ثمة قضية أود التحدث عنها منذ مدة..
عن هذه النقلة الفكرية، الثقافية، الدينية الظاهرة، الحادثة، الجارية في بنية المجتمع.. التي بدت أثرا عن التغيرات والتداخلات في المواقف الشرعية للاتجاه السلفي، وغلبة رؤى ومفاهيم اتجاهات أخرى مختلفة، أتيح لها استغلال الظرف أحسن الاستغلال.
تلك المواقف الذي أسهم حادث ضرب مركز التجارة العالمي 11 سبتمبر 2001 ، في إعادة صياغتها وفق اجتهادات خاصة، قضت بوجوب التغيير والمراجعة، تركت أثرها البارز في حركة المجتمع: الدينية، والثقافية، والفكرية. سواء في الحدود الشخصية أو العامة.
* * *
في فترة مرت منذ عقدين وأكثر، كان هنالك شبه اتفاق على الموقف الشرعي من مسائل عديدة، تتعلق بالتوحيد، والسنة، والاقتصاد، والمرأة، كذلك في المسائل الشخصية، كإطلاق اللحية، وتقصير الثياب، يضاف إلى ذلك التصوير والموسيقى. وأشياء لا يعين المقام على سردها، وهي معروفة للمتابع، كان رأي الاتجاه السلفي فيها متقاربا، والخلاف قليل لا يكاد يظهر، ومن أكبر أسباب هذا الاتفاق؛ أن هذا الاتجاه كان يتبع جملة من المشايخ، اجتمعت عليهم الكلمة واتفقت وتآلفت، كانوا في هذه المسائل متقاربين، وما بينهم من خلاف يسير، لم يكن ليؤثر في المنهج ولا الاتباع.
لم يمر العام 1421هـ حتى رحل جميعهم، فلم يتبق منهم أحد.. لم يقم مقامهم أحد، له تأثير كتأثيرهم الواسع المتجاوز للحدود والأقاليم، وكأن رحيلهم كان إعلانا ببدء تغيرات مرتقبة.
حدثت حادثة القرن، واختلت صورة المنطقة العربية والإسلامية، فاحتلت دولتان هما العراق وأفغانستان، وصعد نجم الدولة الإيرانية، وغدت دول المنطقة مهددة عسكريا ومخترقة ثقافيا، واحتمل وحمّل الفكر والاتجاه السلفي كلاهما الوزر بكامله، ونسب إليه كل ما حاق بالمسلمين من مشكلات.
وتنصل الآخرون من المسؤولية.. بعضهم أسهم في الحملة، بقصد وبدون قصد. وبه بقي التيار السلفي أو الوهابي، كما يسميه خصومه، وحيدا غريبا يتناوله الجميع من كل جانب؛ جانب الفكر، والسلوك، والفقه، والسياسة، والعقيدة. أبيح حماه، وصار كبش فداء، ومُنح مبغضوه الفرصة للنيل والغمص.
لقد وجد نفسه مهددا حتى من بعض أبنائه؛ الذين تربوا في محاضنه، حيث لم يترددوا في الإسهام في الحملة - بقصد الإصلاح لا ريب !!! – مبررين فعلتهم بأنه من قبيل الإنصاف والاعتراف بالحق، وأن المنهج السلفي يقوم على: أن الرجال يعرفون بالحق، وليس الحق يعرف بالرجال.
فانتقل بذلك عدوى التفرق، الذي كان حصرا بين الجماعات إلى التيار السلفي نفسه، فحصل التفرق فيه فكريا، وفقهيا، ليس حزبيا؛ لأن من طبيعة الاتجاه السلفي، في أصل تكوينه، لا يقوم على الحزبية، (= الهيكلية التنظيمية)، بل هو اتجاه فكري منهجي، يتبع مذهب الصدر الأول في الدين، ولا يلزم المنتسب إليه، الانضمام إلى مجموعة أو جماعة منظمة، إنما يكون منه إذا لزم مذهب الصحابة والتابعين وتابعيهم، وهكذا فإن أتباع الاتجاه السلفي لا يشترط بينهم، الاتصال الشخصي والجماعي، ولا الاشتراك في نشاط مشترك، غاية ما هناك: أنهم جميعا يتبعون منهجا واحدا، كسائر المسلمين؛ الجامع بينهم الدين الواحد، والنبي الواحد، والإله الواحد.
* * *
تفاوتت الاجتهادات، واختلفت الآراء حين خرج من العباءة من صار ينتقد المنهج نفسه، وهو موقف فاسخ للنسبة من أصلها، فالمنهج لا ينتقده إلا من يرفضه.
فما من مسألة إلا وحصل فيها إعادة نظر، تبعها تبني مواقف مضادة بالكلية، وفي بعضها جزئية، فالمسائل التي كان يظن فيها الثبوت الحكمي، عادت مسائل قابلة للنزاع والاختلاف، كان ذلك في جل أبواب الدين: • في الاعتقاد:
- كاعتبار نصرة الكافرين على المسلمين من الكفر العملي.
- وتميز أهل السنة بكونهم على الحق المنزل وحدهم، أصابوا في جميع المسائل بمجموعهم، وغيرهم أصاب وأخطأ.
