بقلم
مُحمد بن أحمد بن مُحمد الحريري
عضو هيئة التدريس بقسم الدراسات الإسلامية
بجامعة الملك عبد العزيز
عفا الله عنه وعن والديه
تقديم فضيلة شيخنا صالح بن عبد الله العصيمي
غفر الله له ولوالديه
بسم الله الرحمن الرحيم
إن رابطة القرابة أو الصُّحبة لا يُحَلُّ عقدها بمثل الموت؛ فهو مُفرِّق الجماعات، ومبيد اللَّذات، ولا لوعةَ تحرق الحشا ألذع من فقد قريب، وفراق حبيب، وكيف لا تتجرع النفس غصَّة الألم، ويثقل عليها المصاب؛ وقد زال خيال، وأفل نجم، واستتر قمر، وغربت شمس.
افترقت الأبدان، وانطوت صفحات زمان، ولم يبق إلا كان وكان.
كم مرة كنت تُناديه باسمه، وتبادِله الأُنس، في وقائع مختلفة، بأرواح مؤتلفة، اجتمعت ولم تذق طعم فراق، وتعلَّقت وظنت دوام الاتفاق!
حتى إذا ورد وارد الموت، وجاءت سكرته بالحق، وأيقن المرء أنه مرتحل عن الدنيا، أظلته سحابة الفراق، وأمطر وابلها فغمر ما له من قرابةٍ وأحباب، فذهب الميت في سيلها الجارف، مخلِّفاً وراءه من أحب، وبقي صحابته الأحباب من بعده وبهم حزنٌ وترحٌ من أثرها.
ولو كان أحدٌ يقدر على دفع الآلام، أو الفرار منها لاستفرغ المرء قوته في ذلك، ولكن حقَّ قول ربي: ﴿كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ﴾ [الرحمن26].
ولا محيدَ لمن رام النَّجاة؛ من سلوك السَّبيل الشَّرعيَّة، والطَّريقة المرضيَّة في مقابلة مصيبة الموت.
ورغبةً في إبانتها، وسعياً في إيضاحها قيَّد صاحبنا الشيخ محمد بن أحمد الحريري هذه الإفادة؛ نفثةَ مصدورٍ، ولفحةَ مكدورٍ، لمست أثرها إبَّان جريان قلم القدر عليه بوفاة طائفةٍ من أهله متتابعين، ثم إبَّان إجرائه قلم الشريعة بما يحسن بالمصابين، فجاءت إفادةً نافعةً مناسبةً للمقام، صالحةً لإشاعتها فيما يُشاكِل هذه الحال؛ عند وفاة حبيبٍ أو قريب.
نفعه الله بما كتب ونفع المسلمين، ووفقني وإياه لاتباع سبيل المؤمنين.
بسم الله الرحمن الرحيم
من محمد بن أحمد بن محمد الحريري
إِلى مَنْ شَارَكَهُ في فَقْدِ قَرِيبٍ أَو حَبِيب()،،،
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
فإنه لا يخفى عليكم ما فُجِعنا به في الأيام الماضية؛ من فقدٍ لأحبةٍ لنا، بعد أن أحببناهم وأحبونا، وجالسناهم وجالسونا، فـ(لله ما أَخَذَ ولهُ ما أعطى، وكلُّ شيءٍ عندهُ بأجلٍ مُسَمَّى)()، (تَدْمَعُ العَينُ وَيحزَنُ القلبُ، ولا نقولُ إلاَّ ما يُرضي رَبَّنَا)()، فإنَّا للهِ وإنَّا إليهِ راجعُون.
لذلك أحببتُ أن أُذكِّرَ نفسي وإياكم في هذه العُجالة ببعضِ الوقفاتِ من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
الوقفة الأولى: أوصيكم ونفسي بالصبر؛ فالله جلَّ وعلا يقول: ﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [الزمر10]، وقال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ﴾ [محمد31].
وقال ﷺ: (عجباً لأمر المؤمن إنَّ أَمرَه كُلَّه خيرٌ له، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن؛ إن أصابَتْه سَرَّاءُ شَكَرَ فكان خيراً له، وإن أصابَتْه ضَرَّاءُ صَبَرَ فكان خيراً له)().
