:13: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
العشر الأواخر
أي شـهر قد تولى ياعباد الله عنَّـا
حُقَّ أن نبكـي عليه بدماءٍ لو علمـنا
كيف لا نبكي لشهر مـرَّ بالغفـلة عنَّا
ثم لا نعلـمُ أن قد قبلنـا أو طردنا
ليت شِعري من هو المحروم والمطرود منَّا
ومن المقبـول ممن صـام منا فَيُهَـنَّا
أيها الناس : وها قد أظلتنا هذه الأيام وأقبلت علينا ليالٍ عظيمة ، وساعاتٍ قليلةٍ مشهودة ، تُعلنُ بقدومها بداية النهاية ، نهاية ووداع لهذا الشهر المبارك ، المفعم بالخيرات والنفحات من الرحيم الرحمن ، شهر الغفران.. شهر الرحمات ، شهرُ تَفتُّحِ الجنان.. وإغلاقُ أبواب النيران.. شهر التقوى والتنافس والتسابق على فعل الخيرات ، إنه وداعٌ يملأ القلوب المؤمنة حزنا وأسى ، بعد أن امتلأت فرحا بمقدمه..
فما أسرع ما انقضت الأيام ، وتلاشت الذكريات ، وكأنها أوراق الخريف عصفت بها رياح أقدار الله.. فليت شعري كيف سيصبر المؤمنون على فراقه وهم يرقبون غروب شمس آخر أيامه..
أيها المسلمون:
العين تدمع.. وحُقَّ لها أن تدمع.. لأنه شهر رمضان ، وما أدراك ما رمضان..؟ فيه عادت القلوب إلى ربها ، وهدأت النفوس واستأنست بكلام ربها ، فيه امتلأت المساجد بأهلها ، وتزاحمت الأمة المسلمة لنيل فضل ربها ، ما بين قائم أو ساجد أو معتمر أو متصدِّق أو تالياً للقرآن ، إنه: ((شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن هدى للناس وبيِّنات من الهدى والفرقان..))
فيه تلألأت صورٌ مشرقة لتكاتف الأمة المسلمة ، ومرَّت لحظاتٌ جِدُّ مؤَثرة لتنسج لنا أجمل الذكريات على ضفاف أنهار الدموع بين يدي المولى جل جلاله ، رمضان..إنه كشمعة أُوقدت لتضيء للحائرين دروب الظلمات ، وتفتح آفاقاً للتائبين ، لقد أوشك رحيله ، فأين هو بعد أيام قلائل..؟ ألم يكن بين أيدينا..؟ ألم يكن ملأ أسماعنا وملأ أبصارنا ؟
بلى.. فماذا عسانا قدّمنا فيما مضى منه ، وهل أحسنا فيه أو أسأنا..؟
من هو المقبول منا فَنُهَنيه ، ومن هو المحروم فَنُعَزِّيه..؟
وإنه سيأتي يومٌ يندم فيه كلُّ أحد منا؛ فالمقصر يندم على تقصيره ، والمحسن يندم ويود أن لو استزاد..!!
أيها المسلمون ..عباد الله:
ها هو شهركم قد قوِّضت خيامه ، وغابت نجومه ، فلم يبق إلا قليل من ثلثه الأخِير.. فيا أيتها الأنفس المؤمنة والتي مازج الإيمان شغاف قلوبها ، ولعقت نفوسهم حلاوته ، شمِّروا عن ساعد الجد فيما بقي ، وما بقي أقل مما مضى وأعظم شئنا ، ويا أيها المذنب.. وكلنا ذاك ، ويا أيها المقصر وكلنا ذاك المقصر : هلاَّ التفت إلى نفسك ، وتفكرت في خطايا لو عُوقبت ببعضها لهلكت سريعا ، ولو كُشِفَ للناس عن بعضها لاستحييت من قبحها وشناعتها..!!
بكى الناس وما بكيت ، تصدق الناس وما تصدقت ، إرعوا المذنبون وما ارعويت ، تاب المقصرون ورجعوا عن تقصيرهم وخطئهم وما تبت وما أقلعت وما رجعت..!! ماذا تنتظر..؟ قُل لي بالله عليك ماذا تنتظر..؟
أُفٍ ثم أُفٍ لنفسٍ مريضة ، إنسلخ عنها شهر رمضان وما انسلخت هي عن قبيح فِعالها ، إنسلخ عنها رمضان ولم تذق حلاوة الإيمان ولا لذة المناجاة ، بل انسلخ رمضان وانقضى ولم يَفُز بالمغفرة ، ولم يسعى إليها ، ولم يحرص عليها ، جاء في مسند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: (( رَغِمَ أنفُ رجلٍ ذُكرت عنده فلم يصلي عليِّ ، ورغم أنفُ رجل دَخَلَ عليه رمضان فانسلخ قبل أن يُغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة..)) صحيح.
