( ورود النار ) هل هو حتم على المؤمنين ؟
ابراهيم محمود دياب
كان من دأب السلف الصالح قراءة القرآن، وكأنه يتنـزل عليهم؛ فكانوا يقفون عند كل آية من آياته ويتفكرون فيها، فإن كانت آية خوف سألوا الله النجاة والعافية، وإن كانت آية رجاء حمدوا الله على ما أسبغ عليهم من نِعَم ظاهرة وباطنة، وسألوه من فضله ورحمته؛ وهكذا كان حالهم بين الرجاء في رحمة الله، والخوف من عذابه، وهذه المعادلة التي ينبغي على المسلم أن لا ينفك عنها في أحواله كافة .
وقد روي عن بعض السلف، أنه كان إذا قرأ آيات الخوف أو استمع إليها، ارتعدت مفاصله، وغشاه الخوف، وذرفت عيناه بالدموع؛ كما روي عن عبد الله بن رواحة ، أنه كان واضعاً رأسه في حِجر امرأته، فبكى فبكت امرأته، فقال: ما يبكيك ؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله وإن منكم إلا واردها (مريم:71)، فلا أدري أأنجو منها أم لا ؟
وكان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال: يا ليت أمي لم تلدني ! ثم يبكي، فقيل له: ما يبكيك يا أبا ميسرة ؟ قال: أُخبرنا أنا واردوها، ولم نُخبر أنا صادرون عنها؛ وذلك إشارة منه لقول الله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ومن مأثور دعائهم في هذا: اللهم أخرجني من النار سالماً، وأدخلني الجنة غانماً .
وليس الغرض هنا بيان أحوال السلف، وموقفهم من آيات الخوف، وإنما جعلنا ذلك تقدمة للحديث عن قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا فقد يرى البعض أن في هذه الآية معارضة لآيات أخرى، تفيد خلاف ما تفيده هذه الآية .
وذلك أن ظاهر قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا يفيد أنه سبحانه سوف يُدخل النار المؤمن وغير المؤمن؛ لأن قوله تعالى: منكم يعم جميع الناس. لكن في الوقت نفسه، وردت آية أخرى تفيد أن المؤمنين لن يدخلوا النار، وأنه سبحانه سوف يبعدهم عنها، كما في قوله تعالى: إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون (الأنبياء:101). إذن، نحن أمام آيتين ظاهرهما التعارض؛ فكيف السبيل للتوفيق والجمع بينهما ؟
لقد اتفق المفسرون على أن ( المتقين ) لا تنالهم نار جهنم بأذى، ثم هم بعد ذلك اختلفوا في بعض التفاصيل؛ فذهب أكثر المفسرين - وفي مقدمتهم الطبري - إلى أن قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا خطاب عام، يدخل فيه المؤمن وغير المؤمن؛ غير أن القائلين بهذا، اختلفوا في معنى ( الورود ) الذي جاء في الآية على أقوال ثلاثة:
القول الأول: أن المقصود من ( الورود )، هو ( الدخول )، أي دخول جهنم؛ والقائلون بهذا يستدلون لقولهم بالعديد من الآيات التي ورد فيها لفظ ( الورود ) بمعنى ( الدخول )، كقوله تعالى: يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود (هود:98)، وقوله سبحانه: ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا (مريم:86)، وقوله تعالى: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم أنتم لها واردون (الأنبياء:98)، حيث أتى لفظ ( الورود ) فيها بمعنى ( الدخول ) بالاتفاق؛ ولأجل هذا استدل ابن عباس أن ( الورود ) في آية مريم هو ( الدخول )؛ لأن أفضل ما يفسر به القرآن هو القرآن .
فقد ذكر الطبري فيما يرويه عن ابن عباس قوله: وإن منكم إلا واردها ، قال: يدخلها. ومثل ذلك روي عن ابن مسعود ، قوله: وإن منكم إلا واردها ، قال: داخلها .
ويشهد لهذا التفسير للآية، ما حدَّث به جابر بن عبد الله وقد اختلف في مجلسه حول معنى ( الورود )، فمن قائل: لا يدخل النار مؤمن؛ ومن قائل: يدخلها المؤمن وغير المؤمن، فوضع جابر أصبعيه على أذنيه، وقال: (...صُمَّتا ! إن لم أكن سمعت رسول الله يقول: ( الورود ): الدخول؛ لا يبقي بر ولا فاجر إلا دخلها؛ فتكون على المؤمن بردًا وسلامًا، كما كانت على إبراهيم، حتى إن للنار ضجيجًا من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيا. رواه أحمد وغيره، قال ابن كثير : حديث غريب؛ وقال الشنقيطي : إسناده لا يقل عن درجة الحسن .
وروي عن ابن مسعود أنه قال في قوله تعالى: وإن منكم إلا واردها : قال: ( يدخلونها، أو يلجونها، ثم يصدرون منها بأعمالهم )، رواه أحمد .