وقال ﷺ: (يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمنِ عندي جزاءٌ إذا قبضتُ صَفِيَّهُ من أهلِ الدُّنيا ثم احتسَبَه إلا الجَنَّة)().
وقوله: (صَفِيَّهُ) أي: حبيبهُ؛ كالولد والأخ، وكل من يحبه الإنسان.
وفي الحديث: (...والصلاةُ نور، والصدقةُ برهانٌ، والصبرُ ضياءٌ)().
(ومن يتصَبَّرْ يُصَبِّرْه اللهُ، وما أُعطي أحدٌ عطاءً خيراً وأوسعَ من الصبر)().
قيل لابن عمر رضي الله عنهما: "إن أسماء بنت أبي بكر في ناحية المسجد ـ وذلك حين صُلب ابنُها عبد الله بن الزبير ـ فذهب إليها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإنما الأرواح عند الله فاتقي الله واصبري".
وجاء رجلٌ إلى صِلَةَ بن أَشْيَم يخبره بوفاة أخيه، فقال صلةُ للرجل: ادْنُ فكل فقد نُعيَ إليَّ أخي منذ حين قال تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ﴾ [الزمر30].
إن كنـت تـعـلمُ مـا تأتـي وما تـذرُ فكن على حذرٍ قد ينفعُ الحذرُ
واصبر على القدر المحتوم وارضَ به وإن أتـاك بـما لا تشتهي القدرُ
فـمـا صفـا لامرئٍ عـَيـشٌ يُسَرُّ بـه إلا سيـتبـع يـوماً صَفْوَهُ كـدرُ
فلنصبر على أمر الله رضاً بما عند الله، ولنتذكَّر فجيعة الأُمة بفقد رسولها ﷺ، عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله ﷺ قال: (يا أيها الناس! أيما أحد من الناس ـ أو من المؤمنين ـ أصيبَ بمُصيبة فَلْيتعَزَّ بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإنَّ أحداً من أمتي لن يُصابَ بمصيبةٍ بعدي أشد عليه من مصيبتي)().
وما فَقَدَ الماضُونَ مِثلَ مُحمَّدٍ ولا مِثْلُهُ حَتَّى القِيامَة يُفْقَدُ
وهذا هو حال الدنيا: (كراكبٍ استظل تحت شجرة، ثم راح وتَرَكها)().
ولو كان أحدٌ ناجياً لنجا خليلُ الله ﷺ! ولكن الأمر كما قال الله جل في عُلاه: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾ [آل عمران185]، ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ﴾ [آل عمران144]، ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء34]، ﴿أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء78].
روي أنَّ أبا بكرٍ الصديق رضي الله عنه كان إذا عَزَّى رجلاً قال: "ليس مع العزاء مصيبة، ولا مع الجزع فائدة، الموتُ أهون مما قبله، وأشد مما بعده، اذكروا فقدَ رسول الله ﷺ تصغر مصيبتكم، وأعظم الله أجركم"().
أتى جبريلُ إلى النبي ﷺ فقال: (يا محمد عِشْ ما شِئْتَ فإنك مَيِّتٌ، وأحبِبْ من شئْتَ فإنك مُفارقُهُ، واعمَلْ ما شئتَ فإنك مَجْزِيٌّ به، واعلَم أن شَرَفَ المؤمنِ قيامُه بالليل، وعِزُّهُ استغناؤُه عن الناس)().
إني مُعَزِّيكَ لا أني على ثقةٍ من الخلود ولكن سُنـَّةُ الدِّيـنِ
فما المُعزَّى بباقٍ بعد ميِّتـهِ ولا المُعزِّي ولو عاشا إلى حينِ
فالموت حق و(من أراد أن يعلمَ مَا لَهُ عند الله جلَّ ذِكْرُه، فلينظُر ما لله عزَّ وجل عنده)().
