فتاوى شرعية
لسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
متى تكون الذبيحة حلالا لنا أو حراما علينا…؟
الحمد للّه، والصلاة والسلام على رسوله وآله، وبعـد
فقد اطلعت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء،
على السؤال المقدم من صالح بن أبي بكر عيسى العالي،
إلى سماحة الرئيس العام،
والمحال إليها من الأمانة العامة
برقم 735/ 2 وتاريخ 4/5/1296هـ.
ومضمونه أن جماعة من طلبة العلم
يزعمون حل ذبائح من يستغيث بغير اللّه،
ويدعو غير اللّه،
فيما لا يقدر عليه إلا اللّه،
إذا ذكروا عليها اسم الله،
مستدلين بعموم قوله تعالى :
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(الأنعام الآية 118).
وقوله تعالى:
{وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ
وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ}
(الأنعام الآية 119)
ويرون أن من يحرم ذلك من المعتدين
الذين يضلون بأهوائهم بغير عالم.
ويقولون:
إن اللّه فصل لنا ما حرم علينا في قوله:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ..}
(المائدة الآية 3)
وقوله:
{إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
(النحل الآية 115)
إلى أمثال ذلك من الآيات التي فصلت ما حرم من الذبائـح و
لم يذكر فيها تحريم شيء مما ذكر اسم الله عليه
ولو كان الذابح وثنيا أو مجوسيا.
ويزعمون أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كان يأكل من ذبائح الذين يدعون زيد بن الخطاب إذا ذكروا عليها اسم اللّه.
فهل قولهم هذا صحيح؟
وبماذا نجيب عما استدلوا به إن كانوا مخطئين؟
ما هو الحل في ذلك مع الدليل ؟
الجـواب:
يختلف حكم الذبـائح حلا وحرمـة باختلاف حال الذابحين،
فإن كان الذابح مسلما
ولم يعلم عنه أنه أتى بما ينقض أصل إسلامه
وذكر اسم الله على ذبيحته،
أو لم يعلم أذكر اسم الله عليها أم لا,
فذبيحته حلال بإجماع المسلمين،
لعموم قوله تعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ،
وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ}
(الأنعام الآية 118-119).
- وإن كان الذابح كتابيا يهوديا أو نصرانيا،
وذكر اسم الله على ذبيحته
فهي حلال بإجماع
لقوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} (المائدة الآية 5).
وإن لم يذكر اسم اللّه ولا اسم غيره عليها
ففي حل ذبيحته خلاف،
فمن أحلها استدل بعموم
قوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
ومن حرمها
استدل بعموم أدلة وجوب التسمية على الذبيحة والصيد،
وبالنهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه
في قوله تعالى:
{وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}
(الأنعام الآية 121)
وهذا هو الظاهر.
- وإن ذكر الكتابي اسم غير الله عليها، !
كأن يقول باسم العزير،
أو باسم المسيح، أو الصليب،
لم يحل الأكل منهما لدخولهما في عموم
قوله تعالى آية ما حرم من الطعام:
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} .
إذ هي مخصصة لعموم قوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}.
وإن كان الذابح مجوسيا لم تؤكل،
سواء ذكر اسم الله عليها أم لا،
بلا خلاف فيما نعلم
إلا ما نقل عن أبي ثور من إباحته صيده وذبيحته
لما ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب"
ولأنهم يقرون على دينهم بالجزية
كأهل الكتاب فيباح صيدهم وذبائحهم.
وقد أنكر عليه العلماء ذلك
واعتبروه خلافا لإجماع من سبقه من السلف,
قال ابن قدامة في (المغني):
"قال إبراهيم الحربي:
خرق أبو ثور الإجماع،
قال أحمد:
هاهنا قوم لا يرون لذبائح المجوس بأساً،
ما أعجب هذا؟
يعرض بأبي ثور.
ومما رويت عنه كراهية ذبائحهم:
ابن مسعود، وابن عباس وعلي وجابر وأبو برزة
وسعيد بن المسيب وعكرمة والحسن بن محمد وعطاء ومجاهد
وعبد الرحمن بن أبي ليلى
وسعيد بن جبير ومرة المهراني والزهري
ومالك والثوري والشافعي وأصحاب الرأي
قـال أحمد:
ولا أعلم أحدا قال بخلافه
إلا أن يكون صاحب بدعة.
