كيف تكون رجلًا؟
للأستاذ عبد الوكيل جابر
سبيل المجد اليوم هو العمل المجدي الذي يطغو على الأعمال الأخرى؛ فيبدو ممتازًا بفائدته للمجموع، وثمرته الشاملة للإنسانية...
لقد اقتضت طبيعة الاجتماع أن تكثر المشكلات العامة التي تضل فيها الأحلام، وتتعدد حاجات الأمم تعددًا أذاع التنافس بينها، وكان الظفر لأكثرها تفكيرًا، وأقدرها على تحصيل ما يعوزها من رغبات؛ فليس ينقص طالبَ المجدِ شيءٌ إلا أن يظهر في ميادين العمل العام بما يُعْجِز سواه، أو على الأقل يأتي بعمل الممتازين الذين تعرف لهم الأمم شرف القيام بالأعمال الفذَّة التي لا يستطيع القيام بها السواد والدهماء.
وطريق العمل معبَّد أمام أبناء الإنسانية جميعًا؛ ففي مُكْنَةِ الرجل المغمور المقرف أن يصير ذات يوم علمًا يسير اسمه مسير الشمس والقمر.
وكم أرانا التاريخ أمثلة هي في الواقع تَعِلَةً لمن لم يسعدهم الجد بِنِجَارٍ شامخ، أو عزٍّ قائم.
وما عاب هؤلاء، ولا نقص من قيمة أعمالهم أنها صدرت عن غير معروف، بل العكس كان قيام النكرات بالأعمال الجليلة مثارًا لزيادة إجلالهم في عيون الجماهير.
ولعل منشأَ ذلك قوةُ نفوس هؤلاء، وتمكنهم من التغلب على الصعوبات التي تعترض العاملين وهي كثيرة، وبخاصة من لم يسعده جاهٌ بارعٌ، أو حسب مستطيل.
وفي اعتقادي أن من له مُسْكَةٌ من العقل يستطيع أن يقوم بعمل نافع إذا سلك السبيل القويم، وتوفر على العمل في الدائرة التي يشعر من نفسه بالميل إليها.
ولسنا نزعم أن كل إنسان يقدر على إذاعة اسمه إذاعة عطرية، ولكنا نريد أن نقول: إن كل عاقل يمكنه من عمل شريف يرفع له ذكرًا ولو في دائرته المحدودة، وهذا على أي حال خير من الذكرى الذميمة، أو فقدان الأثر الطيب.
إن الإنسان خلق في هذه الحياة ليكون عاملًا، وقد أعده الله للعمل بما رُكِّب فيه من أدواته وبواعثه، وكلُّ عواطفِ الشهوةِ التي رُكِّبت فيه ليست إلا خادمًا للغرض من الحياة؛ فإذا اشتطَّ الإنسان في استخدام شهوته، وجعل إرضاءها هو كل الغرض من وجوده، فقد ارتكب أشنع خُطةٍ تُلْحقه بعالم الحشرات المؤذية.
إن سبل الذِّكر الذائع أصبحت متعددة لاشتباك المصالح، وكثرةِ المطالب، كما أصبح العمل ميسرًا؛ لانتشار العلم، وتَمكُّنِ الـمـُجِدِّ من الابتداع، وابتكار الجديد.
وإذا حصرنا العمل في دائرة مطالبنا الإسلامية أو الشرقية تبيَّن جليًّا فقرُنا إلى الجد، وتهيؤ الفرص لاكتساب المجد.
ومن دواعي الأسف أن يكون فينا عاملون، ولكن لا توجد روح التعاونالعامة التي يستطاع بها إيجاد الثمرات، التي تنتجها أعمالهم على أحسن وجه.
وكلنا يعرف أن الحياة قصيرة الأجل؛ فليس من الحزم أن يضيعَ المرءُ فتراتِها القصيرةَ فيما لا يجدي، أو يعيش حياتَه الوشيكةَ الزوالِ مغمورًا كسلانًا لا يشعر بوجوده أحد، كأنما هو بعض الأشباح التي يراها النائم، فإذا أفاق من غفوته تبددت من ذاكرته، كما تتبدد الثلوج تشرق عليها الشمس.