*****
الوقفة الثانية: علينا ألاَّ ننسى أمواتَنا بعد رحيلهم؛ بل نحرص على بِرِّهم ونفعهم والإحسان إليهم بالطرق المشروعة التي دَلَّت عليها نصوص الكتاب والسنة؛ ومنها:
أ ـ الصدقة: فعن أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال للنبي ﷺ: إن أبي مات وترك مالاً ولم يوصِ، فهل يُكَفِّرُ عنه أن أتصدق عنه؟ قال: نعم)().
وعن سعد بن عبادة رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصَّدقةِ أفضل؟ قال: سقي الماء)().
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن سعد بن عبادة رضي الله عنه تُوفِّيت أُمُّه وهو غائبٌ عنها، فقال: يا رسول الله إنَّ أمي توفيت، وأنا غائبٌ عنها أينفعُها شيءٌ إن تصدَّقتُ به عنها؟ قال: نعم، قال: فإني أُشهِدُكَ أن حائطي المِخْراف صدقة عليها)().
ومعنى قول سعد: (حائطي المِخْراف) أي: بستاني المثمر؛ سُمِّي بذلك لما يُخرَفُ منه؛ أي يُجنى من ثمره.
وعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (أن رجلاً قال للنبي ﷺ: إن أمي افتُلِتَتْ نفسها، وأراها لو تكلَّمَت تصدَّقت، أفأتصدَّق عنها؟
قال: نعم تصدق عنها)().
وقوله: (افتُلِتَتْ نفسها) أي: خرجت روحها فجأة.
وينبغي التنبيه هنا على وجوب المسارعة بقضاء الديون التي على الميت قبل تقسيم تركته على الورثة، بل قبل تنفيذ وصيته ـ أيضاً ـ؛ قال الله تعالى بعد أن ذكر تقسيم الميراث: ﴿مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً منَ الله وَالله عَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [النساء 12]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأةً من جُهينة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟
قال: نعم حجي عنها؛ أرأيت لو كان على أمك دَينٌ أكنت قاضيته؟! اقضوا الله؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاء)().
وعن سعد بن الأطول رضي الله عنه قال: (مات أخي وترك ثلاث مائة دينار، وترك ولداً صغاراً، فأردتُ أن أُنفقها عليهم، فقال لي رسول الله ﷺ: إن أخاك محبوسٌ بدينه؛ فاذهب فاقض عنه، قال: فذهبتُ فقضيتُ عنه، ثم جئتُ فقلت: يا رسول الله؛ قد قضيتُ عنه ولم يبق إلا امرأة تَدَّعي دينارين وليست لها بينة؟! قال: أعطها فإنها صادقة)().
وعن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (صَلَّى رسول الله ﷺ ذات يومٍ فقال: هاهُنا أحدٌ من بني فلان؟ ـ فنادى ثلاثاً لا يجيبه أحد! ـ ثم قال: إن الرجل الذي مات بينكم قد احتبس عن الجنة من أجل الدَّين الذي عليه؛ فإن شئتم فافدوه، وإن شئتم فأسْلِموه إلى عذابِ الله)().
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يُقضى عنه)().
قال الصنعاني: "هذا الحديث من الدلائل على أنه لا يزال الميت مشغولاً بدَيْنه بعد موته، ففيه حثٌّ على التخلص عنه قبل الموت، وأنه أهم الحقوق، وإذا كان هذا في الدَّين المأخوذ برضا صاحبه؛ فكيف بما أُخِذَ غصباً ونهباً وسلْباً؟!".
وقال ابن عبد البر: "وفي هذا الحديث من الفقه أن قضاء الدَّين عن الميت بعده في الدنيا ينفعه في آخرته؛ ولذلك أُمر وليه بالقضاء عنه، ولا ميراث إلا بعد قضاء الدَّين".
ب ـ الدعاء: قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [الحشر10].
وقال تعالى حكايةً عن نوحٍ عليه السلام: ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَاراً﴾ [نوح 28].
وقال حكايةً عن إبراهيم: ﴿رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ * رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ﴾ [إبراهيم40ـ41].
وقال عز وجل: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد 19].
وقال ﷺ: (إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة؛ إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)().
