<div align="center">
°>°<° وقفةُ إكبار " هذيانُ قلمٍ محموم!! " °>°<°
" من أضلعِ الشعرِ من وحي الصباباتِ
و من توقّدهِ ، من رعشةِ الذّاتِ
نفثتَ سحركَ في أشلاءِ ليلتهِ
فأُضرمَ الوجدُ في قلبِ العشيّاتِ " ( 1 )
قد يتساءل القاريء ... " لمن تكون هذه الوقفة ؟؟ "
و من هو ذاك الذي يستحقّ الإكبار و التقدير ....
ذاك هو النازف العازف ... الذي يقول ...
" جريح الإبا صامت لايعي...... وفي صمته ضجة الأضلع
وفي صدره ندم جائع...... يلوك الحنايا ولم يشبع
تهدده صيحة الذكريا...... ت كما هدد الشيخ صوت النعي
ويقذفه شبح مفزع...... إلى شبح موحش مفزع "
هذا مطلعُ قصيدةٍ واحدةٍ من قصائده النازفةِ وهي .... " أثيم الهوى " ..
تأمل - أيها القاريء - البيت الأول ..
و انظر إلى قوله .... جريح الإبا .. طبعاً حُذفتْ الهمزة للتخفيف و هذا جائز في الشعر ..
و أصل الكلمة هو " جريحُ الإباءِ " ..
هو يتكلم في هذه القصيدة عن ذاك الذي غرّه بريق المعصية فركض خلفها حتّى ارتكبها ..
ثم بدأت الحرقة تشتعل في نفسه ..
وصفه بأنه " جريحُ الإباء " ... وقد صدق ..
فالعاصي لا يجرح إلا كبرياءه بوقوعه في المعصية ...
و انظر إلى قوله .. " صامتٌ لا يعي " ..
أرأيتَ عاصياً بعد ارتكابه للمعصيةِ و قد بدأ لهيب المعصية يتضرّم في نفسه ؟
هو صامتٌ كما أخبر عنه شاعرنا ..
صامتٌ من حرقتهِ .. صامتٌ من سوءِ ما ارتكبه ..
لا يعي .. قد أشغله مابه عمّا حوله .. فهو لا يعي
ثم يقول " وفي صمته ضجة الأضلع "
و انظر إلى فنّه في جمعِ الضدّين .. و كم قيل " و الضد يُظهرُ حسنهُ الضدُّ "
هو قد جمع الصمت مع الضجيج .. و هو وصفٌ دقيق .. حيث هو صامت لكنه يخفي في دواخله مالله به عليم ...
لله هو هذا الشاعر .. و لله إبداعه و تصويره ..
ثم يسردُ لنا تفاصيلَ شجنهِ فيقول ..
" وفي صدره ندم جائع...... يلوك الحنايا ولم يشبع "
أرأيت - أيها القاريء - أقسى من ندمٍ جائع ؟
لم يكتفِ بقوله ندم .. و إنما أضافَ إليه جائع .. و كأنه يريدُ أن يبيّن لنا بذلك قسوة ذلك الندم الذي يعربد في صدرِ ذلك المسكين ...
" يلوك الحنايا ولم يشبع "
يلوكُ ؟؟؟
كان يستطيع أن يقول .. يعضّ أو يأكل أو غيره من الألفاظ التي تُعطي نفس المعنى ..
لكن لماذا اختار هذه الكلمة بالذات ؟؟
يقول صاحب المعجم الوسيط .. " لاك اللقمة .. مضغها أهون المضغ "
و هل يكون الألم إلا بالتعذيب البطيء ؟؟
و لذا اختار صاحبنا يلوك .. أي يمضغ الحنايا ببطء .. و هو على ذلك لا يشبع أي أنه ندمٌ دائم !!
فياله من ألم .. و يالها من حسرةٍ لا تكاد تنفكُّ عن صاحبها
ثم يقول بعد ذلك ..
" تهدده صيحة الذكريا...... ت كما هدد الشيخ صوت النعي "
هنا .. توقف للحظات ..
و طُفْ بخيالكَ في منظرٍ نراه دائماً ..
هل سبق لك أخي الكريم أن رأيتَ شيخاً كبيراً يصلهُ خبر وفاةِ أحد معارفه أو أصحابه ..
هل رأيت خوفه أن يكون هو الفريسة التالية للموت ؟
هذا هو ما أراده صاحبنا ..
شبّه ذاك العاصي عندما يتذكّر فعلته السوداء بذلك الشيخ الذي يصله النعي .. و النعي هو خبر الموت
تهدده ذكرياته ...
و تهدده أيّامه الحمراء و السوداء ..
