الوسواس وسبيل الخلاص منه ..
هناك مقدمتان مهمتان في سبيل الخلاص من الوساوس والخطرات التي إنما هي نزغات من نزغات الشيطان ومكائده.
المقدمة الأولى: مقدمة علمية (الخطوة الأولى في العلاج)
المقدمة الثانية: مقدمة تطبيقية (الخطوة العملية في العلاج).
المقدمة الأولى:
تتلخص في نقاط:
1 -: حياة القلب ومادّته.
فإن حياة القلب وإشراقه مادة كل خير فيه، وموته وظلمته مادة كل شر فيه.
وإن حياة القلب وصحته لا تحصل إلا بـ:
- إدراكه للحق. لأن الجهل بوابة الفساد والعطب، فحين لا يدرك الحق فإنه حتما سيحويه الباطل ولابد.
- إرادته له. فإنه حين يدرك الحق ويعلمه لكنه غير مريد له فأنى له أن يحيا؟!
- إيثاره على غيره. وحين يدركه ويريده لكنه يؤثر هواه ونفسه الأمارة بالسوء على هذا الحق فإنه كالمتخبط في ظلمات التيه!!
فصار مدار ذلك كله ومرجعه إلى الحق الذي هو الروح، ولن يجد القلب له أماناً ولا قرارا ولا اطمئناناً إلا حين تسري فيه الروح، وأعني بالروح روح الوحي الذي قال الله - تعالى - فيه: " وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ " سورة الشورى.
فأخبر - تعالى - أن هذا القرآن إنما هو الروح والنور والهدى، وكل هذا - أعني الروح والنور والهدى - مادة الحياة الحقيقية وآية السعادة والإطمئنان.
عُلم من هذا أن شفاء القلب وصلاحه وحياته إنما يكون من معين القرآن ومن منبع الوحي العذب الرويّ.
2 -: فساد القلب وشقاؤه.
أمّأ فساد القلب وشقاؤه إنما يكون بـ:
- بالجهل.
- والغفلة.
- واتباع الهوى.
فبقدر هل العبد بربه بقدر ما يشقى القلب ويتعس لبعده عن مادة الحياة.
وحين يبعد القلب عن الله وعن مادة الحياة التي تحييه تتسلط عليه الشياطين بأنواع المكائد والوسوسة، لأن الشيطان يخنس ويبعد عن القلوب الحية الذاكرة لله - جل وتعالى -، ويستقر ويتسلّط على القلوب التي بعدة عن الله - جل وتعالى -.
وإن أعظم ما يتسلّط به الشيطان على قلوب بني آدم إنما يكون بسلاح (الوسوسة).
3 -: الوسوسة وسلطة الشيطان. والوسوسة: حديث النفس والصوت الخفي.
وهي مكيدة الشيطان (الوسواس الخناس)!
فإنه يخلط الأمور ببعضها حتى ما يكاد تبين وجه الحق فيها إلا لمن عصمه الله - تعالى - من كيده ووسوسته.
إن إدارك تسلّط الشيطان ونزغاته ووساوسه ومعرفة حقيقة الشيطان وطبيعته ليولّد عند المرء وعياً يعينه على إدراك طبيعة النزغات الشيطانية والموقف الصحيح منها.
وإن المتأمل لآيات القرآن يجد شدة عنايته بالتحذير من مكيدة الشيطان وشركه أكثر من تحذيره من النفس والهوى.
لأن شر النفس وفسادها ينشأ من وسوسته فهي مركبه وموضع شره ومحل طاعته.
ويمكن أن نلخص طبيعة عمل الشيطان في إشارات مهمة ينبغي إدراكها:
- وجوده.
قد أخبر الله - تعالى - بوجود إبليس، وان وجوده إنما هو وجود فتنة وإضلال لبني آدم.
قال - تعالى -: " وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ "
وقال في إبليس: " قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ "
- ترصّده.
إن الشيطان أحرص ما يكون على الإنسان عندما يهمّ بالخير أو يدخل فيه فهو يشتد عليه حينئذ حتى يقطعه، في الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن شيطانا تفلّت عليّ البارحة فأراد أن يقطع صلاتي "!
وكلما كان العمل أنفع للعبد وأحب إلى الله كان اعتراض الشيطان له أكثر.
جاء في المسند من جديث سبرة بن أبي الفاكة أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرافه، فقعد له بطريق الإسلام فقال: أتسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء آبائك!!
فعصاه فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك؟
وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطِّوَل، فعصاه وهاجر.
ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويُسم المال؟
قال: فعصاه فجاهد ".
فالشيطان للعبد المؤمن بالرصد والمرصاد مصداق قول الله - تعالى - فيه: " ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ " الأعراف.
- حقيقة سلطانه.
قد أخبر الله - تعالى - عن إبليس أنه ليس له سلطان على الذين ءامنوا فقال: " إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ "
فنفى - جل وتعالى - سلطانه عن من اتصف بصفتين:
- الإيمان. (آمنوا).
- العمل. (وعلى ربهم يتوكلون).
والسلطان سلطان الحجة والبرهان، وإبليس ليس له حجة ولا برهان على مكائده ووسوسته إنما سلطانه بالإغواء والوسوسة.