قال المُناوي: "وفائدةُ تَقييدِهِ بالولد مع أن دُعاء غَيرهِ ينفَعُه؛ تَحْرِيضُ الولدِ على الدُّعاءِ لأَصْلِه".
وفي الحديث: (إن الرَّجُل لتُرفع درجته في الجنة فيقول: أَنَّى هذا؟! فَيُقال: باستغفارِ ولدك لك())().
وفي هذا الحديث دليلٌ على أنَّ استغفار الولدِ لأبيهِ بعد موته كاستغفارهِ هُوَ ـ أي الأَب ـ لنفسهِ؛ من جهةِ المغفرة وتَرتُّب الثَّواب.
وقد دعا ﷺ لبعض أصحابه بعد وفاتهم؛ فدعا لأبي سلمة بعد موته بقوله: (اللهم اغفر لأبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عَقِبِهِ في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافْسَحْ له في قبره ونَوِّر لهُ فيه)().
وقوله: (واخلفه في عقبه في الغابرين) أي: كُنْ خَليفةً له في البَاقين مِن أولاده، و(الغابرين) هُنَا: البَاقين؛ كقولهِ تعالى عن لوط: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ﴾ [الأعراف83].
ودعا ﷺ لميتٍ آخر فقال: (اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، وأكرم نُزُلَه ووسِّع مُدخَله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونَقِّه من الخطايا كما نَقَّيتَ الثوب الأبيض من الدَّنَس، وأبدلهُ داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخلهُ الجنة، وأَعِذْهُ من عذابِ القبر)().
ودعا أيضاً بقوله: (اللهم اغفر لحَيِّنَا ومَيِّتِنا، وشاهدِنا وغائبِنا، وصغيرِنا وكبيرِنا، وذكرِنا وأُنثانا، اللهم من أحيَيْتَهُ مِنَّا فأحْيِهِ على الإسلام، ومن توفَّيْتَهُ مِنَّا فتَوَفَّهُ على الإيمان، اللهم لا تَحْرِمْنَا أَجْرَه، ولا تُضِّلَّنا بَعْدَه)().
ومن دعائه: (اللهم إنَّ فُلانَ بنَ فُلانٍ في ذِمَّتِكَ، وحَبْلِ جِوارِكَ، فَقِهِ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ، وعَذاب النَّار، وأنتَ أهلُ الوَفَاء والحق، اللهم فاغفر له وارحمه، إنك أنت الغفور الرحيم)().
ومنه قوله ﷺ: (اللهم عبدُك وابنُ أمتك احتاج إلى رحمتك، وأنت غنيٌ عن عذابه، فإنْ كانَ مُحْسناً فَزِد في إحسانه، وإنْ كانَ مُسيئاً فتجاوز عنه)().
وروي عن أبي هريرة أنه ﷺ دعا بقوله: (اللهم عبدُك وابنُ عبدِك، كان يشهدُ أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبدُك ورسولُك، وأنت أعلمُ به مني، إن كان مُحْسناً فَزِدْ في إحسانِه، وإن كان مُسيئاً فاغفِرْ له، ولا تَحرِمْنَا أجرَه، ولا تَفْتِنَّا بَعدَه)().
وعن أبي هريرة رضي الله عنه موقوفاً ـ وهو أصح ـ أنه كان يدعو للمَيِّت فيقول: (اللهم عَبْدُك وابنُ عبدك وابنُ أمتك، كان يشهدُ أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولك، وأنت أعلَمُ به، اللهم إنْ كان محسناً فزِدْ في إحسانه، وإنْ كان مسيئاً فتجاوزْ عن سيئاته، اللهم لا تحرِمْنا أجرَه، ولا تَفْتِنَّا بَعدَه)().
وكان عمر رضي الله عنه يدعو ثلاثاً للميت فيقول: (اللهم أصبح عبدك فُلان ـ إن كان صباحاً، وإن كان مساء قال: أمسى عبدك ـ قد تخلى من الدنيا، وتركها لأهلها، وافْتَقَرَ إليك، واستغنيتَ عنه، وكان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدُك ورسولُك، فاغفر له وتجاوز عنه)().