ولأن الله تعالى قال:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
فمفهومه تحريم طعام
غيرهم من الكفار
ولأنهم لا كتاب لهم
فلا تحل ذبائحهم
كأهل الأوثان،
ثم قال ابن قدامة:
"وإنما أخذت منهم الجزية،
لأن شبهة الكتاب تقتضي تحريم دمائهم
فلما غلبت في تحريم دمائهم
وجب أن يغلب عدم الكتاب
في تحريم ذبائحهم ونسائهم احتياطا للتحريم
في الموضعين ولأنه إجماع،
فإنه قول من سمينا،
ولا مخالف لهم في عصرهم
ولا فيمن بعدهم
إلا رواية عن سعيد روي عنه خلافا"
انتهى من (المغنى).
وإن كان الذابح من المشركين عباد الأوثان
ومن في حكمهم ممن سوى المجوس وأهل الكتاب،
فقد أجمع المسلمون على تحريم ذبائحهم
سواء ذكروا اسم اللّه عليها أم لا،
ودل قوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
بمفهومه على تحريـم ذبائح غيرهم من الكفار،
وإلا لما كان لتخصيصهم بالذكر
في سياق الحكم بالحل فائدة.
وكذا من انتسب إلى الإسلام
وهو يدعو غير اللّه
فيما لا يقدر عليه إلا اللّه
ويستغيث بغير اللّه
فذبائحهم كذبائح الكفار الوثنيين والزنادقة
فلا تحل ذبائحهم
كما لا تحل ذبائح أولئك الكفار
لشركهم وارتدادهم عن الإسلام.
وعلى هذا فالإجماع على تحريم ذبائحهم
ودلالة مفهوم الآية
على ذلك كلاهما مخصص لعموم
قوله تعالى:
{فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ}, وقوله:
{وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} الآية.
فلا يصح الاستدلال بهاتين الآيتين
وما في معناهما على حل ذبائح عباد الأوثان
ومن في حكمهم ممن ارتد عن الإسلام
بإصراره على استغاثته بغير اللّه
ودعائه إياه من الأموات ونحوهم
فيما لا يقدر عليه إلا اللّه بعد البيان له
وإقامة الدليل عليه
فإن ذلك شرك كشرك الجاهلية الأولى.
كما أنه لا يصح الاعتماد في حل ذبائح
من استغاث بغير اللّه من الأموات ونحوهم
واستنجد بغير الله
فيما هو من اختصاص اللّه
إذا ذكر اسم الله عليها
بعدم ذكر ذبائحهم صراحة
في آية إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير
وما أهل به لغير اللّه وما في معناها من الآيات
التي ذكر الله فيها ما حرم على عباده من الأطعمة
فان ذبائح هؤلاء
وإن لم تذكر صراحة في نصوص الأطعمة المحرمة
فهي داخلة في عموم الميتة،
لارتدادهم عن الإسلام من أجل ارتكابهم
ما ينقص أصل إيمانهم وإصرارهم علما ذلك بعد البيان.
ومن زعم أن إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه اللّه،
كان يأكل من ذبائح أهل نجد وهم يدعون زيد بن الخطاب
فزعمه خرص وتخمين ومجرد دعوى
لا يشهد لها ما نقل عنه رحمه اللّه
بل هي مخالفة لما تشهد به كتبه ومؤلفاته
من الحكم على من يدعو غير اللّه،
من ملك مقرب أو نبي مرسل،
أو عبد صالح، فيما لا يقدر عليه إلا اللّه،
بأنه مشرك مرتد عن الإسلام،
بل شركه أشد من شرك أهل الكتاب,
وإن ذكروا عليها اسم اللّه؛
لأن التسمية على الذبيحة نوع من العبادة،
فلا تصح إلا مع إخلاص العبادة للّه سبحانه، لقوله سبحانه:
{وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
(الأنعام الآية 88).
واللّه سبحانه وتعالى أعلم وأحكم.