لما عمت المصيبة بقطيعة الأرحام، ووقع فيها كثير من الأنام، واستمرأها فئام وأقوام، وكأنهم لم يفعلوا كبيرة من كبائر الآثام، كان من الأهمية بمكان، بيان أسباب القطيعة بين الأرحام، ليتم تجنبها من ذوي الألباب والأفهام، وهي أسباب كثيرة، من أهمها ما يلي:
1ـ الجهل بشؤم قطيعة الرحم وعقوباتها العاجلة والآجلة.
وقد يكون عالمًا بتحريم القطيعة من حيث الجملة، ولكنه لا يدرك خطورة هذه المعصية، وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة، فيستهين بها، ولا يستعظم فعلها والإصرار عليها.
2ـ الجهل بفضائل صلة الرحم وحسن عاقبتها في الدنيا والآخرة.3ـ الحسد.
ولا أدل على ذلك مما حصل لابني آدم ـ عليه السلام ـ، حيث تحركت عوامل الحسد في نفس قابيل ضد أخيه هابيل، ( فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين ) [المائدة: 30] فحمله الحسد على قطع رحمه، وعقوق والديه، وقتل أقرب الناس إليه، وأولاهم بالشفقة عليه، ودفع الأذية عنه.وهو الذي جعل إخوة يوسف يلقونه في غيابة الجب، ويبيعونه على أنه عبد آبق، ويتهمونه بما هو براء منه، فظلموا أخاهم، وعقوا أباهم، وقطعوا أرحامهم.وكم يحصل بين القرابات من خصومات ومشاحنات، وعداوات ومكايدات بسبب الحسد، وبخاصة لمن تميز منهم بعلم أو مال أو جاه أو قبول عند الناس، فيغيظ ضعاف الإيمان منهم ما يرونه من تميزه عنهم، وتفوقه عليهم، وسعيه لخدمة أهله وقرابته، وامتلاء القلوب بتقديره ومحبته، فيحسدونه على ذلك، ويكيدون له، ويسعون بالإفساد بينه وبين عشيرته، ويشككون في إخلاصه ونصحه.قال أبو الدرداء ـ رضي الله عنه ـ: " مكتوبٌ في التوراة: إن أحسد الناس لعالِمٍ وأبغاهم عليه قرابته وجيرانه ".1
فيحسد الرجل أخاه وابن عمه أكثر مما يحسد الأجانب، ولذلك حسدت قريش النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقالوا كما حكاه الله عنهم: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا} [ص 8]،
وحاربوه ونابذوه العداوة حسدًا وبغيًا، مع أن عزَّه عزٌّ لهم، ولو أسلموا معه لدانت لهم العرب والعجم.ذكر ابن عبد البر أن عبد الله بن عباس ـ رضي الله عنهما ـ كان صديقًا لعمر بن عبد الرحمن بن عوف ـ رضي الله عنهما ـ فلقيه يومًا مغتاظًا، فقال له: ما لك؟ قال: لقيني فلانٌ ـ لرجل من أهله ـ فشتمني وآذاني. فقال له: هوِّن عليك، فما من ضارٍ على طريدةٍ بأسرعَ إليها من ابن عم دَنِيٍّ إلى ابن عم سَرِي، فهوّن عليك.2
وقال رجل لسعيد بن العاص: والله إني لأحبك. فقال له: ولم لا تحبني، ولستَ بجار لي ولا ابن عم.وكان يقال: الحسد في الجيران، والعداوة في الأقارب. 3
وقد سبق الكلام عن الحسد وخطورته وأسبابه ووسائل علاجه والوقاية منه مفصلاً.4ـ الوشاية والإصغاء إليها.فكم تقطعت من أواصر، وتفرقت من قلوب، وتهدمت من بيوت، بسبب المشائين بالنميمة، الساعين بالإفساد بين القرابة، المفرقين بين الأحبة، المتتبعين للعورات، الباغين لأهل البر العثرات. وشر الناس ذو الوجهين: الذي يأتي هذا بوجه، وهذا بوجه، وينقل كلام هذا لذاك على سبيل الإفساد بينهما، وقد يتقوّل على أحدهما ما لم يقل، فيجمع بين النميمة والبهتان.قال يحي بن أبي كثير4
: يُفسد النمام والكذاب في ساعة ما لا يفسد الساحر في سنة.ويقال 5
عمل النمام أضر من عمل الشيطان، لأن عمل الشيطان بالوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة.وقال أبو حامد الغزالي6
" قال الحسن: من نم إليك نم عليك. وهذا إشارة إلى أن النمام ينبغي أن يبغض ولا يوثق بقوله ولا بصداقته. وكيف لا يبغض وهو لا ينفك عن الكذب والغيبة والغدر والخيانة والغل والحسد والنفاق والإفساد بين الناس والخديعة، وهو ممن يسعى في قطع ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. وقال تعالى: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى 42].ولو أن هذا النمام المفسد واجه عاقلاً موفقًا فأسكته وكبّته، ولم يصغ إلى وشايته، لانقطع شره، وبطل كيده.وقد قالت الحكماء7
: قبول السعاية8
شر من السعاية، لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شئ فأخبر به كمن قبله وأجازه، فاتقوا الساعي، فلو كان صادقًا في قوله لكان لئيمًا في صدقه، حيث لم يحفظ الحرمة ولم يستر العورة.ودخل رجل على عمر بن عبد العزيز، فذكر له عن رجل شيئًا، فقال له عمر: إن شئت نظرنا في أمرك، فإن كنت كاذبًا فأنت من أهل هذه الآية {إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات 6]، وإن كنت صادقًا فأنت من أهل هذه الآية [ هماز مشاء بنميم ]، وإن شئت عفونا عنك. فقال: العفو يا أمير المؤمنين، لا أعود إليه أبدًا9
وما أحسن قول الأعشى10
ومن يطع الواشين لا يتركوا له صديقًا وإن كان الحبيب المقربا
وقول سابق البربري11
:إذا الواشي بغى يوماً صديقًا فلا تَدعِ الصديقَ لقولِ واشِ
وقد بين العلماء أن من حملت إليه نميمة، وقيل له: قال فيك فلان كذا أو فعل في حقك كذا، فيلزمه ستة أمور:
الأول:
أن لا يصدقه، لأن النمام فاسق، وهو مردود الشهادة، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[الحجرات 6].
الثاني
: أن ينهاه عن ذلك وينصح له ويقبح عليه فعله، لأن النهي عن المنكر واجب.
الثالث:
أن يبغضه في الله تعالى، فإنه بغيض عند الله، ويجب بغض من يبغضه الله.
الرابع:
أن لا تظن بأخيك الغائب السوء، لقول الله تعالى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات 12].
الخامس:
أن لا يحملك ما حكى لك على التجسس والبحث لتتحقق، امتثالاً لقوله تعالى: {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات 12].
السادس:
أن لا ترضى لنفسك ما نهيت النمام عنه، ولا تحكي نميمته فتقول: فلان قد حكى لي كذا وكذا، فتكون به نمامًا ومغتابًا، وتكون قد أتيت ما عنه نهيت12
5ـ العجب والكبر.
فبعض الناس ـ بسبب رقة دينه، وجهله بحقيقة نفسه، وشدة ضعفه وعجزه ـ إذا نال منصبًا كبيرًا، أو حصل مالاً وفيرًا، أو تميز بجمال ونحوه، داخله العجب والكبر، فاحتقر أقاربه، وترفع عن زيارتهم والتودد إليهم، ورأى أنه صاحب الحق عليهم، وأنه أولى بأن يكرم ويقدم، وأن يزار ويؤتى إليه.13