[align=right]
أنسى، ولن أنسى "ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا" "البقرة 286" لقد نسي أبو البشر آدم، وأخبرنا القرآن بذلك، بفضل وحيك يا إلهي، على خاتم رسلك "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما" "طه 115" وبعده رسولك موسى مع فتاه فنسيا الحوت في رحلتهما المشهورة "فلما بلغا مجمع بينهما نسيا حوتهما فاتخذ سبيله في البحر سربا" "الكهف 61"، ويعود موسى إلى نسيان التزامه بالمعاهدة التي عقدها مع العبد الصالح "الخضر" حتى يقول له موسى "لا تؤاخذني بما نسيت ولا ترهقني من أمري عسرا" "الكهف 73" ونسي خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم ذات مرة كما أفادتنا كتب السيرة، والقرآن يخاطبه بما يشعر، بأن النسيان جائز منه، غير مستحيل في حقه، فيقول له الله تعالى "ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا، إلا أن يشاء الله، واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهديني ربي لأقرب من هذا رشدا" "الكهف 24". فماذا يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استنكرهوا عليه"؟
أجاب البيضاوي قائلا "ومفهومه أن الخطأ والنسيان كان يؤاخذ بهما أولا، إذ لا تمتنع المؤاخذة بهما عقلا، فإن الذنوب كالسموم، فكما أن تناولها يؤدي إلى الهلاك وإن كان خطأ، فتعاطي الذنوب لا يبعد أن يفضي إلى العقاب، وإن لم يكن عزيمة لكنه تعالى وعدنا التجاوز عنه، رحمة وفضلا، ومن ثم أمر الإنسان بالدعاء به، استدامة واعتدادا بالنعمة؛ إن النسيان حظ مقسوم للبشر، لا يستعصي عليه كبير أو جليل".
وقد ذكرت ما يثبت ذلك لدى الرسل. فالنسيان هو ترك الإنسان ضبط ما أودع في ذاكرته، إما لضعفها وإما لكثرة الشواغل، وإما للغفلة، وإما عن إهمال أو تقصير، فإن كان النسيان عن قصد وتعمد وإهمال فإن الله يحاسب عبده عليه، وإن كان غير ذلك فهو قريب من مواطن عفو الله ومغفرته.
إن عدنا إلى خاتم المرسلين عليه الصلاة والسلام فإنه لا ينسى فيما يتعلق بالدين أو الدعوة أو الحق أو التنزيل بدليل قول الله تعالى واعدا إياه "سنقرئك فلا تنسى" "الأعلى 6"، وإن كان الله تعالى قد أحسن الأدب لرسوله حتى في هذا المقام، فقال عقب الآية السابقة "إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى" "الأعلى 7". فالرسول عليه الصلاة والسلام قد اختار له ربه شيئا مما أوحى إليه، ولكن الله مع هذا قادر على أن يجعله ينسى، وإن كانت مشيئته لم تتعلق بنسيان شيء مما أوحى إلى الرسول.
وهناك نسيان يحاسب عليه صاحبه ويعاقب من أجله وهو نسيان الترك والإهمال والإعراض والتقصير، فمن أهمل الواجب فكأنه أغفله ونسيه، ومن قصر في الحقوق فكأنه ضيّعها، فصارت نسيا منسيا، ولذلك قال الله تعالى "ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى، قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا، قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى" "طه آيات 124- 126" أي تركت آياتي وأعرضت عن بيّناتي ولم تؤمن بدعوتي فكذلك اليوم نهملك وننساك، وتترك معذبا في لهب جهنم، ومثل هذا النسيان الذميم يؤدي بالإنسان إلى الخسار والبوار.
فإذا نسي المرء حقوق ربه وواجبات دينه، أصبح كالحيوان الضال، ورتعت نفسه في الموبقات والآثام فصارت ضائعة مضيعة، ومن أجل ذلك قال تعالى محذرا عباده "ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون" "الحشر 19". لذلك فمن الحكمة الإلهية أن الذين ينسون واجبهم نحو خالقهم ويهملون حقوق العباد يتوعدهم الله بقوله "فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم وذوقوا عذاب الخلد بما كنتم تعملون" "السجدة 14"، هذه الصفة تعني الغفلة عن الشيء لا يجوز أبدا التفكير فيها في حق الله، فالله عليم بكل شيء، محيط بكل أمر، مطلع على كل دقيق وجليل "قال فما بال القرون الأولى قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى" "طه 52".
