تحت عنوان ( اصنعوا التاريخ من مواقعكم المختلفة وتصدروا موكب الشهود الحضاري ) يكتب الأستاذ أحمد القميري * فيقول :
لندرك جميعا أن لحظات السقوط هي بداية الإقلاع وبداية الارتفاع وبداية التغيير الحقيقي وأن في رحم مرحلة السقوط ينشأ جنين الانبعاث الجديد .
لقد واجهت الأمة تحديات استهدفت كيانها من الأساس وبنيانها من القواعد ، عاشت صراعا مريرا وعنيفا مع المستعمر ثم مع فئة التغريب ، الفئة التي تغربت واستسلمت للغازي وقد جاءت دول ما بعد الاستقلال فكرست الوجود الاستعماري وكرست الظلم والاستبداد والفرقة .
خرجنا بدول تبحث عن مشاريع تجزئة الدولة القطرية والدعوى إلى إنشاء كيانات شبيهة بالكنتونات التي كانت موجودة في لبنان ، كل مجموعة تعمل لها دولة ، دولة الدولة تجزئة التجرئة .
هذا جانب وبالمقابل هناك جانب آخر مشرق ، فقد خرجت الأمة من هذا الصراع الذي عانت منه بمسألة جوهرية وهي إثبات هويتها العقائدية والثقافية ، الأمة اليوم أعلنت بطريقة وبأخرى ، بتكتلاتها المختلفة ولافتاتها المتعددة بأنه لا يمكن لهذه الأمة أن يكون لها مقوماتها وكينونتها وشخصيتها المستقلة ولها القدرة على الظهور في الألفية الثالثة ومواجهة الثقافات العالمية التي تجاوزت الحدود والجغرافية إلا أن تكون الهوية الإسلامية محور الأمة العربية والإسلامية محور الأمة العربية والإسلامية وقطب رحاها ، وبالتالي فإن مسألة إثبات أن الإسلام هو عنصر الحياة والحيوية لهذه الأمة صارت قضية محسومة وإنجاز يحسب لكل الذين ساهموا في تحقيقه من داخل الحركة الإسلامية أو من خارجها على حد سواء .
وليس مطلوبا منا أن نظل ندندن بأن الإسلام هو الحل وبأن الإسلام هو الذي يحافظ على هذه الأمة ... طبعا لا يعني بحال أن هذا الكلام سهل وبسيط هذه حقائق على مستوى العقيدة أن نقول أن الإسلام هو الحل ، فالأمة اليوم سلمت قيادها الفعلي لهذا الدين ، لهذا الهدى المنزل من عند الله .
ولكن ماذا بعد وقد سلمنا بهذه المقولة وهذه الفكرة ؟
ما هو المطلوب منا وما هو المنتظر ؟
هل نظل نمدح هذه الفكرة ونثني عليها ؟ هل نظل نقدح في الآخر وندينه ونحاكمه ؟
هل نظل نقلب في صفحات الماضي القريب والبعيد لنثبت للأمة أحقية هذا المنهج ؟
صحيح أنه ينبغي أن تضل ذاكرة الأمة حية في تجاربها المريرة حتى لا تنسى وحتى لا يلعب بهذه الذاكرة مرة أخرى ينبغي أن نحافظ عليها ولكن لا نقف عندها طويلا .
جيل التمكين لا جيل إثبات الهوية
إذا ما هو المطلوب منا اليوم ونحن نلج إلى قرن جديد وإلى مرحلة جديدة وإلى تحولات كونية هائلة ؟ وهي تحولات لسنا في مكان قصي عنها وليست منا ببعيد ، إننا نعيش في مركز التأثير والتأثر ، في عصر القرية الكونية التي أصبحت بدهيه من بدهيات هذا العصر وحقيقة من حقائقه ، والتي لا يمكن أن نغفل عنها أو أن نتجاوزها أو نقفز عليها .
وهو أمر يتطلب منا أن ننظر إلى تحت أقدامنا وأن نتحسس مواقعنا ثم نستشرف مستقبلنا .
ولكن ما هي الفئة العمرية التي يمكن أن ترسم من الراهن ومن اللحظة التي نحن فيها مستقبل ومصير هذه الأمة ؟ إذا لم يكن الشباب فمن سيكون ؟
هل تلك العناصر التي قد شاخت وعاشت التجارب المحبطة والمنكسة ؟
هل تلك العناصر المسكونة بروح التجارب الفاشلة من جهة واستصغار نفسها وقدراتها أمام هذه التحديات الجديدة من جهة أخرى ؟
لا .. لا يمكن أن تواجه التحدي الجديد إلا نفسيات جديدة خرجت من الارتهان لهذا الواقع المؤلم والحالك والبائس ... لا يمكن أن يواجه هذا المستقبل إلا نفسيات تحررت من موروثات الماضي والعيش فيه والتحاكم إليه والدندنة حول قضاياه .