ودعا علي رضي الله عنه لميتٍ فقال: (اللهم عبدك، وولد عبدك، نزل بك اليوم، وأنت خير مَنْزُولٍ به، اللهم وسِّع له في مدخله، واغفر له ذنبه، فإنا لا نعلم منه إلا خيراً، وأنت أعلم به)().
وكان أنس رضي الله عنه يدعو بقوله: (اللهم عبدك رُدَّ إليك، فارْأَفْ به وارحمه، اللهم جافِ الأرض عن جَنْبَيه، وافتح أبواب السَّماء لروحه، وتَقَبَّلْهُ منك بقبولٍ حسن، اللهم إن كان محسناً فضاعف له في إحسانه، وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه سيئاته)().
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يدعو للمَيِّت فيقول: (اللهم بارِك فيه، وصَلِّ عليه، واغفِر له، وأَورِدْهُ حَوضَ رسولك ﷺ)()().
فلنُكثِر من الدُّعاء لأمواتنا؛ لعَلَّ الله تعالى أن يُيَسِّر لنا من يدعو لنا بعد وفاتنا، فالإنسانُ أحوجُ ما يكون إلى دُعاءِ إخوانِه لهُ بالمغفرةِ والتثبيتِ، بعد فِراقهِ لهذه الدنيا الفانية.
يُروَى عن بعض السَّابقين أنه قال: "صَلَّيتُ ركعتين في الليل، ثم وضعتُ رأسي على قبرٍ ثم نمت! فإذا صاحب القبر يقول: لقد آذيتني مُنذُ الليلة، إنَّكُم تعملونَ ولا تعلمون، ونحنُ نعلَمُ ولا نعمَل، ولا نقدر على العمل، وَلأَنْ تكونَ ركعتاكَ في صحيفتي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها! ثُم قال: جزى الله أهلَ الدنيا عنا خيراً، أقرئهم منا السَّلام؛ فإنَّهُ يدخلُ علينا من دُعائِهم نُورٌ أمثال الجبال!"().
ج ـ الحج والعمرة(): فقد أَمَرَت امرأةُ سنان بن سلمة الجهني زوجها: (أن يسأل رسول الله ﷺ أن أمها ماتت ولم تحج، أفيجزىءُ عن أمها أن تحج عنها؟ قال: نعم؛ لو كان على أمها دَينٌ فَقَضَتهُ عنها ألم يكن يجزىءُ عنها؟! فلتحج عن أمها)().
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن امرأةً من جُهينة جاءت إلى النبي ﷺ فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟
قال: نعم حجي عنها؛ أرأيت لو كان على أمك دَينٌ أكنت قاضيته؟! اقضوا الله؛ فاللهُ أحقُّ بالوفاء)().
وعن أبي رَزِين العُقَيلي رضي الله عنه قال: (يارسول الله إنَّ أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحج ولا العمرة ولا الظَّعن؟ قال: فحج عن أبيك واعتمر)().
و(الظَّعن) هنا معناهُ: الركوب على الدَّابةِ والسَّير بها.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن النبي ﷺ سمع رجلاً يقول: لبَّيكَ عن شُبْرُمَة، قال: من شُبْرُمَة؟ قال: أخ لي ـ أو قريب لي ـ، قال: حججتَ عن نفسك؟ قال: لا! قال: حُجَّ عن نفسك ثم حُجَّ عن شُبْرُمَة)().
وفي هذا الحديث لم يَسْتَفْصِل النبي ﷺ من هذا الرجل؛ هل حجه عن شبرمة حج فرض أم نفل؟ وهل كان شبرمة حياً أو ميتاً؟ لذلك اسْتُدِلَّ بهذا الحديث على جوازِ حج النفل أيضاً عن الميت، وهذا هو المشهور من مذهبِ الحنابلة رحمهم الله.
د ـ تَفقُّدُ أحبابهم وأصدقائهم والسؤال عنهم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: (إنَّ من أَبَرِّ البِرِّ صِلَةَ الرَّجُلِ أَهْلَ وُدِّ أبيهِ بعدَ أنْ يُوَلِّي)().