- وقد كثر الكلام في المولد النبوي، وطالب بعضهم إعادة النظر في الحكم عليه بالبدعة.
• وفي قضايا المرأة:
- في كشف الوجه؛ أنها خلافية، وأن الراجح القول بالكشف، وأنه قول الجمهور.
- وتسويغ مشاركتها في النشاطات المختلطة.
- والدعوة إلى ممارسة الرياضة في المدارس.
- حتى قيادة السيارة، فالاتجاه الذي قام يوما قومة رجل واحد في رفضه، صار اليوم بين مؤيد محبذ، وساكت، وهناك من لا يزال على الأول.
• وفي المعاملات المالية:
- اختلفت الفتوى في التأمين التجاري، وكان قد سبق الإجماع على تحريمه، بحسب المجامع الفقهية، كمجمع الفقه الإسلامي، وهيئة كبار العلماء.
- ومثله في تجويز المساهمة في الشركات المختلطة، والمجامع العلمية الكبرى على التحريم.
• وفي مسائل الحج:
- ظهر الخلاف في الرمي قبل الزوال، والمكث في عرفة حتى الغروب.
• وعلى الصعيد الخاص:
- ظهر من يجوز حلق اللحية وسماع الموسيقى، ويكتب فيه المؤلفات المتضمنة أنواعا من الاستدلال، الكاشفة عن مهارة وفن نادر في طريقة استخراج الحكم المقصود، فمع الإقرار بصحة الآثار الناهية، فقد حملت على أوجه أخرى لم تكن على بال، فألحقت بباب الأخلاق، وأن الأمر في هذا الباب دائر على الندب لا الوجوب، وقد كنا من قبل نفهم الأمر بصورة أيسر من هذا، كنا نفهم: أن ما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم فهو للوجوب، إلا أن يصرفه صارف، لكن لسوء حظنا لم نفطن إلى هذا الصارف البديع (= النصوص في باب الأخلاق للندب لا الوجوب). وقد وافق على هذا بعض الفضلاء، وكلهم فضلاء نبلاء، وإن لم يكتبوا في ذلك شيئا حتى اليوم، ربما يكتبوه في يوم ما.
أمور كثيرة برزت لم تكن معهودة، وفتاوى عديدة أظهرت قرنها، ربما كانت مستترة، وقناعات يبدو أنها كانت تبحث عن فرصة البُدُوّ، وإلا فهل يمكن أن يكون كل ما كان انقلابا عارضا، لأناس عرفوا بالفقه والعلم والتمكن، مع خبرة واسعة، وذكاء لا يخفى ؟.
ليس بالضرورة أن يكون في هذا العرض، إشارة إلى اتخاذ موقف مضاد تماما، في كل المسائل والمواقف، غاية ما هنالك أنه محاولة لوصف حال التيار السلفي، منذ بضع سنين، تحت المجهر.
وليس المهم معرفة وجهة نظر فلان على التعيين، إنما المهم هو معرفة: أن تبني فكرة التغيير، وجعلها منهجا متبعا، وهدفا مقصودا لذاته. يضر بالمنهج نفسه، لا بالمسائل وحدها، فالمسائل متفاوتة، وبعضها تقبل الجدل، إنما الذي لا يقبل: أن يكون المنهج هو التغيير؛ لدافع خفي هو: مسايرة، ومواكبة، ومجاراة الواقع. لأنه حينئذ يحمل على التبديل، حتى من غير مبرر صحيح، ولا بدليل.
لا أحد معصوم، فلا مشكلة في إعادة النظر في المسائل، ولا مانع من النظر في كتب المتقدمين من علماء السنة، والذين لهم قدم صدق، ولم يعرفوا بتبني بدعة، يتخذونها منهجا، والاستفادة من أقوالهم، وعرض أقوال المعاصرين من السلفيين عليها، لمعرفة مدى موافقة المتأخرين للمتقدمين..
لا مانع من ذلك ألبتة.. المانع يكون حين يتخذ النظر والإعادة لأجل تغيير حكم قد جرى، وقول قد عمل به، حينئذ يكون القصد هو التغيير، وليس طلب الحقيقة، وهذا المنهج يحمل على التكلف في استنطاق الأدلة، والاستخراج الأقوال والآراء غير المألوفة، وتفسير الكلمات بأدنى صلة من معنى.
فمن جعل هدفه ومنهجه التغيير، فإنه لن يتردد في تحميل الدليل ما لا يحتمل، ولن يتوانى في التشبث بأي قول سابق، ولو كان شاذا، أو باردا متكلفا، أو استدلال غريبا، أو قولا عرفت به طائفة مبتدعة.
وهكذا يلج صاحب هذا المنهج في باب اتباع المتشابهات وترك المحكمات، وقد علمنا ما جاء في هذا، وهو أمر لوحظ على أصحاب هذا المنهج، فكم من مسألة تكلموا فيها، فأفتوا بما يوجب تغيير الواقع الكائن، لا لأن الدليل هو الذي أوجب. ذهبوا به أوجه بعيدة جدا، لا يزال المرء في حيرة منها، فلم يكن يصلح دليلا لما ذهبوا إليه، لكنهم جروه معه جرا، وحمّلوه ما ينأى به عن حمله وينوء.
