بقلم: صلاح عبد العزيز



الموضوع: الحجز القسري في مطار القاهرة


تحية طيبة و بعد
بسم الله الرحمن الرحيم ( أُدخلوا مصر إن شاء الله آمنين )


بهذه الآية الكريمة المباركة يستفتح المسافرون عند وصولهم القاعة الكُبرى المُرصعة بالرخام الأبيض الدالِ على السلام و الأمان لكل من دخل مصر بتأشيرة دخول رسمية - فهي عقد أمان بين الطرف المتقدم و الآخر المانح.


فبعد مُضي ثلاثة اشهر تشرفت بالحصول على تأشيرة دخول لجمهورية مصر العربية و ذلك من خلال القنصلية العامة في مدينة جنيف السويسرية؛ و لأنني حاصل على حق اللجوء السياسي في سويسرا منذ عام 1997 ميلادية، فقد تقدمت بإظهار وثيقة السفر الدولية السويسرية المبنية على اتفاقية جنيف الدولية لعام – 1951.


شملت التأشيرة زوجتي و أبنائي الخمسة و الذين كانوا في صُحبتي عند وصولنا مطار القاهرة و ذلك مساء يوم الأحد الحادي عشر من شهر يوليو – 2004. و بعد ختم وثائق السفر.. تم السماح لأفراد عائلتي بالدخول، و طُلب مني التنحي جانباً ريثما يتم التحقق من إشارة جهاز الحاسوب و الذي أظهر على التو أن هذا الاسم متضمن في قائمة المطلوبين؟! طلب مني ضابط الجوازات بكل أدب أن أصحبه إلى ممر جانبي و منه إلى قسم آخر لا يتم للواقع بصلة ، فقد تغيرت ملامح الأشياء، و قُلب لي رأس المِجَن‘ فمن مسافر برئ .. إلى موقوف متهم! و من بسمات الاستقبال العريضة.. إلى نظرات يتطاير منها الشرر!! ماذا جرى في الأمر؟ ما الذي اقترفته يداي حتى أُساق إلى دهاليز التحقيق.. هل أخطأت قدماي الطريق؟! لا.. بل إنني متيقن و أنا بكامل قُوايَ باني لازلت موجوداً في صالة مطار القاهرة الدولي، فلطالما قمت برحلات دولية من مطار بنغازي الدولي إلى مطار القاهرة عندما كنت أعمل طياراً بشركة الخطوط الجوية العربية الليبية.. و لكن لماذا تغير كُل شيء بُعيد خُطوات بسيطة من المشهد العام.. أُجلست ساعة من الزمان ما ادري ما يُفعل بي.. قال لي مسافر سوداني أنه ينتظر منذ أربع ساعات و لمَا يستلم جواز سفره بعد.. قلت في نفسي مسكين هذا المواطن العربي.. متهم و مُدان حتى تثبت براءته .أُدخلت مكتباً للتحقيق به ضابطان هذا يسأل والآخر يحصي عليك أنفاسك و يرسم قسمات وجهك و ردود أفعالك لعله يكتشف بذكائه الخارق جهازاً يستطيع من خلاله قراءة حديث نفسك و خلجاتها، عله يطير إلى الباشا الكبير لكي يُقدم له قُرباتاً فيكون له زُلفى.. كانت الأسئلة تدور حول ورود اسمي ضمن قائمة المطلوبين من قِبل النظام الليبي.. ومما صعَد وتيرة التحقيقات وُصول القائد الهُمام ، عدو الأمس، صديق اليوم العقيد القذافي إلى مطار القاهرة الدُولي في زيارة لمُعايدة الرئيس محمد حسني مبارك . فقد وَجًه إلَيً ضابط التحقيق هذا السؤال و بكل طرافة: هل تحب أن ترجع مع القذافي إلى ليبيا؟! في إشارة منه إلى احتمال أن أُسلم للسلطات الليبية؛ و لعلم المخابرات المصرية أني