إذا كانت هناك واجبات لا يجوز أن ننساها فهناك أمور من الأحسن أن ننساها، كالأحقاد والضغائن، وهي إمساك العداوة في القلب، والتربص لفرصتها حتى نعيش بقلوب صافية ونفوس طاهرة، لا يأكلها الحقد، ولا يحرقها البغض، "ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم" "فصلت 34".
ومن الأحسن أن ننسى هموم الحياة ومصائبها ما استطعنا إلى ذلك سبيلا ومن واجبنا أن ننسى وساوس الشياطين؛ ففي الحديث "الشيطان يوسوس إلى العبد فإذا ذكر الله خنس" أي انقبض منه وتأخر، والوسوسة هو الحديث الذي فيه شر أو الذي نفع فيه ويتسبب في ميلنا وزيغنا عن الصواب، كما في قوله تعالى "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا" "آل عمران 8" أي لا تملنا عن الهدى والقصد ولا تضلنا.
ولهذا قلت في بداية كلامي "أنسى" أي أنسى الأحقاد والضغائن والعداوة وكل ما يعكر صفو المحبة والإخاء والسكينة؛ "ولن أنسى"، أي لن أنسى واجباتي تجاه الله وتجاه الناس والكون بما فيه، وبعبارة أشمل، أنسى، بمعنى أعفو عمّن آذاني، ولن أنسى أن أجازي من واساني من مميزات عقيدتنا.
أضرب مثلا على نبل الخصومة وشرفها وآدابها، إذ كان بين أبي بكر وعمر مقاولة في شأن من الشؤون أسرع فيها الصدّيق إلى إغضاب الفاروق فانصرف عمر غضبان آسفا، وتبعه أبو بكر من فوره نادما معتذرا يسأله أن يتقبل عذره فلم يقبل ويرجو أن يغفر له فلم يفعل بل دخل عمر داره وأغلق بابه في وجهه، وتأثر أبو بكر من هذا العمل ورأى أن يرفعه إلى النبي، فأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم وقص عليه ما حدث بينهما فلما فرغ من شكايته طمأنه الرسول ودعا له. أما الفاروق فقد ندم على عدم قبول المعذرة وأنّب نفسه على هذه الشدة التي قابل بها أحب الناس إليه بعد رسول الله، فأسرع إلى بيت الصدّيق ليسامحه ويتقبل معذرته ظنا منه أنه عاد إلى بيته.
ولما لم يجده بمنزله أسرع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وعند المربي الأعظم التقى الخصمان ليتلقى كل منهما درسا عظيم النفع حميد العاقبة ويجلس عمر من الرسول مجلس التلميذ من معلمه ويعرض عنه النبي ليلقنه درسا فيه شيء من القسوة، وفيه نوع من الشدة، ولكنه مع ذلك فيه الكثير من التربية والموعظة. فعمر كان صاحب حق فأضاعه بتصلبه وتشدده، وأصبح مدينا لخصمه، حيث تبعه على الفور يستغفره ويستسمحه، فلم يقبل منه، وتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم تطلب ممن له الحق أن ينسى، ويلين ويسمح وأن يقبل معذرة أخيه عندما يجيئه معتذرا مستغفرا، ورفض الاعتذار خطأ كبير.
ففي الحديث النبوي "من اعتذر إلى أخيه المسلم فلم يقبل منه كان عليه مثل خطيئة صاحب مكس" لذا كان عمر مستحقا لإعراض الرسول عنه، وتأنيبه له والعتب عليه، وما كاد الصديق يرى كل ذلك من الرسول حتى أشفق على عمر، وخشي أن يناله من الرسول ما يكره، فنسي الخصومة، وجثا على ركبتيه أمام الرسول معتذرا آسفا ويقسم للنبي أنه كان أظلم لأنه هو الذي بدأ صاحبه بالإساءة، وهنا يكف النبي عن تأنيب عمر وتوبيخه.
فأين نحن من الخصومات التي تقع بين الأفراد والأمم في زماننا وبشاعتها، وعواقبها المأساوية وبين مستوى خصومات أسلافنا في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام الذين كانوا ينسون أحقادهم ومصائبهم بقلوب سليمة، وصدور رحبة، ويعملون بعقولهم، لا بعواطفهم الجامحة حسب توجيهات الرسول في حديثيه "دين المرء عقله ومن لا عقل له لا دين له" وقوله "رأس العقل بعد الإيمان بالله التودد إلى الناس"..
[/align]
حامد المهيري