أصبح الاتجاه السلفي على فريقين: أحدهما ينتهج التغيير، والآخر لزم مكانه.
وفي طبيعة المنهج السلفي إنتاج أفراد متحررين من قيود الشيخ وسلطة الأستاذ؛ لأنه يربى أتباعه على اتباع الدليل، وترك الشيخ لو خالفه، وبهذا فإن كل من رأى نفسه قد تأهل، لم يجد حرجا في أن يرد على هذا وهذا.. فإن أصاب فقد سلم، وإن أخطأ فقد تحمل.
لكن ليس هذا حديثنا، إنما في تزايد شقة الخلاف وكثرة الأقوال بين أبناء الاتجاه، يعود من ضمن ما يعود إليه من أسباب، إلى السبب الآنف الذكر. والسبب وإن كان محمودا، لكنه قد يستعمل بإساءة، كمن صلى يرائي.
* * *
إذا كنا لا نبطل عملية النظر في المسائل، وفي الوقت نفسه ننعى على من جعل منهجه التغيير، فقد وجب أن نحدد، متى يكون الأمر إعادة نظر محمودا، وفي أي حال يتطور ليكون منهجا بدعيا ؟.
هي مسألة كبرى، ونحن نشير إشارات، والكلمات لا تحصى، وإنما هي كلمة..
إن إعادة النظر في المسائل لا يلزم منها نقد المنهج، بينما اتخاذ التغيير منهجا، يعني إخضاع المنهج نفسه للتغيير، وهذا هو الخلل الكبير، فالمنهج هو الذي ميز الاتجاه السلفي، وجعل مكانه مكان المهيمن بالحق على جميع الاتجاهات، وأي تغيير فيه قضاء عليه.
والاتجاه السلفي يقوم على:
- إبراز أنواع التوحيد الثلاثة، خصوصا الإلهي منها، وتطبيقها عمليا وعلميا.
- وإبراز السنة الصحيحة، والعمل بها، واجتناب إبراز الضعيف منها والعمل بها.
- وتمييز الشرك والبدعة، من التوحيد والسنة.
- والاعتناء بمعرفة حدود الولاء والبراء، وتطبيقهما عمليا بعناية بالغة؛ إذ هما من معاقد التوحيد
- وتحديد مصدر التلقي في الكتاب والسنة بفهم الصحابة والصدر الأول من الأمة، وتقديمه.
- ويمنع من تقديم العقل على النقل، بل يرى أن العقل الصريح لا يعارض النقل الصحيح، إنما يعارض لو نزلت مرتبة العقل عن وصف الصريح، أو مرتبة النقل عن وصف الصحيح.
- ويمنع من العمل بالكشف والذوق والمنامات، واتخاذها مصدرا لتلقي الأحكام الشرعية.
وأصول أخرى لا يتسنى المقام استيفاءها، إنما نذكر شيئا وطرفا مهما منها، والقصد القول: أن هذا المنهج لا يمكن المساس به؛ كونه يمثل روح الدين وأساسه، الذي بني عليه، أما المسائل المندرجة تحته:
- فمنها ما يكون أصلا كفعل الصلاة، والحكم بما أنزل الله، ووجوب العمل للإيمان، فهذه الخطأ فيها خروج عن الحق، وإن كان لا يلزم منه الخروج على المنهج.
- ومنها ما يكون فرعا، وهي أكثرها، كوجوب إعفاء اللحية مطلقا، أو تحريم الإسبال مطلقا، أو التوسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم ونحو ذلك، فهذه لو أعيد النظر فيها للتحقق من سلامة الموقف والفتوى، فلا يظهر مانع من ذلك، ومثل ذلك الموقف من الواقعين في البدعة، وكيفية التعامل معهم، والتفريق بين مجرد الوقوع في البدعة، وتبني المناهج البدعية.
إن دراسة هذه المسائل بقصد التحرير والتوصل إلى القول المحرر الصواب، لا شية فيها، خصوصا إذا كان المعتمد في الفتاوى السابقة بعض الأقوال، التي كان لها حضور عارم، وهيبة يمنع من مراجعتها، إما احتراما لأصحابها، أو خوفا من مخالفتها، فربما لم تصب مذهب السلف بالدقة اللازمة، وهذا وارد؛ إذ يلاحظ في مسائل عدة: أن الاستدلال فيها بالمتأخرين المعاصرين، دون المتقدمين.
إن كل ما تقدم هو محاولة لمعرفة الطوارئ التي طرأت على السلفيين، وتقويمها، ومعرفة ما ينبغي أن يتخذ، وما ينبغي أن يجتنب، ولم يكن الغرض الإحاطة، فذلك لا تكفيه إلا رسالة وكتاب. ونحسب أنه قد أثار شيئا من حقيقة ما وقع ويقع، وقارب في بيان الصورة.
فهذا ما يتعلق بالتغيرات، أما التداخلات فنرجئها إلى مقال لاحق.
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
منقول من صيد الفوائد