أحمل و وثيقة سفر لاجئ سياسي.. أرادت أن تفتح مُلابسات هذا الملف و الذي اعتبرته أنا شأناً ليبياً يخُصني و لا داعي لأن تُحرجني مخابرات دولة مستضيفة في فتحه ؛ خاصة أنه لا يمس من قريب و لا بعيد أمنها الداخلي أو كما يُصطلح عليه في مصر ( قضية أمن دولة ) و لما تيقن ضابط التحقيق أنني لن أفتح ملفي السياسي معهم و لن أدلي لهم بما ليس من حقهم، جاء الأمر بالتوقيف و المنع من الدخول، و عندما انتصف الليل كان أولادي ينتظرون مندهشين.. فقد عاشوا في سويسرا حيث كل موقف لا بد له من تفسير و استيضاح..ماذا حدث لأبينا؟! أين هو الآن و لماذا أوقفوه!!و لكن من يجيب.. فما من مجيب؛ حتى مقاعد الجلوس التي اعتادوها في كل مكان في سويسرا لم يجدوا منها مقعداَ واحداَ طوال الفترة الكئيبة و الصدمة المريرة و التي استهلوا بها رحلتهم الصيفية. قدمت لأحد الحراس مبلغاَ من المال حتى يسمح لي بالتحدث مع زوجتي ؛و فعلاً استجاب على الفور؛ و استطعت إقناع أفراد العائلة بالتوجه إلى الإسكندرية حيث أخي و خالي في الانتظار. و عدت أدراجي حيث الاعتقال مع أربعين أو يزيدون من كل فج عميق ليشهدوا هامان و قارون و فرعون و قد عادوا يرفلون في ثياب و حُلل جديدة ؛ و لكن هذه المرة باسم الباشا و البيه. و في تلكم الأثناء بدأت الاتصالات الهاتفية ببعض الأحرار من سويسرا علني أجد ظهراً يحميني حتى و إن كانت منظمات دولية لا تمت للعروبة بصلة.. و يبدوا أن التدخل الدولي قد أثار حفيظة الباشا الكبير و المدعو ( الباشا عابد ) حيث أمر في الليلة الثانية و قد أخذ الناس مضاجعهم أن أُساق إليه مغمض العينين ، و للمرة الأولى في حياتي تُوجه إلي عبارات نابية أنزه عين القارئ عنها لأنها لا تُوجد إلا في قاموس العيب.. و أخذ الباشا يتوعدني و يهددني و يحذرني بأنني أمام أقوى جهاز مخابرات في المنطقة كلِها.. و لم أكتشف بأني كنت ضمن مجموعة من الليبيين جاءوا ليقوموا بأعمال تفجيرية و تخريبية إلا على لسان الباشا الملهم!!؟؟ فبادرته بقولي يااستاذ: هل يقبل المنطق الصحيح أن يزور إنسان بلداً بصحبة عائلته و يدخل من أوسع أبواب مطاراتها حاملاً تأشيرة دخول رسمية في وضح النهار، و قد بيت في نيته أمراً يتنافى مع كل ما تقدم؟! وهنا ابتدرني آخر عن يمين الباشا و بكل حنوِ و أدب جَم: يا أستاذ ( الباشا عاوز يساعدك و كلمته ما تنزلش الأرض ) الباشا لن يسلمك إلى النظام الليبي.. بس أنت جاوب عن الأسئلة الآتية: إيه مفهومك عن الجهاد.. الحاكمية.. هل ممكن تبعث ابنك يجاهد في العراق مثلا؟ كانت إجابتي بأن هذه الأسئلة حرِيُ أن تُوجه إلى مشيخة الأزهر الشريف عندكم و ليس لإنسان معصوب العينين مثلي و في حالة لا أستطيع معها التركيز فضلاً عن أن يكون لي خُلاصات أجوبة لمثل تلكم أسئلة. استمر التحقيق ساعتين و السؤال الوحيد الذي غاب عنهم في فتح الملف الشخصي هو : ما هو حديث النفس طوال فترة حياتك؟