ولن يكون هناك مثل الشباب أقدر وأجدر على القيام بهذا الدور المنتظر .
وإذا وعوا وأدركوا هذا الدور فسيكونون نقطة تحول فارقة في حياة أمتهم .
وأقصد بالشباب هنا الطالب والعامل والطبيب والمهندس كل فئات المجتمع مستقبلا هي التي ستحمل الدور القادم – وهو في تقديري الشخصي – دور عظيم لأنكم جيل فيما يبدو ويظهر لي تحرير من كثير من العقد والقيود التي عاشتها الأجيال السابقة ، لأن الأجيال السابقة كانت وليدة أوضاع ظلم وقهر واستبداد محلي وخارجي ، وعاشت في أجواء تشر ذم وتشتت وتمزق ، كل هذا الأوضاع والأجواء سيكون محصلتها أدعى أنه تحرر .
أنظر لتلك الأجيال التي عاشت تلك الأوضاع كيف انتكست ، سرعان ما رفعت شعارات ضخمة كالحرية والديمقراطية لكنها حينما وصلت إلى مقاليد السلطة مارست أبشع أنواع القهر والاستبداد لأنها كانت مسكونة بالقهر والاستبداد باعتبارها وليدته ومحصلة بيئته .
أقول هذا الجيل سيكون جيل التغيير إن شاء الله ، جيل التمكين لهذا الدين ، جيل تحقيق المشروع الإسلامي الحضاري بأبعادة وجوانبه وفروعه وتشعباته المختلفة وليس جيل إثبات الهوية .
الجيل السابق والذي لا يزال بعضه يعيش حتى الساعة كانت مهمته إثبات الهوية والحفاظ على مقومات الأمة وكينونيتها من أن تتلاشى وتنتهي وتبيد حافظ على هذا الكيان ووصل إلى القدر الذي شكل إجماعا على مستوى العالم الإسلامي كله بأنه هوية الأمة لم تكن ولن تكن إلا بالإسلام وبالإسلام وحدة ، هذه قضية الجيل السابق ناضل وجاهد وكافح من أجلها ووصل إلى الغاية المنشودة فيها .
الأمل فيكم أن تقدموا النموذج العملي والبديل المشاهد ، وأن تصنعوا الحدث ولا تكونوا صدى أو رجع صدى لحدث أخر .
ليس المطلوب منكم أن تقرءوا التاريخ بل أن تصنعوا التاريخ من مواقعكم المختلفة وأن تدخلوه من أوسع أبوابه ولا تستصغروا أنفسكم ولا تتقزموا أمام هذه القيم العالية فالأمور قابلة لمن عزم وصمم وكانت له إرادة قوية .
مطلوب منكم اليوم دور ثقافي واجتماعي واقتصادي وسياسي ، مطلوب وفي مختلف جوانب الحياة .
تواصل وتفاهم وحوار
وإذا كان من الصعب الحديث عن كل هذه الأدوار فقد ركزت على ثلاثة أدوار رئيسية :-
الدور الأول :- دور دعوى ثقافي :
وهذا الدور مشروع دولة ، مشروع أمة بكاملها ، وليس مشروع فئة معينة أو حزب بعينه ، لأن الثقافة لا يمكن أن تتحملها فئة أو يحتكرها فرد ، وأتصور أن أول منطلق في هذا الجانب هو أن يكون المشروع خلافيا – ولا نتخوف من هذا الجانب هو أن يكون المشروع الخلافي يعني اجتهاد ، ولهذا يسمى مشروعا أي أنه قابل للخطأ و الصواب ، لا أقول مشروعنا الكتاب والسنة لأنهما معصومان ، ولكن أقول مشروعنا الإسلامي من الكتاب والسنة ، يعني اجتهادنا وفهمنا للإسلام ولكيفية التمكين له في الأرض ، إذا أول نقطة مطلوبة هي استيعاب المشروع الإسلامي استيعابا حقيقيا وليس فقط الإيمان والإعجاب به .
