اغتصابه من الصغار لصالح التعليم الفرنسي ـ سواء في الداخل أو الخارج زمن الاستعمار ـ نواة عادت إلى المنطقة تحمل حزمة من الأفكار "العلمانية" و"الليبرالية" التحررية والتي تهدف إلى اكتساح المحافظة الدينية بأي
شكل تشكلت،وهي أيضا إلى تقدم نحو الأمام بعامل مزيد من الاحتكاك بالثقافة الأجنبية أكثر فأكثر، ما يستدعي التنبه لخطرها على المد السني بوجه أخص، وعلى رسالة الإسلام بوجه أعم.