رجعت إلى حجرة التوقيف و أزالوا عن وجهي الغطاء بعد أن كاد راسي أن ينفجر من شدة احتباس الدم.. طلبت كوباً من الماء لأخذ بعض المُسكنات و رفعت يدي لرب السماوات أن يلطف بحال أُمتي التي أوصلها ظلم أبنائها إلى ما لا يخفى على ذي لًب.


حالة سجن التوقيف في المطار:
لا أُبالغ إن قلت بأنه أقذر مكان وقعت عليه عيناي، فلقد تقززت فيه من كُل شيء، و اللبيب بالإشارة يفهم ، و لقد كانت لي فرصة أن أسال بعض الموقوفين عن حالهم و أسباب اعتقالهم ، و شر البلية ما يُضحك كما يُقال ، و لا يتسع المجال فسوف اكتفي بالقليل الدال على واقع الحال.

لم يغب هناك العنصر النسائي فقد كان حاضراَ أيضاً فلهن حجرة بها أَسِرةُ ثمانية، و للرجال حظهن مرتين؛ و لكن لم تكن تلكم الأسِرة لتكفي؛ فكانت الأرض الطيبة لي فِراشاً ، و سقف الممر لحافاً.. و إذا بجموع من الصراصير تجوب المكان بصورة لم أر لها من قبل مثيلاً.. اختلفت الأحوال كليةً عمًا هي عليه في صالة الاستقبال الخارجية؛ فأصبح الأبيض اسوداً ، و ما كان يُعبر عن النظافة و الطهارة و النظام ؛ أخذ محله مفهوم المخالفة و لكن باستحكام رهيب.. إلهي ماذا جرى للأنام.. هذا يتضور جُوعاً لأنه لم يعط ما يكفيه من الطعام.. و ذاك لا يأتيه المنام لِما ينتظره من أهوال جٍسام سبقه إليها من شاركوه الآلام.. الكُل هنا مأخوذ بالظُنة.. فعند سجن العباسية الخبر اليقين .. فإليه بُكرة بالكِليبشات يسحبون.. فقد توسل إليَ أحدهم أن أعطيَه جهاز الهاتف المحمول؛ كي يتسنى له الاتصال بأهله في القاهرة حتى يبحثوا له عن واسطة و محامِ؛ و إلا كما تلفظ هو ( سيروح في داهية ) فسألته: وما أدراك ما الداهية؟! أجابني.. سجن العباسية. طبيب آخر معتقل.. ما جريرتك؟ قال:اتهام بتزوير تأشيرة دخول للسعودية . طلبة أتراك يدرسون الشريعة في الأزهر الشريف.. ما خطبكما؟ قالا: كنا في استقبال زميلِ لنا في صالة المطار؛ و لأننا غير مسافرَين، لم نكن نحمل جوازات سفر؛ و إذا بنا نُرغم على دخول هذا المكان.. و عندما أحضر صاحبهم لهم الجوازات في اليوم التالي فرحت جداَ و لكن تبددت الفرحة عندما رايتهم يُساقوا بالقيود مع آخرين إلى السجن,, آخر جاء من النمسا بجواز سفر بدل فاقد، فقيل له : أين الفاقد؟! فقال سبحان الله ! عن أي فاقد تسألون!! مُسافر يمني متوجه من مطار صنعاء إلى مطار الحُدَيدة في رحلة داخلية؛ و لدقة النظام.. اختلطت الأوراق فوجد نفسه في مطار القاهرة الدولي فقيل له أين الجواز؟ و بدل من أن يُرحل في أقرب رحلة إلى صنعاء ؛ كان واجب الضيافة يُحتم التوقيف ريثما تتدخل السلطات المعنية..أنهي نقل الصورة بمقارنة أجريها بين ما وجدته في مطار جنيف بسويسرا عام 1997 ميلادية و ذلك عندما وجدت نفسي مضطراً لتقديم اللجوء السياسي؛ خاصة و أن الدول العربية أقفلت أبوابها أمام ما يُسموا بالمُعارضين السياسيين .


أولاً: أخذ الأقوال و الادعاءات على مستوى راقي من التعامل البشري فلا يشعُر الإنسان بأنه مًتهم بالكذب و التزوير؛ و العكس تماماً كان عند بني جلدتنا.


الطعام في مطار جنيف متوفر في مطعم يؤمه كثير من الناس على اختلاف طبقاتهم، و القائمون على الخدمة لا تنفك البسمة من مُحياهم، أما في عنبر التوقيف القسري في مطار القاهرة؛ فقد ظللت بلا طعام من أول التوقيف حتى ثاني يوم عند الساعة الخامسة مساءً و جيء بالخبز و الجبُن الأبيض؛ و أخذت فتاة افريقية تشير عليه و تستغيث بأنها مهدودة من شدة الجوع ، و العسكري يأمر الخادم بألا يعطي لأحد شيئاً في الوقت الذي يكرم هو زملائه العسكر من طعام المساكين.. إهانة للإنسان في بلد الحضارات .. مصر.. مصر التي حفظت للدنيا الأمن الغذائي عندما كان يوسف الصديق يوزع الطعام على من دخلها آمناً.. ما بالها .. نريد أن تبقى سُمعة البلد الطيب الذي أوصى به خاتم الرسل خيراً.. أن تبقى متألقة أمام الدنيا على الدوام .


نهاية المأساة: عند ظهيرة يوم الثلاثاء الثالث عشر من يوليو تكللت جهود الأحرار و الذين ساهموا بدور فعال بالضغط على الحكومة المصرية بألا تُقدم على جريمة التسليم للنظام الليبي كعادتها، أُدخلت على ضابطين في مكتب خارج الحجز و هنا بدأت المعاملة تتغير بقدرة قادر ، فالابتسامات بدأت تظهر على الوجوه ، و العبارات اللطيفة : يا أستاذ صلاح إحنا يهمنا راحة سيادتك، هو حضرتك عاوز تسافر سويسرا النهارده و لا بُكرا !!! الأستاذ أحمد محسن ممثل المفوضية العليا لحقوق اللاجئين (UNHCR) يريد أن يقابل حضرتك؛ و قدم الأخ نفسه و اخذ يُطمئنني بأنني لن يتم تسليمي للنظام الليبي وأنني سوف أستقل أول طائرة متجهة إلى سويسرا. و تذكرت المثل المصري الذي كنا نسمعه من خلال الإعلام المصري ( ناس تخاف و متختشيش )


تحية و إجلال لكل من ساهم في انفراج الأزمة : و لا يشكر الله من لا يشكر الناس

صلاح عبد العزيز
جنيف – سويسرا - ‏01‏/11‏/2004



salahimami@************
undefinedundefined