وَوُدُّ الرجلِ هو صديقُه وحبيبُه ومن يأنَس به، قال النووي رحمه الله: "في هذا فضل صِلَةِ أصدقاءِ الأبِ، والإحسانِ إليهم وإكرامِهم، وهو متضمنٌ لبِرِّ الأبِ وإكرامِه؛ لكونه بسببِه، وتلتحق به أصدقاءُ الأمِّ والأجدادِ والمشايخِ والزوجِ والزوجةِ، وقد سبقت الأحاديثُ في إكرامهِ ﷺ خلائلَ خديجة رضي الله عنها()".
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من البر أن تَصِلَ صديقَ أبِيكَ)().
وإنما كان هذا من البر، بل من أبَرِّ البِرِّ ـ كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما المتقدم ـ؛ لأن هذا التواصلَ من الولد سببٌ لدُعاءِ ذلك الصديق المُحب لوالده، وترحُّمه عليه، وذِكرِ محاسنه، مما ينفعُ والدَه في قبره، ثم إنَّ الوفاء بحقوق الوالدين والأصحاب بعد موتهم أبلغ؛ لأن حصولَ ذلك في الحياة قد لا يخلو من مُجاملة، والميت لا يُستحى منهُ ولا يُجامل، فلا يكون ذلك التواصل إلا دليلاً على الوفاء، وحسنَ الخُلُق، وسلامةَ النفسِ من هذا الولد البار().
هـ ـ زيارة قبورهم للسَّلام عليهم والدُّعاء لهم: وذلك سُنَّةٌ في حقِّ الرِّجال؛ فقد قال ﷺ: (زوروا القبور؛ فإنَّها تُذَكِّرُ الموت)().
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (نَهَيتُكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنَّ فيها عِبْرَةً)().
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها؛ فإنَّها تُرِقُّ القلبَ وتُدْمِعُ العينَ وتُذَكِّر الآخرة)().
وعن بُريدة بن الحُصَيْب رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (إني كنت نهيتكم عن ثلاث؛ عن زيارة القبور فزوروها، ولْتَزِدْكُم زيارتُها خيراً...)().
وكان ﷺ يزور قبور أصحابه للسَّلام عليهم()، والدُّعاء لهم؛ فعن عطاء بن يسار عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله ﷺ ـ كلما كان ليلتها من رسول الله ﷺ ـ يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول: (السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وأتاكم ما توعدون غداً مُؤَجَّلُون، وإنَّا إِنْ شاءَ الله بكُم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغَرْقَد)().
وعنها رضي الله عنها أن النبي ﷺ: خرج ليلاً إلى البقيع، فقام فأطال القيام، ثم رفعَ يديهِ ثلاث مرَّات() ـ يدعو للأموات ـ...ثم علَّمها الدعاء: (السلام على أهلِ الديارِ من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستَقْدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون)().
قال النووي في شرح الحديث: "فيهِ استحبابُ إطالَةِ الدُّعاء وتكريره، ورَفْعُ اليدين فيه، وفيه أن دُعاءَ القائمِ أكمَل من دُعاء الجالس في القبور".
وعن بُريدة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ كان يُعلِّمهُم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقولوا: (السَّلامُ عليكم أهلَ الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، وإنَّا إن شاء الله بكم لاحقون، أنتم لنا فَرَطٌ()، ونحنُ لكم تَبَعٌ، أسأل الله العافية لنا ولكم)().
وأخرجَ مسلمٌ من حديثِ أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أتى المقبرة فقال: (السَّلامُ عليكم دارَ قومٍ مؤمنين، وإنَّا إنْ شاء الله بكم لاحقون).
وعن عائشة رضي الله عنها: (أن النبي ﷺ كان يخرج إلى البقيع فيدعو لهم، فسألتهُ عائشة عن ذلك؟ فقال: إنِّي أُمرتُ أن أدعُوَ لهم)().
