أ.د. عبد الرحمن البر
أخرج الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رضي الله عنهم، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ» .
وأخرج أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ» وَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ لَهُنَّ مَثَلًا: كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا أَرْضَ فَلَاةٍ، فَحَضَرَ صَنِيعُ الْقَوْمِ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ، فَيَجِيءُ بِالْعُودِ، وَالرَّجُلُ يَجِيءُ بِالْعُودِ، حَتَّى جَمَعُوا سَوَادًا، فَأَجَّجُوا نَارًا، وَأَنْضَجُوا مَا قَذَفُوا فِيهَا.
وعند أحمد وابن ماجة وصححه ابن حبان عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَا عَائِشَةُ إِيَّاكِ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّ لَهَا مِنَ اللَّهِ طَالِبًا»
1 - شرح المثل الوارد في الحديث:
لما كان دأب الناس أن يستهينوا بصغائر الأمور ولا يلقوا لها بالا إلى أن يفاجؤوا بأنهم قد وقعوا في الأمر الكبير، أو أن اجتماع الصغيرة إلى الصغيرة قد أوقع في الكبيرة، وقد صار من الصعب تفادي آثار تراكم هذه الصغائر بعد استفحالها، وفي هذا الحديث يحذر الرسول صلى الله عليه وسلم الأمة من الوقوع في هذا الخطأ وهو ارتكاب «مُحَقَّرَات الذُّنُوب» أَيْ: صَغَائِرَهَا التي رُبَّمَا يُسَامَحُ صَاحِبُهَا فِيهَا، فيكثر من الوقوع فيها، فينقلها بالإصرار وعدم التوبة من الصغائر إلى الكبائر، أو تدفعه الاستهانة بها إلى الوقوع فيما هو أكبر فيقع في الكبيرة، ويشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن الله قَدْ يُعَاقِبُ عَلَى الصَّغِيرَةِ، لأن لها من الله طَالِبًا أَيْ: نَوْعًا مِنَ الْعَذَابِ يَطْلُبُ مرتكبها، وَفي ذات الوقت قد يَعْفُو اللَّهُ عَنِ الْكَبِيرَةِ، كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48]، ثم يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا مثالا علي ذلك: بقوم نزلوا في وادٍ، وأرادوا أن ينضجوا طعاما لهم، فجاء أحدهم بعودصغير، وجاء الآخر بعود أو بعض عود، وتتابع القوم في إحضار الأعواد، حتي جمعوا شيئا كثيرا فأنضجوا به طعامهم، وهكذا الذنوب تكون شيئا صغيرا في نظر صاحبها ويكثر بعضها بعضا حتي تكبر وتكون سببا في هلاكه.
2 - المحقرات واستهانة الناس بها :
المُحَقَّرَاتِ: جمع مُحَقَّرة وَهِي الذُّنُوب الَّتِي يحتقرها فاعلها ويستصغرها استهانة بشأنها. وهي محقرة بحسب ظن مرتكبها وقد لا تكون كذلك في الحقيقة، ولدى المؤمن حساسية كبيرة للذنب بخلاف المنافق، فالأول يخاف ذنبه الصغير والثاني لا يقلق من ارتكاب الكبائر والجنابات، فقد أخرج البخار ي وغيره عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ»
وقد رأينا كيف استهان المنافقون وضعاف الإيمان بالخوض في عرض أطهر النساء الطيبة المطيبة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة، وتناقلوا هذا الإفك ظنا منهم أن تناقله أمر هين محقور، فنزل التحذير الإلهي الكاشف عن عظم هذا الذنب وسوء تقدير الناس له فقال تعالى {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور: 14 - 17] أي تحسبون الكلام في الأعراض سهلا ،بل هو عند الله عظيم.