النقطة الثانية :
ضرورة فهم الواقع الثقافي الحالي والتعامل معه بندية وكفاءة واقتدار ، إذ لا بد لشباب التغيير أن يفهموا طبيعة المعركة الحالية ، المعركة الثقافية من أقوى وأعنف المعارك فالمدخل للاستعمار اليوم لن يكون إلا عبر الثقافات وصراع الحضارات وهي ثقافة لا تغزونا إلى داخل البيوت بل تقتحم علينا أسرة نومنا ، تهاجمنا ليل نهار وفي كل لحظة وتأتينا بوسائل عصرية حديثة ومثيرة مستخدمة كل التقنيات والعلوم الحديثة في إيصال فكرتها إنها معركة تحتاج أن نستوعبها وأن نفقة مفرداتها وأن نفهم مصطلحاتها ومرتكزاتها وأن ندرك آثارها النفسية والفكرية والخلقية حاضرا ومستقبلا .
إن حل المشكل الثقافي يحتاج إلى جهد كبير وعقول كبيرة وثقة عالية بما عندكم فلا مجال اليوم للخوف ولا مجال للتواري ولانزواء ، إن مرحلة نصب الأسوار الحديدية على العقول انتهت ولا يمكن ولا ينبغي أن يخطر ولو في عالم الخيال أن يتخوف المسلم من الاحتكاك بغيره ، وأن يجادل ويحاور ويتعامل مع الآخر .
إن الإسلام في أصله وجوهره ، في هدفه وغاياته يبحث عن التفاعل ويبحث عن الاتصال وحرية التواصل والمسلم الواثق من مسيرته الواعي لفكرته المستوعب لحضارته ، لا يهرب من هذه المعارك والمعتركات بل يرحب بها ويسعى إليها وهو مستيقن في النهاية بأن الغلبة له ، لأنه يملك الحجة والمنطق ويحب الحق والعدل والجمال ( قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ) .
إن الواقع الثقافي اليوم واقع خطير ، وقد تحدثت في أكثر من مناسبة – بأن الثقافة صارت مشاعة لا تعرف عائقا ولا تصدها حواجز ، فحتى الأمية لم تعد عائقا فيمكن لامرأة أمية أو لراعي غنم أمي في أقاصي الصحراء أو في أعالي الجبال أن يكون مثقفا من خلال الفضائيات التي تستدر من كل مكان ومن خلال الصوت الصورة يمكن أن يستوعب الكثير والكثير ويحدث له تحولات نفسية وفكرية وأنت لا تدري وتتصور أنه أميته يحمي نفسه أو أنه في حصن حصين من التغير والتحول والتبدل وهذا نوع من الجهالة .
النقطة الثالثة :
أن يتقن الشباب تخصصاته المختلفة فمعركة العالم اليوم ، معركة علم ، معركة معلومات ، معارف ، تقنيات والصراع صراع معرفي حضاري وليس صراع طائرات وصواريخ ودبابات فقط .
إن إتقان التخصص عبادة وجهاد ، معناه التغير إلى الأحسن ولهذا لا بد لنا من متخصصون في كافة العلوم الإنسانية والتقنية والهروب من التخصص تحت ذرائع مختلفة يدل على عدم وعي وأدارك لحقيقة الدور المطلوب من المسلم الذي يريد أن يعيش عصره ويتعامل مع خصومه .
النقطة الرابعة :
ينبغي أن نقوم بنشر الفكر والعلوم والثقافة في أواسط الأمة لأن تحصين الأمة ليس بضرب أسوار من الممنوعات أو من الأحوطيات ، لا مجال اليوم لأن نقول هذا ممنوع وذاك مرفوض ، إذا أردنا فعلا أن نكون أندادا وأكفاء في هذا العصر الذي لا يحترم الضعفاء ولا يقدر المهازل علينا أن ننشر الثقافة الحية والفكر الصحيح والعلم الصائب ، العلم الذي يجعل الإنسان ينبذ الخلافات التي مزقت الأمة وفرقت شملها ، العلم الذي يجعل الناس يتعاملون مع النبع الصافي في القرآن الكريم والسنة النبوية ثم التعامل مع قضايا العصر وفهمها وإنزال النصوص المناسبة في الحوادث والأحوال المختلفة لهذا الظرف ولهذا العصر الذي نعيش فيه ، والثقافة التي تقنع الناس بأهلية ومشروعية المشروع الإسلامي، الثقافية التي تحميهم وتحصنهم من كافة الاختراقات الثقافية التي تعني احترام تجارب الأمة المسلمة وما أنتجه العلماء السابقون ، الثقافة التي لا تجعلنا فعلا نواكب المعرفة ونستفيد من الخطأ رفضا له وإنهاء لآثاره ، ونستفيد من الصواب تعميقا له وتجذيرا لمدلولاته لحقائقه .