فلنحرص على زيارة قبور المسلمين؛ الزِّيارة الشَّرعيَّة؛ حتى نُحَصِّلَ هذه الحِكَم التي أخبرَ بها ﷺ؛ من تذكُّر الآخرة، والاتِّعاظ بحالهم وما آلُوا إليه تحتَ التراب وحدهم، ولتحصيل رِقَّة القلب، وأجر العمل بهذه السُّنَّة، ولكي ندعوَ لموتانا، ونُسلِّم عليهم سلاماً عاماً ـ كما في الأحاديث السابقة ـ، ونُسلِّم على معارفنا سلاماً خاصاً ـ يؤنسُهُم بإذن اللهِ ـ عند قبورهم()؛ للحديث: (ما من أحدٍ يَمُرُّ بقبرِ أخيهِ المؤمن كانَ يعرِفهُ في الدُّنيا فسلَّم عليهِ إلا عَرَفهُ ورَدَّ عليهِ السَّلام)().
*****
الوقفة الثالثة: أوصي أقرباء المتوَفَّى ـ وخاصَّة أولاده ـ بنبذ الفرقة والشِّقاق، وبأن يكونوا يداً واحدة، وألاَّ يجعلوا أي شيءٍ من حُطامِ هذهِ الدُّنيا الفانية! يؤثِّرُ في تلاحمهم وتراحمهم وتعاطفهم فيما بينهم؛ فالله جل وعلا يقول: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران103].
ويقول تعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا﴾ [الأنفال46].
وقال أيضاً: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات10].
وقال ﷺ: (لا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تقاطعوا وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاث)().
وقال أيضاً: (لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجُرَ أخاهُ فوقَ ثلاث ليال، يلتقيان فيُعرض هذا، ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسَّلام)().
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (تُفتحُ أبوابُ الجنة يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فيُغْفَرُ لكُلِّ عَبْدٍ لا يُشرك بالله شيئاً، إلا رجلاً كانت بينه وبين أخيه شحناءُ، فيُقال: أَنْظِرُوا هاذَين حتى يَصْطَلِحا، أنظِروا هاذَين حتى يَصْطَلِحا، أنظِروا هَذين حتى يَصْطَلِحا)().
وفي روايةٍ له: (تُعْرَضُ الأعمالُ في كل يوم خميس واثنين؛ فَيَغْفِرُ الله...).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (لا يحِلُّ لمسلمٍ أن يهجرَ أخاه فوق ثلاث، فمن هجر فوق ثلاثٍ فماتَ دخل النَّار)().
وعن فَضَالة بن عُبيد رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال: (من هجر أخاه فوق ثلاثٍ فهو في النَّارِ، إلا أن يتداركهُ الله برحمته)().
وعن أبي خِرَاش الأسلمي رضي الله عنه أنه سَمِعَ النبي ﷺ يقول: (من هجر أخاهُ سَنَةً فهو كَسَفْكِ دَمِه)().
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله ﷺ: (لا تَحِلُّ الهجرة فوقَ ثلاثة أيام، فإن التقيا فسلَّم أحدهما على الآخر فردَّ عليه الآخر السَّلام اشتركا في الأجر، وإن أبى الآخر أن يرُدَّ السَّلام برىءَ هذا من الإثم، وباء به الآخر، وإن ماتا وهما مُتهاجِرانِ لا يجتمعانِ في الجنَّة!)().
وعن هشام بن عامر الأنصاري رضي الله عنهما قال: سمعتُ رسول الله ﷺ يقول: (لا يحل لمسلمٍ أنْ يُصَارِمَ مسلماً فوق ثلاث، وإنهما ناكِبانِ عن الحق ما كانا على صرامِهِما، وإنَّ أوَّلَهما فيئاً يكونُ سَبْقُهُ بالفيء كفارةً له، وإنْ سَلَّمَ عليه فلم يَقْبَلْ سلامَهُ رَدَّتْ عليهِ الملائكة، ورَدَّ على الآخر الشَّيطان، وإنْ ماتا على صرامِهِما لم يَدْخُلا الجنة، ولم يجتمعا في الجنة)().
فلا يحلُّ للإخوة بعد وفاة والديهم أن يتهاجروا، وأن يتركوا تَفَقُّدَ أحوال بعضهم بعضاً؛ بل عليهم أن يجتمعوا ويتزاوروا، ويعطف بعضهم على بعض؛ امتثالاً لأمر الله تعالى، وأمر رسوله ﷺ.
