إن غداً لناظره قريب
قائلها قراد بن أجدع ، وأصلها أن النعمان بن المنذر خرج يتصيد على فرسه اليحموم ، فأجراه على أثر عير ، فذهب به الفرس في الأرض ولم يقدر عليه ، وانفرد عن أصحابه ، وأخذته السماء ، فطلب ملجأ يلجأ إليه ، فدفع إلى بناء فإذا فيه رجل من طيء يقال له حنظلة ومعه امرأة له ، فقال النعمان : هل من مأوى ؟ فقال حنظلة : نعم ، فخرج إليه فأنزله ، وقام إلى شاة ليس عنده غيرها فأحتلبها ثم ذبحها وأطعمه وأكرمه وهو لا يعرف انه النعمان بن المنذر ، وفي الصباح لبس النعمان ثيابه وركب فرسه ثم قال مخاطبا : يا أخا طيء أطلب ثوابك ، أنا النعمان بن المنذر ، قال : افعل أن شاء الله ، فمضى النعمان نحو الحيرة . ومكث الطائى بعد ذلك زمناً حتى أصابته نكبة وجهد وساءت حاله ، فدفع إلى الحيرة قاصدا النعمان ، وكان للنعمان يومان يوم سعد ويوم شؤم ، وكان لا يأتيه أحد في يوم شؤمه إلا قتله ، فوافق مقدم الطائي يوم بؤس النعمان ، فلما رأه النعمان عرفه ، وساءه مكانه وقال : أنت الطائي المنزول به ، قال : نعم ، قال : أفلا جئت في غير هذا اليوم ؟ قال : أبيت اللعن ، وما علمي بهذا اليوم ؟ قال : والله لو سنح لي ابني قابوس في هذا اليوم لم أجد بداً من قتله ، فأطلب حاجتك من الدنيا فأنك مقتول ؟ قال : أبيت اللعن وما اصنع بالدنيا بعد موتي ؟ قال النعمان : إنه لا سبيل إليها ، قال : فإن كان لا بد فأجِّلْني حتى أُلِمَّ بأهلي فأوصي إليهم وأهيء حالهم ثم أنصرف إليك ، قال النعمان : فأقم كفيلاً بموافاتك ، فالتفت الطائى إلى شريك بن عمرو فأشار به ، فأمتنع شريك عن كفالته ، فوثب إليه رجل من كلب يقال له قراد بن أجدع فقال للنعمان : هو علىّ ، فضمّنه ، وأعطى النعمان للطائي خمسمائة ناقة ، فمضى الطائي إلى أهله ، وجعل الأجل إلى مثل ذلك اليوم من قابل ، فلما حال عليه الحول وبقي من الأجل يوم قال النعمان لقراد : ما أراك إلا هالكا غداً ، فقال قراد :
فإن يك صدر هذا اليوم ولىّ ...... فإن غداً لناظره قريب
فلما أصبح النعمان ركب خيله وأخرج قراداً ، وأمر بقتله ، فقال له وزرائه : ليس لك أن تقتله حتى يستوفي يومه ، فتركه ، وكان يشتهي قتله ليفلت الطائي ، فلما كادت الشمس تَجِبُ وقراد على النطع مجرداً من إزاره ، أتت امرأته وهي تقول :
أيا عين بكى لي قراد بن أجدعا ...... رهيناً لقتل لا رهينا مودّعا
أتته المنايا بغتة دون قوم ...... ه فأمسى أسيراً حاضر البيت أضرعا
فبينا هم كذلك إذ رفع لهم شخص من بعيد فإذا هو الطائي ، فقال النعمان : ما حملك على الرجوع بعد إفلاتك من القتل ؟ قال : الوفاء . فقال : والله ما أدري أيهما أوفى وأكرم ، أهذا الذي نجا من القتل فعاد ، أم هذا الذي ضمنه ؟ والله لا أكون ألأم الثلاثة ، فعفا عنهم جميعاً ، وترك سنته في يوم شؤمه ، فأنشد الطائي :
ما كنت أخلف ظنه بعد الذي ...... أسدى إلىّ من الفعال الخالي
ولقد دعتني للخلاف ضلالتي ...... فأبيت غير تمجدي وفعالي
أني أمرؤ مني الوفاء سجية ...... وجزاء كل مكارم بذال
وقال يمدح قرادا :
ألا إنما يسموا إلى المجد والعلا ...... مخاريق أمثال القراد بن أجدعا
مخاريق أمثال القراد واهلـ ...... ـه فأنهم الأخيار من رهط تبعا