وأخرج البخاري عنْ أنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: إنَّكُمْ لَتَعْمَلُونَ أعْمالاً هِيَ أدَقُّ فِي أعْيُنِكُمْ مِنَ الشَّعَرِ، إِنْ كُنَّا لَنَعُدُّهَا عَلى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم المُوبِقاتِ. قَالَ أبُو عَبْدِ الله البخاري: يَعْنِي بِذالِكَ المُهْلِكاتِ. وهذا القول مروي عن عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وحتى لو كان العمل بالفعل من الصغائر المحقورة فإن اجتماع الصغائر يجعلها كبيرة، كما بين هذا الحديث، وأخرج أبو داود في (الزهد) عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: «إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الْأَعْمَالِ، فَإِنَّهَا تَرَاكَمُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ وَتُحْصِي أَعْمَالَكُمْ». وأخرج الترمذي وصححه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}». وأخرج عبد الرزاق في تفسيره عَنِ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] قَالَ: «هُوَ الذَّنْبُ عَلَى
الذَّنْبِ , حَتَّى يَرِينَ عَلَى الْقَلْبِ فَيَسْوَدَّ». وأخرج أبو طاهر المخلص في (المخلصيات) عن الحسنِ في قولِهِ: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون} قالَ: «الذنبُ على الذنبِ، والذنبُ على الذنبِ، حتى يَعمى القلبُ فيموتَ». وأخرج البهقي في شعب الإيمان عن إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ قال: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ أَبْيَضُ نَقِيٌّ مَجْلِيٌّ مُحَلًّى مِثْلَ الْمِرْآةِ، فَلَا يَأْتِيهُ الشَّيْطَانُ مِنْ نَاحِيَةٍ مِنَ النَّوَاحِي بِشَيْءٍ مِنَ الْمَعَاصِي إِلَّا نَظَرَ إِلَيْهِ كَمَا يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي الْمِرْآةِ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِنْ تَابَ مِنْ ذَنْبِهِ مُحِيَتِ النُّكْتَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَانْجَلَى، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَعَاوَدَ أَيْضًا، وَتَتَابَعَتِ الذُّنُوبُ، ذَنْبٌ بَعْدَ ذَنْبٍ، نُكِتَ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ نُكْتَةٌ حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ، وَهُوَ قَوْلُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. قَالَ: «الذَّنْبُ بَعْدَ الذَّنْبِ، حَتَّى يَسْوَدَّ الْقَلْبُ فِي إِبْطَاءٍ، مَا نَجَعَ فِي هَذَا الْقَلْبِ الْمَوَاعِظُ، فَإِنْ تَابَ إِلَى اللهِ قَبِلَهُ اللهُ وَانْجَلَى عَنْ قَلْبِهِ كَجَلْيِ الْمِرْآةِ».
ومن جهة أخرى فإن الإنسان حين يقع في الذنب الصغير مرة بعد مرة من غير توبة واستغفار تهون المعصية في نفسه شيئا فشيئا فيتجرأ بعد الوقوع في الصغائر على الوقوع في الكبائر فيهلك، ومن هنا دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى ترك المشتبهات من الأمور؛ لأن من تجرأ على تعاطي تلك المشتبهات، فإنه لا يأمن أن يقع في الحرام الواضح، لأنه بسبب اعتياده وتساهله وتجرُّئه على المتشابهات تصير فيه جرأة على ارتكاب الحرام غير المشتبه عليه، وفي هذا أخرج الشيخان عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رضي الله عنهم، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «الحَلاَلُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَةٌ، فَمَنْ تَرَكَ مَا شُبِّهَ عَلَيْهِ مِنَ الإِثْمِ، كَانَ لِمَا اسْتَبَانَ أَتْرَكَ، وَمَنِ اجْتَرَأَ عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ مِنَ الإِثْمِ، أَوْشَكَ أَنْ يُوَاقِعَ مَا اسْتَبَانَ، وَالمَعَاصِي حِمَى اللَّهِ مَنْ يَرْتَعْ حَوْلَ الحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ».
ولما كان مرتكب الصغيرة تجره العادة إلى ارتكاب الكبيرة كان التحذير النبوي من الاستهانة بالوقوع في الصغائر، حتى حذر النبي صلى الله عليه وسلم من سرقة البيضة والحبل، فيما أخرجه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ، يَسْرِقُ البَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ» فقال أهل العلم : إن البيضة والحبل أقل من النصاب الذي يقطع فيه السارق، ولكنه إذا تعاطى هذه الأشياء الحقيرة وصار ذلك خُلُقاً له جرَّأه على سرقة ما هو أكثر من ذلك مما يبلغ قدره ما يقطع به ، فليحذر هذا القليل قبل أن تملكه العادة فيتعاطى سرقة ما هو أكثر من ذلك