بل قد يكون في عدم استقامتهم على الخير، وفي تهاجرهم مضايقة لوالديهم في قبورهم! فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (إذا حضر المؤمن الموت، أتتهُ ملائكة الرَّحمة بِحَريرَةٍ بيضاء، فيقولون: اخرجي راضية مرضياً عنك إلى رَوْحِ الله وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان، فتخرُجُ كأطيبِ ريحِ المسك، حتى إنه ليناوله بعضُهم بعضاً، حتى يأتونَ به بابَ السَّماء، فيقولون: ما أطيب هذه الرِّيح التي جاءتكم من الأرض! فيأتون به أرواحَ المؤمنين، فلهم أشدُّ فرحاً به مِنْ أحدِكم بغائبِه يَقْدمُ عليه! فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعل فلان؟ فيقولون: دَعُوهُ فإنَّهُ كان في غَمِّ الدنيا، فإذا قال: أما أتاكم؟! قالوا: ذُهِبَ به إلى أُمِّهِ الهاوية()...)().
وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: (إذا قُبِضَت نَفْسُ العبد تلَقَّاهُ أهل الرحمة من عباد الله كما يلقون البشير في الدنيا! فيُقبِلونَ عليه ليسألوه، فيقول بعضهم لبعض: أنْظِرُوا أخاكُم حتَّى يستريح؛ فإنهُ كانَ في كرب، فيُقبِلُونَ عليه فيسألونه: ماذا فعل فلان؟ ماذا فعلت فلانة؟ هل تزوَّجت؟! فإذا سألوا عن الرجل قد مات قبله قال لهم: إنه قد هلك، فيقولون: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذُهِبَ به إلى أُمِّه الهاوية، فبِئْسَتِ الأُمُّ وبئست المربية. قال: فَيَعْرِضُ عليهم أعمالهم، فإذا رأوا حسناً فرحوا واستبشروا، وقالوا: هذه نعمتك على عبدك فأتمها، وإن رأوا سُوءاً قالوا: اللهم راجع بعبدك)().
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال النبي ﷺ: (إن أعمالكم تُعرضُ على أقاربكم وعشائركم من الأموات، فإن كان خيراً استبشروا به، وإن كان غير ذلك قالوا: اللهم لا تُمِتْهُم حتى تهديهم كما هديتنا)().
وينبغي أن نَعلم أنَّ الإنسان من طبعه النَّقص والخطأ والزَّلل فـ(كلُّ بني آدم خطَّاء)()، فلنُعوِّد أنفسنا على العفو() والرِّفق وتَحَمُّل الأذى، فاللهُ جَلَّ ذِكرُهُ يقول: ﴿وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور22].
وقال تعالى في وَصْفِ المتقين: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [آل عمران134].
وقال أيضاً: ﴿وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ﴾ [الشورى43].
ويقول النبي الكريم ﷺ: (ما نَقَصَتْ صَدقةٌ من مال، وما زاد الله عبداً بعَفوٍ إلا عِزاً، وما تواضعَ أحدٌ لله إلا رفعهُ الله())().
وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (من لا يَرْحَمْ لا يُرْحَمْ، ومن لا يغْفِر لا يُغْفَرُ له)().
وعنه رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: (من يُحرَمِ الرِّفق يُحرَمِ الخيرَ كُله)().
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: (ألا أُخبركُم بمن تَحرُمُ عليه النار؛ على كُل قَريبٍ هَيِّنٍ سَهْل)().
وعن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: (من أُعطِيَ حظَّهُ من الرِّفق فقد أُعطيَ حظَّهُ من خيرِ الدُّنيا والآخرة، وصِلَةُ الرَّحِم وحُسن الخُلُق وحُسْن الجِوَار يَعمُران الدِّيارَ ويزيدانِ في الأعمار)().
لا يحملُ الحِقْدَ مَنْ تَعْلُو بهِ الرُّتَبُ وَلا ينالُ العُلا مَنْ طَبْعُهُ الغَضَبُ!
*****