وأرى مجد الحياة قريبًا من النفوس القوية المليئة بالجد، البعيدة عن مهازل الدنيا وسفاسفها.
وعلى قدر تَشَبُّع النفس بهذا الخلق يكون مبلغها من الحصول على الشهرة، وبياض السمعة.
وإن الفؤاد ليعنو خشوعًا كلما ذكر واحدًا من أولئك العاملين، فنظر في صفحة حياته مظاهر الحنين إلى المجد تلازمه منذ طفولته.
وأذكر أن عبدالله باشا فكري، كان- وهو طالب الأزهر الصغير- يكتب على سواري المسجد: (عبدالله باشا فكري) فيقرأ إخوانه ذلك هازئين ساخرين، ولكن عبدالله فكري الحديث يقابل سخريتهم هذه برزانة الواثق من نفسه، المتفائل بمستقبله؛ فكان من شأنه بعد ذلك ما يعرفه الناس.
سواء أصحَّ هذا أم لم يصحَّ، فإن الشيء الذي لا شك فيه أنَّ القيام بالعمل الجليل لا يكون إلَّا إذا خامرت النفس فكرة شريفة تلازمها في فجر الحياة.
ومن أجل ذلك جهد المربون في أن يفتحوا مغاليق الأذهان منذ الصغر؛ كي تشعر بمسئوليتها في الوجود، وواجبها الذي يطلب منها للمجموع.
ومن أساليبهم في الوصول إلى هذا الغرض دراسة تاريخ العظماء، وتحليل حياتهم تحليلًا تتجلَّى فيه الأسباب التي أوصلتهم إلى مركزهم الممتاز في هذه الدنيا.
ولعل ذلك من أجدى أنواع التعليم للنشء، وَأعْوَدِه عليهم بالخير، وعلى مقدار اتجاه الناشئ في هذا السبيل يكون مبلغه من النجاح.
ويحضرني في هذا المقام قصة ذلك الأعرابي الذي سأل ابنه فقال: كمن تحبُّ أن تكون؟ فأجاب الغلام بقوله: أحبُّ أن أكون مثلك! فامتعض الأب، وقال: يا بني، إني لم أبلغ ما بلغت إلا بعد أن تمنيت أن أكون مثل علي بن أبي طالب، فإذا كان شأني ما ترى، فكيف يكون حالك إذا تمنيت أن تكون مثلي فحسب؟
يستخلص مما ذكرناه ومما قرره الواقعُ الـمـُحَسُّ أن النجاح في الحياة، والظفر بالذكر المجيد، ونيل المنزلة السابقة بين الناس تتوقف على أمور أهمها:
أ- أن يتناول المرء من المهن أحبها إلى قلبه، وآثرها عند ميوله، فإذا فرض أنه اشتغل بالعلم، فليكن همه متجهًا إلى الفرع الذي يشعر من نفسه بقدرته على إتقانه، والنفاذ في نظرياته.
ب- أن يؤثر الثبات في جميع أدوار حياته، وألا تؤثر في اعتقاده بالنجاح العقبات التي تعترضه؛ فما أتي امرؤ إلا من الجزع يناله عن سعيه إلى غاية.
ج- أن يُوفِّر همَّه على البحث، واستطلاع الآراء التي من شأنها أن تزيده علمًا بمادته، وألَّا يعوقه الكبر وغيره من رذائل الخصال عن استقاء المعلومات من مظانها الصالحة.
د- ألا يكترث بالآراء الزارية ما دام واثقًا من نفسه، معتقدًا بوضوح السبيل الذي يلجه؛ فإنَّ الجديد الصالح يجد أحيانًا معارضين جاهلين أو حاقدين، ولا يثبطن من همته أنه لم يلقَ تشجيعًا أو تقديرًا لأعماله؛ فإنَّ لذلك يومًا لا بد أن يحين.
هـ- أن يتمسك دائمًا بالأخلاق الشخصية الفاضلة؛ فذلك أدعى إلى جمع القلوب حوله، وهذا يمهد الطريق لإذاعة آرائه، ويجعلها بمنجاة من المعارضة والنزاع.
وبعد فتلك آراء نذيعها لأبناء اليوم، وهم رجال الغد، عسى أن يكون فيها قبس ضئيل، إن لم يكن فيها مشكاة واضحة النور.
منقول--