هل نصفح؟
أن تصفح يعني أن لا تلتفت إلى إساءة مَنْ أساء إليك، ولا تعيره اهتماماً، بل تُعرض عنه وتمضي في سبيلك وكأنّ شيئاً لم يكنْ. فالصفح هنا عملٌ ميدانه النفس، ومؤداه إزالة ما اعتراها من ضيق أو غيظ على المسيئ، فهو معالجة داخلية بغض النظر عن المصفوح عنه، حيث يتركز العمل على النفس وإفراغها من أثر ما ارتُكب بحقها من أخطاء أو إساءات حتى تُطوى تلك الصفحة فلا يعود لها تأثير على ما تتخذ من قرارات، بخلاف العفو أو الغفران فهما معالجة خارجية تتعلق بشأن المعفوّ عنه أو المغفور له، فقد يعفو المرء ولكنه لا يصفح ويبقى في النفس شيء من المعاتبة، فالعفو ليس إلا إسقاط حقّ الردّ بالمثل أو إجراء العقوبة ولذلك قال الله تعالى: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا)(البقرة: 109)، وكما جاء في الأثر "أنّ الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب"، لهذا السبب لا تجد في أسماء الله سبحانه اسماً ينمّ عن صفة الصفح، لأنّ الذات الإلهية المقدسة منزهة عن التأثّر بأعمال المذنبين فلا تضرّه معصيتُهم، كما لا تنفعه طاعةُ المطيعين، ولكن الله سبحانه يمنّ على عباده بالعفو والمغفرة دعماً لهم لمواصلة تصحيح مسيرتهم نحوه عزّ وجلّ.
النفس البشرية يثقل كاهلها ما تتعرّض له من إساءات غير مبرّرة أحياناً، وربما جاءت الإساءة بعد إحسان منها للمسيئ مما يجعل تقبّل الإساءة ثقيلاً على النفس إلا عند من امتحن الله قلوبهم بالإيمان فاتسعت صدورهم لتحمّل الأذى وامتصاص تداعياته وآثاره السلبية، لتصفوَ النفس من انفعالات الرغبة في الانتقام والتشفّي والحقد والبغضاء وتمنّي السوء للآخرين، وتتفرغ للاشتغال بمعالي الأمور دون سفاسفها وتحلّق في عالم الروح حيث السعة والصفاء وانجلاء الحقائق، لأنّ القلب إذا أصابه همٌّ انشغل به عمّا ينبغي له في الأصل الاشتغال به، فلا يعود بعدها قادراً على التركيز على أهدافه السامية في الحياة.
لقد كان الأنبياء –صلوات الله وسلامه عليهم- وعلى رأسهم نبيّنا الأكرم محمد(صلى الله عليه وسلم) هم النموذج الأصدق لتجسيد هذا الخلق السامي، لما تعرضوا له من إيذاء وسخرية واستهزاء وتجريح شخصي من قبل مكذّبيهم، إلاّ أنّهم لم يسمحوا لكل تلك الإساءات أن تؤثّر سلباً في نفوسهم، ولم ينشغلوا بالردّ عليها عن القيام بما أُنيطوا به من مهمّة عظيمة تتعلق بهداية مَنْ أُرسلوا إليهم، بل كان رسول الله(صلى الله عليه وسلم) رغم ما تعرّض له من أذية لم يتعرّض لها مَنْ سبقوه حتى قال(صلى الله عليه وسلم): (ما أُوذي نبيٌ مثلما أُوذيت) يدعو لقومه بالهداية لأنّهم لا يعلمون، هكذا أراد الله له أن يكون (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(الزخرف:89)، على أنّ الصفح عن المسيئ لا يعني إفراغ ذمته من تحمّل تبعات سوء أعماله عند الحساب (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ)(الحجر:85).
إنّ أحوج الناس –اليومَ- إلى التحلّي بهذه الصفة هم أصحاب المهمات الإصلاحيّة؛ الدعوية والثقافية والاجتماعية والسياسية، كونهم يملكون خطاباً يتوجّهون به إلى الناس، ويطالبونهم بالتواصل والتفاعل مع الأفكار والمشاريع التي يطرحونها، والناس منهم في مواقف شتى، منهم الموافق، ومنهم المعارض، ومنهم الرافض، ومنهم المناوئ لتلك الأفكار والمشاريع، فما هي الآلية الصحيحة للتعامل مع الآخر المختلف إذا كان ردّ فعله الإساءة والإيذاء على المستوى الشخصي خصوصا؟ إنّ الرد بالمثل في مثل هذه الحالة يُدخل الطرفين في دوامة من الصراع ليس لها نهاية، ولا يثمر وعياً وتطوراً إنسانياً وتصالحاً وطنيّاً، بل يزيد في الانتكاسة نحو حضيض الهمجية والشواهد على ذلك كثيرة وماثلة أمام العيان.
إنّنا اليوم واقتداءً بسيرة الرسول(صلى الله عليه وسلم) العطرة بحاجة إلى التحلّي بالمسئولية في معالجة أزماتنا السياسية والفكرية والوطنيّة، والتعاطي الجاد في حلحلة مشاكلنا الاجتماعية دون شخصنةٍ للمواضيع وإثارةٍ للأحقاد والضغائن القديمة على بعضنا، والانشغال بالردّ والردّ المضاد، وبالتالي ضياع الجهود وهدر الأوقات فيما لا طائل من ورائه إلا المزيد من التشرذم والتفكّك.
إنّ البعض يأبى إلاّ العزف على وتر الشخصنة الحسّاس لعجزه عن نقد البرامج والأفكار المطروحة، فيسارع إلى تناول الأشخاص بالطعن والتجريح تعويضاً عن عجزه عن مقارعة الحجة بالحجة ونقض الدليل بالدليل، ولا ينبغي لمثل هذا السلوك أن يُشجّع وإنما جزاؤه التجاهل والمضي فيما ينفع الناس ويحلّ مشاكلهم، والترفّع عن النزول إلى هذا المستوى المتردي إنْ أُريد لهذا البلد وناسه الخير (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور:22)، فهل نصفح؟
أ.عباس النجار