الدور الثاني :-
دور اجتماعي :
على الشباب أن يقوموا بهذا الدور الاجتماعي لأن المطلوب اليوم تغيير في بنية المجتمع وإعادة صياغته صياغة جديدة حتى يصبح مجتمعا حقيقيا متماسكا ومتآخيا ومتحابا ، الحزبية فيه مزيد من الحوار والتآلف والعطاء وليست طريقا لتصفية الحسابات الشخصية أو الأسرية أو العنصرية أو الطبقية أو السياسية ، الحزبية عنده طريق ووسيلة من وسائل التواصل والتفاهم والحوار ، الحزبية معناها دين للاعتراف بالآخر وإنصافه ( ولا يجرمنكم شنآن قوم على لا تعدلوا ) .
نحن بحاجة لأن نقوم بهذا الدور الاجتماعي لأننا نعيش كثير من مظاهر الظلم والاستبداد لأن مجتمعنا بنيانه متفكك شبكة العلاقات الاجتماعية فيه كما قال أحد المفكرين :
إما مقطعة أو واهية لا تقوى على المواجهة الجماعية لكل مظاهر الظلم والقهر والاستبداد.
نحن بحاجة لأن نقوم بهذا الدور الاجتماعي عبر قياس لأنشطتنا المختلفة في المدارس والجامعات ، عن طريق الاتحادات والنقابات والجمعيات ، نقدم النموذج الذي يتجاوز الحساسيات العنصرية والمناطقية والحزبية ، نعلم بعضنا بعضا كيف نتحاور وكيف نتنافس تنافسا مسئولا ، وكيف نقدم الأكفاء وإن كان لا ينتمي لحزبنا أو جماعتنا ، كيف نقدم الصالح العام على الصالح الخاص والصالح الوطني على الصالح الحزبي .
ينبغي أن نقوم بهذا الدور سواء في الوسط الطلابي أو الشبابي أو في أوساط الطلابي أو الشبابي أو في أوساط المجتمع المختلفة هذا إذا أردنا فعلا تغييرا حقيقيا في واقع يبشر بهذا المجتمع ، حينما يربي هذا الإنسان على ألا يأخذ حق غيره بل يتنازل عن بعض حقه لغيره حينما نعلم آباءنا وإخواننا وأبناءنا أننا نكره الظلم ولو صدر منا ، ونكره الاستبداد ولو صدر من أصحابنا ، نقوم بالقسط والعدل ولو ضد أحبابنا أو أقرباءنا .
إن البعض بعقليتهم الجاهلة والمتخلفة يتصورون أنهم يوم يأخذون حقوق الآخرين ، يكسبون حقوقهم ولا يدرون أنهم بهذا السلوك يكونون قد أعطوا المشروعية لغيرهم لأخذ حقوقهم سواء كانت هذه الحقوق مادية أو معنوية .
في موكب الشهود :
الدور الثالث :دور سياسي :
ولا بد من القيام بهذا الدور كشباب لأن المشكل السياسي أهم ، مشكل في الأمة وأهم مشكل في العمل السياسي في عالمنا العربي والإسلامي أن الصراع فوقي ، المجتمعات لا تتصارع كثيرا إلا على السلطة ولهذا ينبغي أن يكون لنا دور في حل المشكل السياسي من خلال إيمان حقيقي بالشورى ، تمارسها ممارسة حقيقية في اجتماعاتنا المصغرة والكبيرة ، نمارسها في اتحاد ونقابة وجمعية ، نمارسها في المجتمع العام كالانتخابات مثلا ، ونقدم فيه النموذج .
وخلاصة هذه الأدوار يختزلها قوله سبحانه وتعالى : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ).
المطلوب منكم اليوم الشهود الحضاري على العالم في الألفية الثالثة ، وهذا يقودنا للحديث عن مظاهر الشهادة وأعتقد أن الوعي أهم مظهر من مظاهر الشهادة وذلك حتى تكون شاهدا على بينه .
إن الشهادة ينبغي أن تكون حقائق نقدمها يمكن أن تكون بالفعل قبل القول ، يقول الله عز وجل ( ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر ) أي بفعلهم هذا شهادة على قولهم .
إذا تكون الشهادة بالقول والفعل والوعي الصحيح بالحوار الهادف والمعارضة البناءة بإنصاف الآخر و الاعتراف به والتعامل معه والشهادة بالعدل عليه .
*عضو الهيئة العليا للتجمع اليمني للإصلاح