هذا هو سلطانه كما فسره حبر الأمة وترجمان القرآن ابن عباس - رضي الله عنهما -.
وإنما سلطان إبليس على الذين يتولونه، قال - تعالى -: " إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ "
فبيّنت هذه الآية أصناف من يتسلّط عليهم إبليس:
- الذين يتولّونه: بإتباع الهوى والاستجابة لداعيه والغفلة عن ذكر الله.
- الذين هم به مشركون: وهم طائفة أشد ضلالا ممن قبلهم.
المقصود أن حقيقة سلطان إبليس إنما هي سلطة إغواء ونزغ لا سلطة حجة وبرهان.
وهذه السلطة سلطة ضعيفة في حقيقتها كما أخبر الله - تعالى - بقوله: " إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا "
4 -: الشعور بضرورة العلاج. وإدراك أن هذه الوسوسة إنما هي كيد الشيطان ونزغاته.
فإن هذا الإدراك هو بداية الطريق في صدّ هذا الكيد ودفعه، فإن الإنسان حين لا يدرك أن هذا من كيد الشيطان ووسوسته فإنه لا يزال به حتى يصرعه أسيرا للوسوسة والتزيين والإغواء والإغراء.
5 - الوسواس القهري كمرض (عقلي أو نفسي).
هو من الأمراض النفسية العصابية (Neurosis)، وهو من الأمراض التي تختلف فيها وجهات نظر العلماء المختصين في هذا المجال فبعضهم ينظر له بأنه حالة دفاع لا شعوري ضد الأمراض العقلية (الذهانية Psychosis).
فيما يرى آخرون أنه مرض نفسي عصابي ولا يتحول إلى مرض عقلي إلا إذا كانت الشخصية مهيئة أساساً بالاستعداد للإصابة بالذهان.
* الصفات التي تتصف بها الشخصية المهيئة للإصابة بالوسواس (الشخصية الوسواسية):
1 - العناد.
2 - حب الروتين الزائد والتدقيق.
3 - شدة تأنيب الضمير.
4 - شخصية جافة عابسة لا تعطي للنفس فرصة للترفيه والمرونة والخروج بها عن المألوف والروتين المعتاد.
5 - يغيب عنه الشعور بالأمان.
6 - لا يعرف التصرف في الأحداث الطارئة والمفاجئة رغم أن ذكائهم غالباً فوق المتوسط.
7 - كثيرا ما يكون في أعمار المراهقة ما بين 17 - 27 تقريباً.
* أهم صفات هذا الوسواس (القهري):
أنه يتميز الوسواس القهري بوجود وساوس معينة في ذهن المريض رغماً عنه، وهي عادة ما تكون غير سارة وملازمة للمريض وتحمل الهم والغم، ورغم قدرة المريض على التعرف عليها وعلى وعيه بأنها تافهة وخاطئة إلا أنه لا يستطيع إيقافها، وكلما حاول مقاومتها تزداد معه أكثر ومن هنا تأتي معاناته العميقة فهو يعلم ويدرك عدم صحة أفكاره (على العكس من المريض الذهاني الذي يقتنع ويقنع الآخرين بصحة اعتقاده).
ويحاول المريض جاهداً أن يهمل أو يكبت هذه الأفكار والرغبات والخيالات أو يحاول أن يعادلها بأفكار ورغبات أو أحيانا أفعال مضادة.
وهو ما يترتب عليه معاناة نفسية واجتماعية حادة.
* مظاهر الوسواس القهري:
يتخذ الوسواس القهري صورا ومظاهر أهمها:
1- وسواس الأفكار.
سيطرة فكرة معينة على ذهن المريض وغالباً ما تكون فكرة غير مقبولة.
2 - وساوس الصور.
سيطرة صور معينة على ذهن المريض بشكل مستمر أو متكرر وغالباً ما تكون صور عنيفة حوادث سيارات، جثث، قتل، دماء، تعفنات.. ورغم علم المريض بعدم وجودها إلا أنها تطارده في كل الأوقات.
3 - وساوس الاجترار.
تسيطر على المريض أسئلة متكررة لا يستطيع الإجابة عنها كسيطرة (خلقنا الله إذن من خلق الله؟ ).. وهكذا.
4 - وساوس الاندفاعات.
وهي اندفاعات قهرية تسيطر على المريض فيشعر برغبة جامحة أو اندفاع ما نحو القيام بأعمال لا يرض عنها ويحاول مقاومتها إلا أنها تسيطر عليه بإلحاح وقوة، كالقفز من النافذة، أو من السطح العالي أو من البحر، أو نحو ذلك.
5 - وساوس الطقوس الحركية.
وهي من أكثر الأعراض الوسواسية شيوعاً وهي القيام بحركات مستمرة متكررة نتيجة رغبة جامحة تسطير على المريض للقيام بهذه الطقوس ظناً منه أنها ستخلصه من إلحاح أفكاره المسيطرة عليه، فمثلاً قد يعتقد أن يديه ملونة فيبدأ في غسلها بالماء والصابون عدة مرات ويعود ويغسلها مرة أخرى، أو استغراقه لوقت طويل في الحمام (ليتوضأ للعصر يحتاج ساعة أو أكثر).
faris_sa2000sa@************ المصدر :