من روائع اللغة العربية أن الفعل يختلف معناه باختلاف الحرف الداخل عليه،
وقد ظهر ذلك جليا في استعمال القرآن له وهو من مظاهر الإعجاز اللغوي فيه ؛لأن البلاغة هي الإيجاز، فأوجز بفعل واحد ليعبر عن معان متعددة .
من هذه الأفعال الفعل "رغب" فهو يختلف معناه باختلاف حرف الجر الداخل عليه ، فإذا كان رغب"في" فذلك يعني الحرص عليه ؛والعلة في ذلك أن "في" تفيد الظرفية ،وكأن المرغوب فيه قد أصبح ظرفا يحتوي الرغبة كما يحتوي الظرف على المظروف، ومثله "رغب إلى" فيفيد الحرص على الشيء أيضا، وقد سوّى بينهما الراغب في المفردات، لكنني أرى أن في" رغب إلى" زيادة حرص ، بل تعني انصراف الراغب إلى المرغوب إليه بالكلية حتى إنه لم يعد يشغله عنه شاغل ولا يصرفه عنه صارف؛ لذلك لم يرد هذا الفعل في النظم القرآني المعجز إلافي ذكر الرغبة إلى الله فقط، وقدم الحرف "إلى" على الفعل للدلالة على الاختصاص، فلا يكون الانصراف بالكلية إليه إلا الله ،من ذلك قوله تعالى "إنا إلى ربنا راغبون".
وعكس ذلك "رغب عن" فيفيد الانصراف عن الشيء والزهد فيه والعلة في ذلك دلالة حرف الجر "عن" الذي يفيد المجاوزة ،فكأن الراغب قد تجاوزت رغبته ذلك الشيء وانصرفت عنه،من ذلك قوله تعالى "ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"
وأما" رغب ب" فإنه يفيد الضن بالشيء والبخل به؛ وذلك من دلالة الباء التي تفيد الإلصاق ،فكأن البخيل قد التصق بما بخل به وضن به عن الآخرين فلا يتركه،
وهذه صفة ذم نفاها الله عن المؤمنين بقوله "ولايرغبوا بأنفسهم عن نفسه"
فهم لا يبخلون بأنفسهم عن فداء هذ الدين والرسول والدعوة.
وبقي في هذا السياق أمر مهم وهو أن النحاة لم يجيزوا مع هذا الفعل وأشباهه أن يحذف حرف الجر؛ لأنه- والحالة هذه- يؤدي الحذف إلى اللبس ،فلا يصح عندهم قولك:"رغبت العلم "،لأنه لايعلم حينئذ هل أنت رغبت فيه أو رغبت عنه،
هذا كلامهم لكنه لايسلم لهم بذلك على إطلاقه؛ فقد جاء قوله تعالى"وترغبون أن تنكحوهنّ" وهي في سياق ذكر يتامى النساء والأمر بالعدل لهن وإعطائهنّ حقهن من المال دون إنقاص، وهنا البلاغة القرآنية تبرز في أروع صورها؛ إذ عمد القرآن إلى الإيجاز، بأن أتى بفعل يحتمل المعنيين فيقصدهما معا، فيكون قد نهى عن تجاوز حق اليتامى من النساء وأمر بإعطائهنّ حقهن كاملا، سواء أرغبوا" في" الزواج بهن أم رغبوا "عن" الزواج بهن.
وهذه لمسة من لمسات الإعجاز، وإلى لقاء آخر.
منقول ---