تماماً .. كما يهدد الشيخ خبر الموت ..
أرأيت تشبيهاً أروع و أقسى من هذا ؟؟؟
ثم يقول ..
" ويقذفه شبح مفزع...... إلى شبح موحش مفزع "
تتقاذفه ذكرياته التي استحالت أشباحاً مفزعةً ينفر منها ..
كل هذا الوصف و الألم و الندم جمعه صاحبنا في أربعةِ أبياتٍ فقط ...
ألا يعدُّ هذا إبداعاً ؟؟؟؟
بل هو قلب الإبداع و لبّه ..
هنا أيها القاريء الكريم ...
أعرفتَ صاحبنا .. من يكون ..
قبل أن أُخبرك بشخصيته ..
إقرأ ما كتبه النقّادُ عنه ...
" هو بحقٍّ يُعدُّ صوتاً شعرياً مميّزاً بين شعراء اليمن الكبار " ( 2 )
و يُكمل نفس الناقد ليقول ..
" و ميزته الإبداعيّة هي حساسيته العالية تجاه التفاصيل و الألوان و كشفه العميق لحركة الحياة من حوله " ( 3 )
و هذا ما رأيناه في مطلعه السابق .. أليسَ كذلك ؟؟
ذاك هو من يستحقّ الإكبار .....
البردّوني ..
الشاعر اليمني ..
و أترككم مع قصيدته ..
طائرُ الربيع ...
و التي سأضعها بدون الوقفات .. لأنّي أعلم بإطالتي .. و لذا سأعفيكم منها هنا ..
يا شاعر الأزهار والأغصان.......هل أنت ملتهب الحشا أو هاني
ماذا تغني، من تناجي في الغنا.......ولمن تبوح بكامن الوجدان؟
هذا نشيدك يستفيض صبابة.......حرى كأشواق المحب العاني
في صوتك الرقراق فن مترف.......لكن وراء الصوت فن ثاني
كم ترسل الألحان بيضاً إنما.......خلف اللحون البيض دمع قاني
هل أنت تبكي أم تغرد في الربا.......أم في بكاك معازف وأغاني
***
يا طائر الإنشاد ما تشدو ومن.......أوحى إليك عرائس الألحان
أبداً تغني للأزاهر والسنا.......وتحاور الأنسام في الأفنان
وتظل تبتكر الغنا وتزفه.......من جو بستان إلى بستان
وتذوب في عرش الجمال قصائداً.......خرساً وتستوحي الجمال معاني
لا الحزن ينسيك النشيد ولا الهنا.......بوركت يا بن الفن من فنان
***
يا بن الرياض - وأنت أبلغ منشد -.......غرد وخل الصمت للإنسان
واهتف كما تهوى ففنك كله.......حب وإيمان وعن إيمان
دنياك يا طير الربيع صحيفة.......ذهبية الأشكال والألوان
وخميلة خرسا يترجم صمتها.......عطر الزهور إلى النسيم الواني
والزهر حولك في الغصون كأنه.......شعر الحياة مبعثر الأوزان
والعشب يرتجل الزهور حوالماً.......ويرف بالظل الوديع الحاني
وطفولة الأغصان راقصة الصبا.......فرحاً ودنياها صباً وأماني
والحب يشدو في شفاه الزهر في.......لغة الطيور وفي فم الغدران
والورد يدمى بالغرام كأنه.......من حرقة الذكرى قلوب غواني
***
يا طائر الإلهام ما أسماك عن.......لهو الورى وعن الحطام الفاني
تحيا كما تهوى الحياة مغرداً.......مترفعاً عن شهوة الأبدان
لم تستكن للصمت ؛ لم تذعن له.......بل أنت فوق الصمت والإذعان
هذي الطبيعة أنت شاعر حسنها.......تروي معانيها بسحر بيان
ترجمت أسرار الطبيعة نغمة.......أبدية في صوتك الرنان
وعزفت فلسفة الربيع قصيدة.......خضرا من الأزهار والريحان
***
هذا ربيع الحب يملي شعره.......فتناً معطرة على الأكوان
يصبو ودنيا الحب في أفيائه.......تصبو على إشراقه الفتان
الفن فنك يا ربيع الحب يا.......سحر الوجود وفتنة الأزمان
تحيّاتي العابقة ..
محدّثكم النرجسيّ
....................
( 1 ) أبياتٌ لمحدّثكم النرجسيّ
( 2 ) الصورة الشعرية عند البردّوني ، منشورات اتحاد الكتّاب العرب ، ص 15
( 3 ) نفس المرجع السابق .. ص 87 .. 88</div>