إخوة الإيمان:
وهكذا تنطوي صحيفة رمضان ، وتُحفَظ في سجل أعمال هذا العام كما حُفظ غيرها من الأعوام ، تنطوي بعد أن كانت عامرةً بالخيرات والحسنات ، ربح فيها من ربح ، وخَسِر من خسر ، وحُرم من حُرم ، على تفاوت كبير في درجات الربح أو الخسران أو الحرمان.
(( والوزن يومئذٍ الحقُّ فمن ثَقُلَت موازينه فأولئك هم المفلحون * ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)) الأعراف8ـ9
ثم اعلموا إخوة الإيمان أنكم قاب قوسين أو أدنى ستقفون على مشارف مضمارِ سباقٍ جديد ، وخيرات ليس لها مثيل ، هي عشرُ ليالٍ فقط ، وفيها ليلة واحدة هي خير من ألف شهر ، من حُرم خيرها فقد حُرم ، إنها ليالِ العشر الأواخر.. وما أدراك ما ليال العشر الأواخر..؟
لقد كان نبيكم وحبيبكم صلى الله عليه وسلم يجتهد فيها ما لا يجتهد في غيرها من أيام الشهر ، كما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره )) رواه مسلم. وعنها أيضا قالت: (( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل ، وأيقظ أهله ، وجدَّ وشدَّ المئزر ))رواه مسلم: كناية عن اعتزاله للنساء وتفرُّغه للعبادة وانشغاله بها عمَّا سواها..
فكان النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العشر يتقلب في أنواع القُرُبات والطاعات ، وبطول قيام وسجود وركوع ، ومن ذلك أنه صلى ببعض صحابته حتى خَشُوا أن يفوتهم الفلاح: يعني السَّحُور..
فمن كان ـ عباد الله ـ محبا للمصطفى صلى الله عليه وسلم فهذا هديه في هذه العشر ، ومن كان متحريا لليلةٍ هي خير من ألف شهر ؛ فها هي أبوابها قد أوشكت لِتُفتَحَ لطالبيها، ومن كان صاحب ذنوبٍ وخطيئات ـ وكلنا كذلك ـ فعلى أعتاب ليال العشر وليلة القدر تسكب العبرات..
ومن هديه صلى الله عليه وسلم فيها أيضا أنه كان يخُصُّها بالاعتكاف ولزوم المسجد ، فأحيوا هذه السُنَّة ، وإن لم تتمكنوا فأكثروا من الجلوس في المساجد للذكر وتلاوة القرآن وكثرة السجود ، فقد صحَّ عنه صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف في كل رمضان عشرة أيام ، فلما كان العام الذي قُبض فيه اعتكف عشرين يوما ))
وصح أيضا كما عند البخاري من حديث عائشة رضي الله عنها: (( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله ، ثم اعتكف أزواجه من بعده ))
ووقت استحباب الدخول: قبل غروب الشمس من ليلة الحادي والعشرين ، ووقت الخروج: أن يخرج إلى صلاة العيد من معتكفه ، وإن خرج قبله جاز.
( وهذا هو الراجح في هذه المسألة)
أيها المؤمنون:
وإن مما يَتَسَارعُ إليه ، ويَتَسابقُ عليه أهل الإيمان والتقوى ، سواءً الأولين أو الآخِرين , ويحرصون على الفوز والظفر به ؛ هو تحري ليلة القدر ، ولقد وصفها الله عز وجل بأنها مباركة ، لكثرة خيرها وبركتها وفضلها ، وإن من أعظم بركتها هو نزول القرآن الكريم ، ونوره المبين: (( إنَّا أنزلناه في ليلة مباركة إنَّا كنَّا منذرين* فيها يفرق كل أمرٍ حكيم*أمراً من عندنا إنَّا كنا مرسلين* رحمة ًمن ربك إنه هو السميع العليم)) الدخان3ـ5 وقال تعالى( إنا أنزلناه في ليلة القدر..))
ومن فضائلها ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه)).
ولذلك فقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة متى يتحرَّاها الناس كما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( التمسوها في العشر الأواخر في الوتر)). وجاء عند البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((التمسوها في العشر الأَواخر من رمضان ، ليلة القدر في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى ))الجامع الصحيح
وغيرها من الأحاديث الصحيحة والتي لا تحدد ليلة بعينها ،
قال في فتح الباري : (أرجح الأقوال أنها في وترٍ من العشر الأخير وأنها تتنقل )
وقد أخفى الله عز وجل علمها عن العباد رحمة بهم ، ليكثروا من العبادة والطاعة ، طلبا لتلك الليلة ، ومن أطال طرق الباب حتما لابد أن يُفتح له..